مرت عشر سنوات كلمح البصر منذ إقصاء جماعة الشر عن أوصال المحبوبة المحروسة إقصاءً مهينًا مُذِلًا لهم، وكريمًا مُعِفًا لكل مصري، مُعيدًا له الحياة من جديد، كانت تلك اللحظات وستظل هي الأغلى على الإطلاق لكل مصري معاصر، قد لا أبالغ إن قلت أغلى من ميلاد الوليد ومن شهادة الشهيد، فما بينهما هو الوطن الأعز والأغلى والأبقى لنا وبيننا جميعًا دون تفريق أو تشتيت.
وأكاد أجزم أن كل من وطأت قدماه أرض شوارع المحروسة متجهًا إلى حيث اللاوجهة رافعًا بيده العلم الغالٍ، ومنددًا بلسانه ضلال ووحشية الجماعة وأعوانها، ومردداً لكل الأغانِ الوطنية المحفزة ما بين قديم وحديث، لم يكن أحدًا منا يعلم ما سيؤول إليه الأمر، أو ما تصبو إليه الأطراف المعنية، أو متى سنعود إلى منازلنا ومعنا وطننا المسلوب؟! وهل سنعود من الأساس أم سنغتال جسديًا كم تم اغتيالنا معنويًا على مدار عامين؟! كلها كانت أسئلة حائرة تدور هائمة وحائرة في عقولنا.
لكنه اليقين، اليقين الذي كان يغلف قلوبنا بالطمأنينة بحسن الظن في الله العدل، وثقة في الجيش المصري الرشيد "السند والظهر لكل مصري" كبيرًا كان أو صغيرًا، كان ذلك اليقين يحدثنا أننا منتصرون بقوة اتحادنا وبطهر سرائرنا ونوايانا العازمة بإصرار على استرداد ما تم سلبه بكل خسة وندالة.
تلك الأيام الأربعة ما بين الثلاثون من يونيو وحتى الثالث من يوليو كانت الجماهير المصرية جميعها في الشارع المصري وفي كل ربوع المحروسة ومحافظاتها، فظللت يوم الثالث من يوليو ماكثة عند شريط مترو النزهة أمام قصر الاتحادية مع عدد من جيراني وأصدقائي نتحدث عن السيناريوهات المتوقعة، أفضلها وأسوأها، ولم يكن في مقدور أحد أن يتوقع السيناريو الأعظم الذي تم تطبيقه بالفعل.
وفي الساعة الثامنة تقريبًا وبعد حلول الظلام، أعلنت القوات المسلحة أن القائد العام للقوات المسلحة سيلقي بيانًا بعد قليل، أظنها لم تكن دقائق بمعيار الساعة الطبيعية لحين صدور الإعلان، فقد مرت كساعات طويلة كانت قلوبنا فيها تدق دق طبول الحرب، كنت أشعر وكأن قلبي خارج جسدي، أو إنها كانت دقات قلبي إلى جانب دقات قلب من جاوروني أيضًا، فالموقف كان جللًا عظيمًا.
حتى أن أطل علينا سيادة المشير بزيه العسكري وإلى يمينه ويساره رجال ورموز الوطن "دون تفريق"، في مشهدٍ أسطوري تاريخي يحاكي المشاهد المنحوتة للحضارات العظيمة، وهنا هدأت النبضات شيئًا فشيئًا وبدأ الجميع يهمس لبعضهم البعض بعد أن يخفتوا من أصواتهم حتى نستطيع تمييز الكلمات الصادرة والصوت المنبعث من فم طليق اللسان عفي الضمير حارس الوطن.
فما أن خرجت منه الكلمات حاسمة ناصرة مثلجة لصدورنا، حتى أن بدأت الجماهير في الصياح والهتاف باسم مصر "تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر"، وبدأنا في احتضان بعضنا البعض دون معرفة مسبقة أو أدنى وعي أو إدراك لمن نقوم باحتضانه، كان الجميع يبكي بحرقة الفرحة المنتظرة التي كانت تبدو وأنها مستحيلة المنال، وكانت الدموع قاسمنا المشترك كبيرًا وشابًا وحتى الصغير منا.
هذه هي الكنانة التي عرفتها وعشت بها وفيها ومنها وإليها كل سنين العمر، هي العفية الأبية العصية على كل ظالم ومستبد ومضلل، الكارهة والطاردة لكل داعٍ للتفريق والعنصرية وقطع أوصال وخلايا الوطن الواحد، الوطن المُكَرّم في كل الكتب السماوية، مهد الحضارة والأديان والإنسانية جمعاء.
عادت مصر، وعاشت حرة مستقلة، يدًا تبينها وما زالت، ويدًا تحمل السلاح وستظل.
الرسالة ممتدة الأثر، والعلم بأيدينا ما حيينا...