السبت 28 سبتمبر 2024

فرص الصحة في الحوار الوطني..!


د. محمد صلاح البدري

مقالات10-7-2023 | 11:27

د. محمد صلاح البدري

لما كانت الصحة من أهم الملفات التى تمس المواطن بشكل مباشر.. كان من الضرورى أن تصبح من أهم القطاعات التى تتم مناقشة مشاكلها ضمن سياق الحوار المطروح حالياً
فى قطاع الصحة يبقى ضمان توافر الخدمة واستدامتها، وارتفاع جودة الخدمة المقدمة، وتخفيف العبء المالى عن المتلقى هى أهم المحاور الاستراتيجية التى تسعى لتحقيقها كل الأنظمة الصحية فى العالم
ينبغي ان نحدد مجموعة من النقاط التي ينبغي ان نلقي الضوء عليها بشكل واضح فى الأنظمة الصحية.. والتي ربما تحتاج إلى أن تتم مناقشتها

 

لا يمكن النظر إلى ما حدث فى افتتاح جلسات الحوار الوطنى إلا أنه حدث غير مسبوق فى تاريخ الممارسة السياسية فى هذا الوطن.. هو حدث يحمل فى طياته العديد من الرسائل.. كما يحمل فى مستقبله الكثير من الأمل فى التوافق على أرضية مشتركة فى ملفات عديدة..!

ولما كانت الصحة من أهم الملفات التى تمس المواطن بشكل مباشر.. ومن أهم الحقوق الاجتماعية التى يكفلها الدستور.. كان من الضرورى أن تصبح من أهم القطاعات التى تتم مناقشة مشاكلها ضمن سياق الحوار المطروح حالياً.. لذا فالاشتراك فى عرض المشكلات واقتراح الحلول بات فرض عين على كل المهتمين بهذا القطاع الحيوى..!

فى قطاع الصحة يبقى ضمان توافر الخدمة واستدامتها، وارتفاع جودة الخدمة المقدمة، وتخفيف العبء المالى عن المتلقى هى أهم المحاور الاستراتيجية التى تسعى لتحقيقها كل الأنظمة الصحية فى العالم.. تلك المحاور التى تستلزم العديد من الإجراءات لتحقيقها بشكل سليم..!

وإذا كنا نتحدث اليوم عن الأنظمة الصحية في القطاعات المختلفة العام والخاص.. وعن نظام التأمين الصحي الشامل الجديد.. فينبغي أن نحدد مجموعة من النقاط التي ينبغي أن نلقي الضوء عليها بشكل واضح.. والتي ربما تحتاج إلى أن تتم مناقشتها وطرح التحديات التي تواجهها على طاولة المناقشة للوصول إلى حلول واضحة وعلى أسس سليمة.

١- القطاع الحكومي في الرعاية الصحية..

يبقى القطاع الحكومي (وزارة الصحة والتعليم العالي)  هو الركيزة الأساسية للنظام الصحي ككل.. ليس لأنه الأفضل فقط.. ولكن لأنه يمتلك النسبة الأكبر في عدد المنشآت الصحية والعمالة البشرية حتى هذه اللحظة بكل تأكيد..

يعاني القطاع العام الطبي منذ فترة طويلة أنه "منخفض السعة" بالمقارنة بعدد السكان أو بالراغبين في الاستفادة منه.. وهو أمر تتم معالجته حالياً بما يتم من منشآت تتبع التأمين الصحي الشامل.

كم يعاني القطاع في الفترة الأخيرة من نقص التمويل بالرغم من زيادة مخصصات الصحة في الموازنة.. ولكنها زيادة لا يمكنها مواجهة ارتفاع أسعار المستلزمات والأدوية والزيادة السكانية.. ليبقى الإنفاق أقل من المطلوب.

كما يعاني القطاع أيضاً من تسرب العمالة البشرية من العمل داخله.. بسبب ضعف المقابل المادي وسوء بيئة العمل..

المقترحات:

وضع خطة عاجلة للحفاظ على الأطباء داخل وزارة الصحة والتعليم العالي عن طريق منح امتيازات عينية ووضع نظام محدد للتعليم الطبي المستمر.

خلق آلية واضحة لتنظيم منح الخدمة في هذا القطاع بشكل خاص.. وليكن عن طريق توزيع جغرافي للمواطنين على المستشفيات العامة والجامعية طبقاً لبيانات محل الإقامة في الرقم القومي.. مع ضبط سبل الإحالة من مستوى إلى آخر وذلك لحين تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل بشكل كامل. 

٢- القطاع الخاص الطبي..

التحدي الأكبر الذي يواجه كل المهتمين برسم السياسات الصحية في العالم عبر كل العصور هي فكرة حساب التكلفة للخدمات المقدمة للمريض.. والتي أعتقد أنه قد حان الوقت أن يتم تصحيح بعض المفاهيم المتعلقة بها.. والتي ينبغي أن تشمل بجانب حساب الأدوية والمستهلكات حساب الأجور العادلة للفريق الطبي.. والربحية إذا كانت الخدمة تقدم من القطاع الخاص..!

إشكالية كبيرة يقع فيها كل من يحاول أن يفتح هذا الملف الشائك.. فالرعاية الصحية حق يكفله الدستور وتلزمه الإنسانية نفسها.. والحصول عليها ينبغي أن يخرج من معايير السوق التنافسية في العرض والطلب.. ليظهر مفهوم "الإتاحة" التي لا ينبغي أن ترتبط بما يمتلكه المريض أو ما يتمكن من الحصول عليه بماله الخاص!!

وللمهتمين بلغة الأرقام أود الإشارة إلى أن القطاع الخاص الطبي أصبح يستحوذ على٧٣٪ تقريباً من المستشفيات والمراكز الطبية الموجودة بالقاهرة.. كما أنه يتركز جغرافياً في العاصمة بنسبة تقارب الـ٨٠٪.. بالإضافة إلى تجارب قليلة في بعض المدن القريبة منها والتي ترتبط بالعاصمة بشكل مباشر..!

هذا الانتشار الغريب على معظم مخططي السياسات الصحية في العالم كله أدى إلى اتساع الفجوة بين الإتاحة والاحتياج.. وأبرز مفهوماً جديداً لا ينبغي أن يستمر كثيراً في مجتمع كمجتمعنا وهو مفهوم "تسليع" الصحة.. بمعنى أن يتم تحويلها إلى سلعة تخضع لقواعد العرض والطلب.. وتلغي فكرة التنافس في جودة الخدمة ليتحول الأمر إلى فكرة الحصول على أكبر ربح ممكن من كل مريض.. وهو أمر لا يمكن قبوله.. فضلاً عن أنه قد أصبح غير قابل للاستمرار طويلاً دون تشوهات مجتمعية في منتهى الخطورة.. فلا يوجد مجتمع سوي يربط خدماته الصحية بقدرة المريض على تسديد قيمة الخدمة!

في عالم اﻻستثمار يظل مجال الرعاية الصحية يحتاج إلى كثير من التوضيح.. فالاستثمار في الصحة لا يمكن إطلاقه دون ضوابط حاكمة للجميع.. أهمها ضمان الاستمرارية والجودة والأمان.. وهي أمور تلتبس على كثيرين ممن يروجون لفكرة وجود فجوات تمويلية في الخدمات الصحية ينبغي أن يتم تعويضها بدخول القطاع الخاص بأي شكل..!

 الاستثمار في المجال الصحي يهدف إلى توفير الخدمة بأجر محمل بالربح، ولكنه لا بنبغي أن يخضع لقواعد العرض والطلب كباقي الأنشطة..!

ومما سبق تبدو مشكلات القطاع الخاص تتمثل في عدم وجود آليات حاكمة للربح وضمان الإتاحة.. مع سوء توزيع الخدمات جغرافياً في القطر المصري..!

الاقتراحات :

خلق تشريع يحدد نسب الربح في القطاع الخاص ووضعه تحت رقابة ضريبية صارمة.. مع وجود آلية لضمان استمرارية الخدمة حال رغبة المستثمر في الانسحاب (قانون الطوارئ الطبية) وكما حدث من تأجير للأَسرة من القطاع الخاص لهيئة الـ NHS في بريطانيا وقت أزمة كوفيد.

تشريع أو قرار تنفيذي لإعادة توزيع الخدمات الصحية الخاصة جغرافياً.. فلا يمكن الترخيص بمركز آشعة مثلاً إلا في مناطق بعينها لديها نقص في عدد المراكز.. أو لا يتم منح مستشفى ترخيص إلا في المحافظات التي تعاني من عجز في عدد الأَسرة.. وهو أمر يمكن بسهولة تنفيذه من خلال وزارة الصحة..!

 ٣- التأمين الصحي الشامل..

 لا شك أنه فى نظام التأمين الصحى الشامل الجديد تحرص هيئة الرعاية الصحية على تلك المحاور السابق ذكرها في المقدمة.. وتسعى إلى تحقيقها بأفضل طريقة ممكنة.. ولكن تبقى بعض المشاكل التي ينبغي الإشارة إليها مثل:

مشكلة دمج العمالة غير الرسمية فى النظام تعد من المشاكل العصية على الحل.. تلك المشكلة التى أعتقد أن هيئة الرعاية الصحية وحدها لن تتمكن من حلها مطلقاً..! المشروع يعد أحد المشروعات القومية التى تحتاج لتضافر جهود الحكومة مجتمعة.. لا أجد دوراً حتى الآن لوزارة التضامن أو وزارة المالية فى توسيع دائرة الاشتراك فى التأمين من غير ذوى الوظائف الثابتة.. لم أجد تخطيطاً لتصل الخدمة للجميع فى المحافظات التى بدأت فى تنفيذ المشروع حتى الآن..!

لم يتم عمل مراجعة اكتوارية للنظام ككل حتى الآن منذ أن بدأ التنفيذ في ٢٠١٩.. بالرغم من تضاعف أسعار المستهلكات في ظل الأزمة الاقتصادية وانخفاض قيمة العملة. (وإذا كانت قد تمت فلم يتم الإعلان عنها).. فكيف نضمن استدامة الخدمة في الفترة المقبلة دون هذه المراجعة؟!

لا توجد رؤية لدمج القطاع الخاص بشكل منظم داخل منظومة التأمين الصحي الشامل حتى الآن.. هيئة الرعاية الصحية تعمل بصفتها مقدم للخدمة وليست منظم لتقديمها.. أين ستكون المستشفيات الخاصة والمراكز الطبية في المنظومة؟..

المقترحات:

إشراك وزارة التضامن الاجتماعي بشكل فعال في لجنة وزارية خاصة تعمل على حصر العمالة غير المنتظمة في المحافظات التي تم تطبيق النظام فيها بالفعل ودمجها داخل المنظومة بالية واضحة.

المراجعة الاكتوارية تصبح عملية منتظمة داخل المنظومة وتتم كل عام من خلال وزارة الصحة والتخطيط مجتمعين.. على أن يتم سد الفجوات التمويلية أولاً بأول دون الانتظار لظهور عجز.

منح صلاحيات أكبر للهيئة العامة للرعاية الصحية لإشراك القطاع الخاص بلائحة واضحة.. مع طرح مناقصات للاشتراك في المنظومة للوصول إلى أقل هامش ربح للهيئة.

٤- الخدمات الصحية التي قدمت بشكل رأسي في الفترة الماضية مثل المبادرات الرئاسية.

نظراً لما حققته من نجاح في الفترة الماضية.. ينبغي البحث عن وسيلة لاستدامتها وجعلها عملية منتظمة تغطي شرائح مرضية محددة.. كما ينبغي العمل على سرعة الاستفادة من قاعدة البيانات التي خلقتها بإتاحتها للجامعات والمراكز البحثية المختلفة.

كلها أسئلة واقتراحات تحتاج إجابات وحلول.. نرجو أن يثمرها هذا الحوار غير المسبوق في تاريخ الوطن.. أو هكذا أتمنى..