الثلاثاء 28 مايو 2024

لم يكنْ في ظلامي قمر..!

مقالات12-7-2023 | 15:17

منذ أن هتف الشاعر الجاهلي الحكيم "زهير بن أبي سلمى" ببيته الشهير (سـَئِمْـتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِـشُ ** ثَمَانِيـنَ حَوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْأَمِ) متحدثاً عن تجربته الشاقة في دروب الحياة معترفاً بشديد مَلَله من مشاقها وشدائدها ، مستثقلاً خطى ثمانين سنةً عاشها طولاً وعرضاً ..!! لقد ملَّ الكِبَر لا محالة، وهذي أمارات الشيخوخة بوَهَنها قد ألقتْ بظلالها على كل ما تقع عليه عيناه؛ ليصير هذا البيت ببساطته وعمقه مرآةً صادقةً يرى فيها كبار السن رجالاً ونساءً حصاد الخطى؛ إذْ أنهم استهلكوا أيامَهم فى رحلةٍ لم يظفروا فيها بكل متمنَّاهم، ولم يصلوا إلى حواف الكثير من أحلامهم البسيطة، أجلْ .. لم يبق لهم سوى الإقلال من استرجاع الذكريات والامتناع عن النظر فيما فات؛ كيما تستريح الأقدام المكدودة وتهدأ الأعصاب المشدودة..!                                                                                   

ليستكمل الشاعر العَلَمُ "أبو العلاء المعريّ" ملامح هذه الصورة القاتمة لتجربة الحياة؛ إذْ كان ذا نفسٍٍ قلقةٍ ومزاجٍٍ سوداويٍّ، وقد وجد في أحداث حياته بمآسيها ما جعله يُبدع في إبراز قتامة تجربة الحياة؛ لقد أُصيب بالجدري في طفولته مما تسبَّب في فقده بصره في فترةٍ وجيزةٍ، وابْتُلي باليتْم حيث مات أبوه ثم ماتت أمه بعد سنتين من رحيل أبيه، فرثاها بقصيدةٍ تفيض لوعةً وحزنًا، يقول فيها: (لا باركَ اللهُ في الدنيا إذا انقطعتْ * * أسبابُ دنياكِ من أسبابِ دنيانا).

 إن "أبا العلاء المعريَّ"-بعزلته وقلقه وخوفه- قد جار على نفسه فوق جوْر الحياة، فألزم نفسه قيودًا لا يحتملها إنسانٌ، لقد حكم على نفسه أن يبقى في أربعة سجونٍ : العمى والبيت والجسد واللزوميات!! ولم يكْتفِ بعزلته فقط عن الناس والمجتمع ؛ وإنما أرادها في الآخرة فتمنَّى ألا يشهد الحشرَ في الناس، فيقول:(فيا ليتني لا أشهدُ الحشرَ فيهم * *إذا بُعثوا شُعثًا رؤوسهم غُبرَا) ..!! ويطلب أن يُدفن بموضعٍ لم يحفر فيه قبرٌ لأحد وكأنه يريد أن يرفع فوق قبره راية الاعتزال النوعي الذي ألزم نفسه به أو الحرمان الطوعي، مثلما يقول طه حسين: "لم يدع لنفسه شهوةً إلا أذلَّها ولا عاطفةً إلا أخضعها لسلطان العقل".
لقد ارتكز "المعريُّ" على الأوصاف المعنوية مثل الحزن والألم والسخط والقلق من الحياة والإنسان والنسل والمرأة ، وكأنّ تفاصيل حياته بمرِّها جعلت الخوف والقلق دارجًا على لسانه فسطّر قسوة الحياة وقلقه من خلال قصائده ، ربما لم يملك عينين ليبكي ابتلاءاته ..!! ربما تحجَّرتْ آلامه في الأحداق فأخذ يبكيهما في شعره ..!!، لقد امتلك قاموس الوحدة والعزلة وأَلِف كل مفرداتها وتحدّث عنها، فلم يتزوج ودعا الشباب ألّا يتزوجوا وإن تزوجوا فلتكن المرأة العقيم ، وعدَّ النسل ذنبًا لا يغتفر، لقد عاش سَاخطاً على الدنيا إذْ يراها أفرغت الشر على كل ما فيها سواء أكان إنسانا أم حيوانا..!!  فيقول:(قد فاضت الدنيا بأدناسها**على براياها وأجناسها)؛ ليأتي "المعري" ملخِّصاً حال الحياة في بيتين : (تعبٌ كلها الحياة فما أعجب إلا من راغبٍ في ازديادِ) (إنّ حزناً في ساعة الموت أضعاف سرورٍ في ساعة الميلادِ)..!       

ورغم ما يراه "محمود درويش" من أسباب انعدام استمتاعه بالحياة لاكتمال مظاهر النقصان، وتلذُّذِها بعجْز الشاعر عن استيعاب أسرارها، إلا أنه يطالبها بإبطاء خطاها مثلما تفعل الأنثي الواثقة بسحرها وكيدها ..! إنه الضعف الذكوري المعترف بنزوله حلبة الصراع دونما درعٍ يحميه أو سلاحٍ يُشهِره فيقول: (سيري ببطءٍ يا حياةُ لكي أَراك بكامل النقصان حولي, كم نسيتك في خضمّك باحثًا عني وعنكِ , وكلما أدركتُ سراً منكِ قلتِ بقسوةٍ : ما أجهلكْ..!
لنصل إلى محطتنا الأخيرة المعتادة وهي مقطع من قصيدة (من حقكم أن تبكوا) للشاعر النيجيري "جون بيير كلارك"؛ حيث يشيع استهوال أحداث الحياة التي لا تترك مجالا لمتفائل ..!! إن البكاء ساعة الميلاد كاشفٌ ما بعده ..!! فإلى (من حقكم أن تبكوا) والنيجيري "جون بيير كلارك": 
 يا أهلي! لا تغالوا في المغامرة
فقد تجدون أنفسكم مسجونين داخل اللغز الذي سعيتم لكشفه...!                                                                                                                                            

حسبكم الآن أن تعرفوا أن كل يوم نعيشه
يعلمنا لماذا بكينا ساعة الميلاد ..!