الأحد 5 مايو 2024

ولهذا سامحناه

مقالات14-7-2023 | 14:05

أخذتني ذاكرتي إلى موقف كان يتكرر مرة كل عام ، حكاية مليئة بالعديد من المفاجآت والمفارقات الغريبة ، كلنا نعرف مدى اشتياق أهل الريف إلى زيارة مدينة القاهرة أو مصر المحروسة كما كانوا يطلقون عليها في الماضي ، يتوقون لمشاهدة معالمها وشوارعها الواسعة يحلمون بزيارة أولياء الله الصالحين من أهل بيت النبوة رضي الله عنهم جميعًا ، يسعون لنيل هذا الشرف العظيم ويعدون لهذا الحدث من قبله بعدة شهور  .

 

في فصل الشتاء وبالتحديد في إجازة نصف العام الدراسي وفي فجر أحد الأيام سمعنا طرقًا على باب بيت العائلة القريب من حي القلعة ، كانت شقتنا بالدور الأرضي ولهذا فإن صوت الطرق على الباب الرئيسي للمنزل كان يوقظنا على الفور ، فتحت أمي عينيها وقالت : " يا ترى مين اللي بيخبط على الباب بدري كده " انزعجت قليلًا لأننا في إجازة من المدارس ولذلك فهى تريد الاستمتاع بنوم هادئ تقتص فيه لنفسها من تعب وإرهاق أيام الدراسة التي مرت عليها وعلينا .

 

قامت أمي بفتح الشباك قليلًا ثم سألت بكلمة واحدة: "مين" رد عليها أحدهم بانفعال وبلهجة صعيدية بحتة: " احنا جايين لكم من البلد ما انتوا عارفين احنا شيعنا لكم جواب من كام يوم" فقامت جدتي التي تسكن معنا في الدور الأرضي بالذهاب نحو الباب لتفتحه لهم بعد أن تعرفت على أصواتهم ، فقد كانت عادتها أن تصلي الفجر في موعده ثم تجلس لتختم صلاتها بالتسبيح والتهليل والتكبير، سبقت خطواتها خطوات أمي التي ذهبت لتوقظ أبي كي يقوم بفتح الباب لأقاربه القادمين من الصعيد .

 

كانت الزيارات في الماضي لا يخطط لها جيدًا ، فوسائل الاتصال بين المحافظات كانت أغلبها تتم بإرسال خطابات في البريد وهذا لم يكن حلًا دقيقًا للغاية فكانت الخطابات غالبًا ما تصل متأخرة عن موعدها ، قامت جدتي باستقبالهم بحفاوة بالغة ومد أحدهم يده ليفتح الباب على مصراعيه ليتمكن كل منهم من إدخال "الزيارة" كما كانوا يطلقون عليها ولمن لا يعرف هذه الكلمة من الجيل الجديد الزيارة عبارة عن هدايا يأتي بها الأهل والضيوف مما يزرعونه من حبوب أو خضر أو فاكهة وتمر، كما تشتمل على الزبد والجبن والفطائر والطيور  .

 

تتعالى الأصوات ويستيقظ الصغار قبل الكبار، فنحن كنا نسعد بلقائهم وحديثهم معنا بتلك اللهجة التي كنا نستغربها ولا نفهم بعض كلماتها إلا بعد العودة إلى جدتي التي كانت في الماضي تعيش هناك مثلهم وكأنها بالنسبة لنا كانت معجمًا يفسر لنا ما يقف أمامنا من معاني مفردات صعبة، كنا نتعجب من جدتي وهى تحدثهم بنفس لهجتم ونظل قابعين أمامها نراقبها بدقة وكأنها قد اعتلت مسرحًا لتؤدي دورًا جديدًا علينا فنحن كنا كل جمهورها .

 

كان أحدهم ابن أخيها والآخر ابن عمها وكان معهما هذه المرة رجل ثالث يعمل معهما في أرضهما ولكنه كان مقربًا منهما لذلك اصطحباه في رحلتهما ، كانت النساء في البيت يتفقن على استضافة هؤلاء الأقارب بشكل دوري بحيث يستقبلهم كل عم من أعمامي مرة ليتناولوا فيها طعام أهل البندر بحسب قولهم ، يبدأ جدول الزيارة في التطبيق منذ اليوم التالي لوصولهم بالاستيقاظ مبكرًا لزيارة المساجد والأضرحة ، وعند عودتهم كانوا يتعجبون منا فهم كانوا يظنون أننا نزور المساجد بانتظام بشكل يومي أو شبه يومي ، فهم يشبهون زيارتها بزيارة بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف .

 

وفي إحدى الليالي كنا نجلس معهم ونلتف حول الموقد الذي كان يقوم جدي بإعداده للتدفئة ويضعه في الغرفة الكبيرة وتبدأ السهرة مع الأقارب الذين لا نعرف عنهم الكثير ، كانت جدتي تتحدث عن صعوبة الحياة في المجتمع الريفي خاصة للمرأة فهى تساعد الرجل أكثر من أي أحد ولهذا فهى فضلت الإقامة في القاهرة بعد أن غادرت أسيوط في سن صغيرة عقب زواجها من جدي ، وبكل غلظة قاطعها الرجل الذي يعمل مع أقاربها في زراعة الأرض وهو يقسم بيمين الله أن جاموسته عنده أعز وأغلى عليه من زوجته. 

 

نشبت في ثوان شرارة الثورة النسائية وكدنا نحضر روح قاسم بك أمين الذي دعا لتحرير المرأة كي يهدر دم هذا الرجل الظالم في حكمه وتشبيهه ، ولولا أنه قادم من أقصى الجنوب لقامت جدتي بطرده بعد أن اشتبكت معه وانضمت إليها أمي وزوجات أعمامي وعلى الرغم من صغر سني وقتها إلا أنني شعرت بكراهية عظيمة نحو هذا الرجل ذو القلب الغليظ بسبب حديثه عن المرأة بصورة تعكس عدم تقديره لها .

 

اعتذر الرجلان عما بدر من الصديق الذي جاء معهما وكاد أن يشعل النار بين الجميع بسبب  جملته البلهاء تلك، تمر بعدها الأيام والأعوام وتبقى جملة هذا الرجل حاضرة نسترجعها بين الحين والآخر فنزداد سخطًا عليه، وفي إحدى المرات علمنا أنه قد توفى بسبب تلك الجاموسة التي كاد أن يقدسها فهو كان لا ينام إلا بالقرب منها ، غادر الحياة عندما لفت الحبل الذي كان في عنقها حول رقبته بإحكام حتى فارق الحياة ، عندها فقط أدركنا أن جهله هو الذي دفع به لاستخدام تعبير غير مناسب وجعله يعقد مقارنة جاءت في غير محلها ، ولهذا التمسنا له العذر وسامحناه .