بعد ٥ يونيه من العام ١٩٦٧ حدث لقاء بين رجلين.. الأول هو خالد العرب جمال عبدالناصر والثانى ساخر الأمة محمود السعدنى كان بينهما أشياء غريبة عجيبة تفرق ولا تجمع.. ففى العام الذى شهد تصويت مجالس النواب على اتفاقية الوحدة.. كان السعدنى فى سوريا، حيث عاش بين السوريين شهرين كاملين والتقى هناك بكل أطياف اللون السياسى وعشق على وجه خاص أحد الكبار فى القيادة السورية السيد أكرم الحورانى، وهو الاسم الذى أصر السعدنى على أن يطلقه على شخصى الضعيف، وفى سوريا أيضا كان هناك السيد خالد بكراشى وأعضاء من الحزب الشيوعى العراقى يعيشون فى سوريا ويعارضون الوحدة مع مصر عبدالناصر، وكان السعدنى مسئول الصفحة العربية فى جريدة الجمهورية ومندوبها لدى سوريا، وقد أدرك بعض المعارضين لناصر أن السعدنى مسئول كبير فى بلاده، وإلا كيف بلغ هذه المكانة السامية فى الجريدة التى أنشأتها الثورة وتسمت باسمها «الجمهورية» وظن البعض أن السعدنى يعمل فى جهاز خطير من أجهزة الدولة الحساسة، وعلى هذا الأساس قررت الأحزاب الشيوعية العراقية والسورية أن يكون السعدنى هو الوسيلة الأفضل لتوصيل رأيها فى خطاب مطول إلى الزعيم الخالد جمال عبدالناصر.. وبالفعل طلبوا من السعدنى أن يحمل الخطاب معه إلى مصر ويسلمه إلى جمال عبدالناصر، ولكن السعدنى قال.. أحمل الخطاب إلى مصر أى نعم.. ولكن أسلمه إلى جمال عبدالناصر هذا أمر غير وارد على الإطلاق واقترح عليهم السعدنى أن يسلموا الخطاب إلى أحد المسئولين فى السفارة المصرية، وهنا قالوا فى سرهم إنه يحاول أن يظهر بمظهر المتواضع الغلبان لينفى عن نفسه المكانة الخطيرة التى يشغلها، وهكذا حمل السعدنى الخطاب وبمجرد أن هبط مطار القاهرة اتجه إلى صديق العمر أحمد طوغان وفاتحه فى أمر الخطاب فقال له أحمد طوغان..: أحرق الجواب يا سعدنى ويا دار ما دخلك شر.. وقال السعدنى لطوغان أنت مجنون.. أحرق جوابا لجمال عبدالناصر.. واتجه السعدنى فى اليوم التالى إلى جريدة الجمهورية وسلم الخطاب إلى القائم مقام المسئول الأكبر من جريدة الجمهورية وهو الرئيس أنور السادات بعد ذلك.. واتصل السادات بالرئاسة وجاء رجل تسلم من السادات الخطاب وما هى إلا أسابيع قليلة وكان السعدنى ضمن قوافل المعتقلين بعد أن تبين أن الخطاب ما هو إلا تهديد صريح بقتل جمال عبدالناصر، ولو تجرأ واتخذ أى إجراءات عنيفة بحق الشيوعيين المصريين، وفى المعتقل ذاق السعدنى كل أنواع العذاب مع عباقرة وأفذاذ العصر صلاح حافظ وأحمد رشدى صالح وألفريد فرج ولويس عوض وعبدالستار الطويلة وحسن فؤاد، وكان الجميع قد تعرضوا لضرب غرائب الإبل فى معتقل الواحات، وبعد أن أمضى البعض عامين كاملين والبعض الآخر عشرة أعوام كاملة مثل العم والكاتب الكبير صلاح حافظ.. خرج الكل من هذا المكان، وقد أدهشهم توجه ناصر نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وتأميم الصراع الطبقى وإقامة ألف مصنع وتوزيع الأرض على المعدمين من فلاحى مصر الذين كانوا طوال التاريخ مجرد عمال، أحيانا بالسخرة وأحيانا بأجر لا يساوى فيه العمل الشاق الذى يقومون به واتجه ناصر إلى خارج حدود الوطن ليحى مشروع القومية العربية وتخرج بلادنا بأسرها تستقبله كما حدث فى الغالية العزيزة سوريا عندما حملت الجماهير سيارته فوق الأعناق وحددت هى مسيرته وليست أى جهة أخرى.. كانت توجهات ناصر وسياسة ناصر وشخصية ناصر تجبرك على أن تتحول إلى أحد عشاقه وإلى زمرة مريديه وإلى دائرة دراويشه، وبدأ السعدنى يكتب فى مجلة روز اليوسف مع إحسان عبدالقدوس واختطف الإذاعة السعدنى لجميل أسلوبه وبساطته ووصوله إلى الجميع إلى المثقف وإلى المتعلم وإلى الجاهل، ومع أحداث نفس الأثر من البهجة والمتعة لدى الجميع.
وكتب السعدنى مسلسل «الجدعان» الذى انتقد بطريقة ساخرة الانتخابات المحلية التى تشهدها البلاد، والتى تكون نتائجها معروفة ومحسومة بفضل التزوير والمحسوبية «وشيلنى واشيلك» و»نفع واستنفع» واستمع ناصر إلى طلقات الجدعان وطالب بتصحيح الأمور.
ولكن مع الأسف لم يستطع ناصر ولا من جاءوا من بعده أن يصححوا أوضاع المحليات فى بلادنا.. المهم أن ناصر استمع أيضاً إلى مسلسل «الشيخ لعبوط يتلعبط»، والذى انتقد فيه السعدنى سلوك مشايخ النفط الذين أخذوا الثروة القادمة من الأرض العربية وأغرقوها فى أرض الأغراب.. وعندما وقعت نكسة ١٩٦٧.. كان على الرئيس جمال عبدالناصر أن يعيد ترتيب الأوراق كاملة.. بدأ أولاً بالقوات المسلحة ثم اتجه إلى بقية مناحى الدولة المصرية، وقابل الرئيس الخالد ناصر الصحفى الذى أسعده وجذبه من أذنه وعقلة وقلبه السعدنى وأمتعة وأضحكه على سلبيات شهدها عصر ناصر، وكان اللقاء عجيباً.. لم يسفر عن شىء على الإطلاق.. كانت الصورة أعجب.. فالسعدنى الذى أضحك الطوب والصخر والجماد بدا جاداً.. حاد الملامح.. سارحاً بنظراته فى عيون الزعيم، دون أن يرسم على وجهه أى تعبير وكأنه يقف أمام رسام طلب منه عدم الحركة وعدم الكلام وعدم التنفس.
أما ناصر فيبدو على وجهه ملامح ابتسامة، وقد حكى السعدنى لشخصى الضعيف عن تلك اللحظات التى نظر فيها إلى عيون جمال عبدالناصر.. قال لى.. فى شعاع خارج من عينه لما تبص له تلاقى نفسك مش قادر تكمل.. وبعد اللقاء بعامين كاملين ذهب ناصر إلى لقاء ربه وكان السعدنى بصحبة المعلم والفنان محمد رضا فى لندن يستعد لكتابة مسلسل كوميدى لهذه الإذاعة البريطانية تلبية لطلب رئيسها فى ذلك الوقت الأستاذ أحمد البدينى، ولكن المشروع انتهى برحيل ناصر، وكان على السعدنى أن يعود على أول طائرة إلى مصر.
وبعد ذلك بسنوات وفى العام ١٩٧٧ قابلنا الراحل الكبير أحمد بهاء الدين فى الكويت، وكان السادات قد ذهب إلى القدس واختار الأستاذ بهاء لتكون مقره بعد أن اختلف مع الرئيس، وفى اختيار الكويت بالتحديد أصاب الأستاذ بهاء كثيراً.. فالكويت دولة لا تعلن العداء مع أحد وهى تحفظ شعرة معاوية مع الجميع إذا شدوها أرختها وإذا أرخوها شدتها.
فلا تنقطع أبداً.. وهكذا أراد الأستاذ بهاء ألا يغضب الرئيس السادات وقد عرض عليه كبار المسئولين فى العراق الإقامة فى أفخم القصور مع توفير حراسة خاصة وسيارات رئاسية... ولكن الأستاذ رفض ذلك كله بأدب شديد، وفى الكويت وفى ديوانية أحمد الجار الله الصحفى الكويتى العاشق لمصر عبدالناصر بنفس حبه وعشقه لمصر السادات ونفس انتمائه إلى مصر مبارك.. كان هناك لقاء باح فيه العم أحمد بهاء الدين بأسباب اللقاء مع ناصر.. ورأى السادات فى السعدنى.