الأربعاء 1 مايو 2024

البابا شنودة الثالث في حوارٍ نادر لـ«المصور»: إذا تحول حوار الأديان لصراع فمن الأفضل أن يتوقف

البابا شنودة الثالث

كنوزنا3-8-2023 | 17:27

بيمن خليل

تحتفل اليوم الكنيسة القبطية والشعب المصري مسلمين ومسيحيين، بمئوية البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر، فهو البابا رقم 117 في تاريخ باباوات الكنيسة المصرية الأرثوذكسية، حيث ولد في 3 أغسطس 1923م، وكان أسقفا للتعليم قبل أن يصبح بطريركا.

 

عرف البابا شنودة الثالث، بحكمته الكبيرة وذكائه الحاد، وحبه الشديد لوطنه، ومواقفه الوطنية العظيمة، وحبه لأبناء شعبه، المسلمين منهم قبل المسيحيين، فكان أب لكل المصريين، كان الكل يحبه وهو يحب الكل.

 

وقد نشرت مجلة المصور في عددها الصادر يوم 8 يناير من عام 1988م، حوارًا نادرًا للبابا شنودة أجرته معه الصحفيتان - سناء السعيد ومنى الملاخ -، وسوف نعيد لقراء - بوابة دار الهلال - نشر بعض من أجزائه، حتى يستفيد الناس من قيمة وثراء هذا الحوار الشيق الملئ بروح المحبة والحكمة والعظة والتعليم.

 

وفي حوارٍ ملئ بالحكمة وفي ظلها.. تحدث البابا قداسة البابا شنودة الثالث عن قضايا كثيرة تمس العصر وكل عصر، ومنها: «أساليب النقد والحكمة»، «والتطرف وأسبابه»، كما تطرق إلى الحديث في قضية مهمة، وهي «الحوار بين العقائد والتطرف والتعصب والعزلة.. بين أبناء الوطن الواحد».

 

 

أسأليب النقد والحكمة

 

*قداسة البابا كيف يمكننا مجابهة ظاهرة الاجتراء على القيم والمبادئ والأشخاص ونحن نعيش في مجتمع سقطت فيه الحواجز ولم يعد هناك ما يسمى بالهيبة أو القانون؟

**إنني أتساءل هل نحن حقًا في مجتمع بهذه الصورة التي تصورينها؟ على أية حال أتكلم من الناحية الموضوعية وليس من ناحية الواقع الذي تلمسينه بطريقة ما.. وأقول القيم من المفروض أن تُغرس في الإنسان من سن الطفولة فإذا لم توجد تربية دينية وروحية سليمة.. وإذا لم توجد تربية اجتماعية منذ الصغر يُمكن أن يشب الفتى أو يدخل في طور الشباب والرجولة وقد سقطت عنه بعض القيم أو لم توجد قيم أصلا لكي تسقط.. فالقيم يأخذها الإنسان من مصادر متعددة، وفي رأيي أن المصدر الأول هو الأسرة والثاني هو المدرسة والثالث هو المجتمع المحيط به والرابع هو الإعلام والقراءة بوجه عام من الكتب التي تترك تأثيرها في ثقافة الناس فينشأ الإنسان متشبعًا بأفكار معينة، وواجبنا أن نراعي هذه القيم وهذه المبادئ وتكون أعيننا مفتوحة على ما يحيط المجتمع من أساليب لأن هذا الجيل هو أمانة في أعناقنا أمام الله وأمام الوطن وأمام الجميع.

 

*الاجتراء على الحاكم صار مشروعا وعلى القديس والقائد.. وظهرت صورة قبيحة مشوهة مغلوطة لحمتها تسفيه الآخرين وأفكارهم، بغض النظر عن النتائج؟

**في الحقيقة ينبغي أن يفهم الناس ما معنى الديمقراطية.. الديمقراطية أن يشارك الكل في الرأي ويمكن أن ينتقدوا أي أمر من الأمور انتقادًا موضوعيًا سليمًا يهدف إلى حفظ كيان المجتمع.. غير أن البعض يفهمون الديمقراطية فهمًا خاطئًا، ويفهمون إبداء الرأي بأسلوب قد تكون الوسيلة فيه وسيلة خاطئة، فيمكن للإنسان أن يبدي رأيه، وهذا لا يمنع من أن يحترم الرأي الآخر المعارض، ويمكن أن ينتقد تصرفًا من الحاكم دون أن يهين الحاكم أو يشوه سمعته، ويمكن أن يقدم انتقاده في هيئة سؤال على إعتبار أن الحاكم يعيش في أفق أوسع ولديه من المعلومات الشيء الكثير الذي لا يتوافر للشخص العادي وربما يكون النقد في غير موضعه، فإذا قد السؤال يكون أفضل، وإذا قُدم بطريقة موضوعية يكون هذا أفضل، وإذا قُدم بأسلوب فيه الأدب واللياقة والاحترام يأتي بنتيجة أفضل مما إذا قُدم بطريقة هجومية أو عنيفة أو تحمل الإهانة والتجريح، فالديمقراطية لا تعني الإهانة والتجريح وإنما تعني المشاركة في الرأي بأسلوب لائق.

 

*إذا نظرنا إلى الإنسان الحكيم فإن هناك فجوة بين المواصفات التي يتمتع بها وتلك التي يتصف بها الآخرون.. ما السبيل إلى الإقناع؟

**الحكيم ليس هو الشخص الواسع المعلومات والكثير الخبرة فقط.. ولكنه أيضًا هو الإنسان الذي يعرف كيف يتصرف ويتعامل ويسلك بحكمة مع جميع الناس، وهذا يقتضي أيضًا أن نخاطب كل إنسان بما يناسبه أو على حسب فهمه وإدراكه.. فالحكيم لا يتكلم بعقلية الفيلسوف مع شخص عامي أو بسيط أو طفل أو غيره.. إنما يتحدث مع كلّ بالطريقة يفهمها ويدركها وإلا لا يكون حكيما.. واتذكر في هذه المناسبة أن بعض الحكماء كانوا يظنون أن العظمة أن يكون مستواهم أعلى من الآخرين وأن يقولوا ما لا يستطيع الآخرون فهمه بسرعة.. من أمثلة ذلك أبو تمام.. جاءه شخص في إحدى المرات قائلًا: لماذا لا تقول ما يُفهم. فقال له ولما لا تفهم ما يقال؟!

 

*هذه تؤكد الفجوة.. فكل متشبث بما لديه؟

** ولهذا لم يكن الشاعر حكيمًا في إجابته، لأن الشخص الذي لا يفهمه إلا قلة من الصفوة أفكاره لا تنتشر وشعبيته لا تتسع فهو إنسان يظن أنه يبني نفسه وذاته عن طريق العظمة والعلو لكنه لا يبنى المجتمع الذي يحيط به بالنزول إلى مستواه، ونحن نعرف أن الله غير محدود في علمه ومعرفته ومع ذلك فهو يخاطب جهلنا بالطريقة التي نستطيع بها أن نفهم.. لهذا يشترط أن أيضًا في الحكيم أن يكون متواضعًا فلربما يكون في قمة العلم ومع ذلك يتكلم بأسلوب السهل الممتنع.

 

التطرف وأسبابه؟

 

*التخبط في المجتمع وظواهر التطرف والسلوكيات المستهجنة هل يمكن أن نرجعها إلى الحكمة التي تعوز المجتمع؟

** التطرف سببه أن يضع الشخص أمامة إتجاها واحدًا لا يقبل باقي الاتجاهات فيندفع وراء هذا الاتجاه في غير حكمة وبسرعة بعيدًا عن التروي والفحص والتحقق من الأمور ومعرفة الآراء الأخرى فيتطرف.. بمعنى أنه يأخذ طرفًا واحدًا من الموضوع ويترك باقي الأطراف، إنما الحكيم من يلم بجميع أطراف الموضوع وينظر نظرة شاملة ويدرس الموضوع من كافة نواحيه وهذا لا يمكن أن يكون متطرفًا لان التطرف أيضًا ينقصه الفهم السليم والإنسان الحكيم والإنسان الذكي لا يسلك بفهم سقيم إنما يدقق في الفهم ويدرس الموضوع من جميع أطرافه، وربما يصبح الإنسان متطرفًا إذا اهتم في موضوع ما بالسبب وحده ولم يهتم بالنتيجة ولا بردود الفعل ولا بتأثيرها على الآخرين ولا بما يتولد عنها من أخطاء.. ولذلك يكون التطرف فيه قصورا في الفكر وقصورا في الفهم وعدم رغبة في دراسة الرأي الآخر وإغلاق العقل تماما في دائرة ضيقة.

 

الحوار بين الأديان

*الحوار والإقناع والإقتناع تقودنا إلى عقبة الحوار بين الأديان.. وأتساءل عل يمكن تزليلها عن طريق الحكمة؟

**يمكن الحوار إذا وجدت الحكمة والتفاهم  وإذا لم يتضايق الشخص بأراء غيره ولا يظن أن فكر غيره هو هجوم عليه أو بتر لأفكاره.. وهنا يوجد التفاهم والاستعداد لقبول الرأي الآخر وتفهمه.. فمن بين الجسور التي توصل بين العقول الرغبة في التفاهم.. والفهم أن يفهم المرء غيره، ولكن التفاهم معناه الفهم المتبادل.. أنا أفهم غيري وأُفهِّم غير ما أويد.

 

*ولكن قد تصبح العملية معقدة بين الطرفين في عملية الجذب والأخذ في التفاهم وذلك إذا احسّ أحدهما أن الآخر سيتغلب عليه أو يسحب البساط منه؟

**إذا كان الحوار المقصود به هو التفاهم فسيجري الحوار في جو سلس مفعم بالمحبة.. أما إذا تحول إلى صراع فمن الأفضل أن يتوقف لأنه حينئذ لن يوصل إلى النتيجة المرجوة.. فليس المقصود بالحوار أن يتخاصم الناس أو يتصارعون وإنما المقصود به أن يتواصلوا ويتوصلوا إلى فهم مشترك أو على الأقل أن يقنع أحدهما الآخر أو يتفهم رأيه حتى وإن لم يقتنع فالحوار الحكيم هو الحوار الذي يؤدي إلى نتيجة طيبة.

 

*في ظل حوار الأديان في ظل ما أوردتموه من أن الصمت أبلغ من الكلام ومن أن المحك الرئيسي في العملية هو النتائج؟

**نعم النتائج والمقاصد

*ولكن النتائج أحيانا تأتي بعفوية تلقائية دون سابق معرفة.. أي دون أن يعرف المرء ما الذي يمكن أن تقود إليه؟

**الإنسان الحكيم يمكن أن يستنتج النتائج التي يتوقعها، فيستطيع أن يستنتج هل الشخص الذي يقف أمامه يريد بالفعل أن يفهم أم أن له قصدًا آخر.. فإذا كان القصد هو الفهم والروح الطيبة، وإذا كان الحوار يوحي بهذه الروح ويؤكدها فتستمر.. والإنسان الحكيم إذا تكلم يحاول أن يتفهم خطوات الحوار خطوة خطوة.. فإذا وجد أن الجو سيتحول إلى إثارة أو قلق أو أن الأعصاب بدأت تشتعل وأن الفهم بدأ يخطئ فما عليه إلا أن يغير مجرى الحديث لأنه ليس المهم لدينا أن نكسب الحوار ولكن المهم أن نكسب ما نتحاور معه، فالشخص الذي يكسب المناقشة دون أن يكسب الأشخاص الذين يناقشهم يكون قد خسر خسارة ليست بالقليلة.

والكتاب المقدس يقول: «رابح النفوس حكيم»، فالشخص الحكيم لا يضع أمامه أبدًا أن يكسب المناقشة لو خسر الناس.. وإنما يحاول أن يكسب الإثنين، فإذا كان الناس غير مستعدين الآن فربما يكونون مستعدين بعد حين.. وهنا يؤجل الموضوع، وهناك من لديه روح المرح والدعابة، فإذا وجد أن الجو سيتأزم سارع فرطّبه لكي لا يشتعل، فالحكيم يعرف أن النار لا تطفئها النار وإنما تطفئها الماء، فإذا وجد أمامه نارًا لا يزيدها اشتعالا وإنما يحاول أن يطفئها بكلمة طيبة أو بمناقشة.

 

*الحوار بين الأديان.. كنتم قد أكدتم من خلال حوار للمصور معكم منذ عدة أشهر ترحيبكم بالتحاور مع الأخوة المسلمين.. وأتساءل هل حدث بالفعل حوار بينكم وبين شيوخ الإسلام؟

**الدعوة وحدها لا تكفي وإنما لابد من أن توجد استجابة لها، نحن مستعدون لأي حوار بيننا وبين أخواتنا المسلمين، لكني أرى حاليًا أن أي حوار في العقائد لا يأتي بنتيجة وليس من الصالح، إنما يمكن أن يوجد حوار من نوع آخر حول كيف يسلك الناس في تعايش سلمي؟ وكيف يعيش الناس في جو من المحبة والألفة؟ وكيف يمكن أن يتعاونوا في العمل على أرض مشتركة وفي موضوعات لا خلاف فيها وفي أغراض متحدة؟ وكيف يمكن أن يكون الجميع أخوة متضامنين يعطون صورة مثالية.. أحيانًا ما يتخاصم البعض دون أن يعرفوا بعضهم بعضًا، فإذا تعارفوا اتفقوا وأدركوا أن أسباب التخاصم  لا وجود لها.

 

*إذن ستظل العقيدة دائمًا وأبدًا محورًا يُنظر له على أنه (تابو) لا يمكن الاقتراب منه؟

**نفس آيات القرآن تقول: «لكم دينكم ولي دين»، إذن على كلٍّ أن يسلك في دينه.. إنما المهم في الدين المعاملة، وأن يتعامل الناس بمحبة، فالشخص الذي يتعامل بمحبة يعطي فكرة طيبة عن سلوكه في دينه.

 

*هل هناك أرضية مشتركة للتعايش بين الأديان أيا كانت هذه الأديان؟

**طبعا.. على الأقل الفضائل التي يؤمن بها الجميع والقيم الروحية والسلوك الطيب، كلها أمور تتفق الأديان فيها، فهذه أرض مشتركة يمكن أن يتعاملوا فيها وبها.

*هناك مناظرات بين الأديان.. شاهدنا نماذج منها أخيرًا وعزاها البعض إلى أن اليهود هم الذين روجوا لها للإيقاع بين المسلمين والمسيحيين.. ما رأيكم؟

**لا أستطيع أن ألقي بمسئولية على أحد إلا إذا تحققنا.. وليست لدينا وسائل التحقق في هذه الموضوعات، ولكن حتى ولو كان اليهود يدفعون المسيحيين والمسلمين إلى التخاصم فواجب كليهما ألا يستجيب إلى هذه الدعوة أيا كانت الدوافع الخارجية، فالمفروض أن الدافع الداخلي من الحب والتعاون والثقة والمعيشة المشتركة تكون غير قابلة لأي دوافع خارجية.

 

*القيد الحتمي أمام علاقة مثمرة ووثيقة بين الأديان بعضها وبعض قد يكمن في التعصب، فإذا رُفع التعصب انتهى كل شيء وتعايش الجميع في سلام وإخاء؟

 **التمسك بالدين فضيلة ولكن التعصب رذيلة، فالإنسان المتدين المتمسك بدينه يحترمه ويحبه الجميع، أما المتعصب فهو لا يتمسك فقط بالدين وإنما يكره غيره ويهاجمه ويقاومه ويفقد المحبة بينه وبينه، وهذه أمور الدين نفسه لا يوافق عليها.

*كيف يمكن تذويب التعصب؟ كيف يمكن معالجته عند طرف مقابل لأي دين؟

**أول كل شيء عدم مقابلة التعصب بتعصب وإلا كان معناه معالجة الخطأ بخطأ.. فالنار كما قلت لا تطفئها نار وإنما الماء، وأنا أثق في أن المحبة تغلب.. فحتى إذا قوبل إنسان بعداوة وقابلها بمحبة فإن المحبة تنتصر على العداوة، فالمحبة دائمًا تبني والعداوة  والكراهية دائمًا تهدم.. والذي يبني يصعد إلى أعلى أما الهادم فينزل إلى أسفل.. فنحن نريد معالجة التعصب بالفهم السليم والتوعية على مستوى المجتمع كله، وأيضًا باللقاءات المستمرة لأنها توطد الصداقة والمودة والعمل المشترك وفي كل هذا زوال للتعصب، فالتعصب يكون مبنيًا على الكراهية وهو ما لا يوافق عليه أي دين، لك أن القلب المملوء بالمحبة لا تسكنه كراهية ولا تعشش فيه التناقضات.

*لكن الإنسان ضعيف بطبعه ولذا قد يغويه الخطأ ويغريه التردي فيه والتعايش معه؟

**لا نحب الخطأ، ولكننا نحب المخطئين ونحاول أن نخرجهم من خطئهم بالحب وليس بالكراهية، فالأم لا تكره ابنها إذا أخطأ وإنما تحبه وتحاول أن تقومه .. هناك قواعد ثابتة للتعامل توافقت عليها جميع الأديان والمذاهب ومن ضمنها المحبة والسلام والهدوء والتفاهم والحوار.

*إذن فيما لو التقى علماء الأديان ما القضية الملحة التي يمكن لها أن يتناقشوا فيها بعيدًا عن نقطة العقيدة؟

**هنا موضوعات لا تحصى من ضمنها التعاون على سلامة المجتمع، وهذه تشمل عناصر متعددة جدا.. منها معالجة الأخطاء الاجتماعية، الاشتراك في القضايا الوطنية المشتركة، تقديم مفاهيم سليمة للحرية لأن البعض يستخدمها بفهم خاطئ، معالجة العنف عند البعض، مسالة المحبة للجميع وعدم حصرها في دائرة ضيقة لأن الإنسان في المحبة قد يبدأ بذاته ثم إذا أراد أن يكون إنسانا اجتماعيا خرج من ذاته ليلتقي بالمجتمع فيحب أسرته ثم أقاربه وجيرانه والمجتمع الذي يعيش فيه ثم الوطن كله ثم يحب الآخرين حتى إن اختلفوا معه في الرأي من كل هذه المذاهب والأديان، يحب الإنسانية عمومًا فإذا وصل الإنسان في محبته إلى الإنسانية جملة يكون قد وصل إلى إحدى قمم المحبة، فهو يحب جميع الكائنات، حتى أنه يشفق على الحيوانات ويحب الطبيعة التي تحيط به والأرض التي تعيش فيها، أما قمة القمم فهي محبة الله.

Dr.Randa
Dr.Radwa