حملت الثقافة المصرية بدايات القرن العشرين زخمًا كبيرًا بين المثقفين ومعاركِهم الأدبية والفكرية، والتي كانت أشبه بمعركة حقيقية بها فائز وخاسر، مثال معارك مدرسة الديون مع الإحيائيين، أو الحداثة والتراث، أو الأصالة والمعاصرة، كل هذه الثنائيات أفرزت للعقلية العربية فكرًا نقديـًا جدليـًا قائم تحت لواء المنطق.
وظهر رجل في ثقافتنا كان في حدِّ ذاته تمردًا على كل شيء، لم يدع أحدًا إلا ووجه له سهام النقد، وإن وصلت هذه السهام إلى حد الإهانة، ولم تسلم المنشآت العلمية كذلك فلقد انتقص من مدرسة دار العلوم، واعتبرها لا تحسن صنعـًا ولا تدرس علمـًا، هذا الرجل هو الدكتور ذكي مبارك، والذي يعد وجوده في ثقافتنا المصرية والعربية علامة مميزة لكل الراغبين في دراسة الأدب والنقد.
ولد زكي مبارك في 5 أغسطس1892 في قرية سنتريس بمحافظة المنوفية، لأسرة ميسورة الحال، حفظ القرآن في الكتاب مما أهله أن يلتحق بالأزهر، وحصله على الشهادة الأهلية منه عام 1916، التحق بالجامعة المصرية -جامعة القاهرة حاليًا- وتخرج في كلية الآداب عام 1921، وحاز منها على الدكتوراه عام 1924، عن رسالته «الأخلاق عند الغزالي».
يحمل مبارك دبلوم الدراسات العُليا في الأدب عام 1931 من مدرسة اللغات الشرقية بباريس، ودكتوراه في الأدب من جامعة السوربون عن رسالته "النثر الفني في القرن الرابع الهجري"، ونال كذلك الدكتوراه في الأدب مرة أخرى من الجامعة المصرية سنة 1937 عن كتابه الذي طُبع فيما بعد باسم «التصوف الإسلامي»، ولكونه حاملًا لثلاث رسائل دكتوراه، لُقِب بالدكاترة زكي مبارك.
تتلمذ مبارك، على يد الشيخ حسين المرصفي أحد أبرز المجددين في مجال الدراسات الأدبية واللغوية، ودرس كذلك على يد الدكتور طه حسين، وإن كان يجاهره بالنقد أحيانـًا ويختلف معه في أكثر من جزئية، فحينما كان طالبـًا في كلية الآداب، وقف زكي مبارك محاججـًا طه حسين بقوله: «لا تتعالموا علينا ففي وسعنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين»، في المُقابل وصفه طه حسين بأنه: «الرجل الذي لا يخطو إلى كلمة إلا احتال على رأسه عفريت».
شارك زكي مبارك في ثورة 1919، واعتقل على إثرها حتى أفرج عنه بعد تعهُد بعد الاشتغال بالعمل السياسي.
عمل بالصحافة لعدَّة أعوام، فكتب في جريدة البلاغ وغيرها من الصحف، ما يقرب من الألف مقال، وتم انتدابه للعمل في مدرسة دار العلمين العُليا بالمملكة العراقية آنذاك، بالرغم من حسن المعاملة التي تلقاها مبارك من العراقيين وتكريمهم له فيما بعد، فقد حزَّ في نفسه التهميش، حتى قال: «إن راتبي في وزارة المعارف ضئيل، وأنا أكمله بالمكافأة التي آخذها من البلاغ أجرًا على مقالات لا يُكتب مثلها كاتب ولو غمس يديه في الحبر الأسود… إن بني آدم خائنون تؤلف خمسة وأربعين كتابًا منها اثنان بالفرنسية وتنشر ألف مقالة في البلاغ وتصير دكاترة ومع هذا تبقي مفتشًا بوزارة المعارف».
عُرف عن زكي مبارك تمرده الشديد على رموز الساحة الثقافية آنذاك أمثال: «العقاد، وعبدالقادر المازني، وطه حسين» وغيرهم، مما أدى إلى تهميشه وإقصائه بعيدًا عن الساحة الثقافية، ويرجع بعض النقاد ذلك إلى فظاظة مبارك في التعامل مع مخالفه والحدة التي تصل حدَّ الإهانة أحيانًا، بالإضافة إلى غروره واعتزازه الزائد بنفسه.
سافر مبارك إلى العراق مجددًا عام 1947، ومُنِح هناك «وِسام الرافدين»، وقد ألَّف طَوال مسيرته الأدبية 45 كتابـًا ما بين الأدب والفكر والفلسفة، وكتابان ترجمهما عن الفرنسية.
ومن أبرز أعماله: «رواية ليلى المريضة في العراق، كتاب الأخلاق عند الغزالي، كتاب الأسمار والأحاديث، الكتاب الشعري مدامع العشاق، كتاب وحي بغداد».
توفي زكي مبارك يوم 23 من يناير عام 1952 عن عمر ناهز 60 عامًا، بعد أن قضى ليلة كاملة فاقدًا الوعي إثر سقوطه مغشيـًا عليه في شارع عماد الدين، مصابًا إصابة بالغة في رأسه، أدت إلى وفاته في النهاية.