السبت 4 مايو 2024

رفاعة الطهطاوى والعقل العربى


أيمن سلامة

مقالات10-8-2023 | 18:12

أيمن سلامة
  • رغم الدور العظيم الذى قام به رفاعة الطهطاوى فى تحرير العقل العربى الذى ظل سجين الجمود والثبات لقرون عدة، إلا أنه لم ينل ما يستحقه إعلامياً وفنياً
  • ألا يستحق رفاعة الطهطاوى أن يجسد في السينما المصرية كأول عالم أزهرى مستنير دعا إلى حوار الحضارات لا إلى صراع الحضارات ؟

أجزم أن غالبية الناس – إلا من رحم ربى – لا يعرفون شيئاً عن رفاعة الطهطاوى سوى اسمه الذى تسمت به بعض الشوارع والمدارس فى وطنى، وربما يعرفه العامة من خلال السياق التهكمى الذى جاء على لسان شخصية "بهجت الأباصيرى" فى مسرحية "مدرسة المشاغبين" للمؤلف على سالم والمخرج جلال الشرقاوى والتى جسدها الفنان عادل إمام وفى أحد المشاهد يردد "هى دى بقت مدارس، فين مدارس زمان، وفين رجالة زمان .. رفاعة الطهطاوى .. الله يرحمك يا طهطاوى .. رفاعة الطهطاوى وقاسم أمين وعلى مبارك وزكى جمعة .. مين زكى جمعة ده ؟"

ورغم الدور العظيم الذى قام به رفاعة الطهطاوى فى تحرير العقل العربى الذى ظل سجين الجمود والثبات لقرون عدة، إلا أنه لم ينل ما يستحقه إعلامياً وفنياً ، فهذا الرجل الذى ولد فى أقصى الصعيد، وتحديداً فى مدينة طهطا بمحافظة سوهاج وكان ذلك فى منتصف شهر أكتوبر 1801 عاش حياة عاصفة ومليئة بالتقلبات التى تفتح شهية كتاب الدراما، فنحن أمام شخصية ثرية، مرت بصراعات وتحولات بدأت بدراسته العلوم الدينية التي تخصص فيها حتى صار استاذاً بالأزهر وهو لم يزل فى العشرين من عمره، وحين قرر محمد على والى مصر إرسال بعثة إلى فرنسا لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة كان رفاعة فى الرابعة والعشرين من عمره وتم اختياره لا ليكون عضواً فيها ولكن ليصبح واعظاً وإماماً لأعضاء البعثة، فالمجتمع المصرى – آنذاك – كان يرى الغرب شيطاناً رجيماً، وكان التعليم يقتصر على العلوم الشرعية فقط، وكنا ندين بالولاء للخليفة العثمانى القاطن بالأستانة وندعو له وراء الأئمة فى صلاة الجمعة بطول العمر وموفور الصحة، ولم تكن أوروبا بالنسبة لنا إلا ديار كفر وعهر وفساد وفجور، فلما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر اكتشفنا الفجوة الكبرى التى بيننا وبينهم، فقد جاءوا بالمطبعة وبالمدفع وبالأطباء وبالمترجمين وبعلماء الآثار والزراعة وبالمستكشفين، فانتبه "محمد على" إلى خطورة ما نحن فيه ، وأدرك أننا بحاجة إلى نقل علوم الغرب والاستفادة منها إذا كانت لدينا رغبة فى التقدم والتطور، ولهذا فقد وافق على إرسال البعثة التعليمية الأولى إلى فرنسا، ولكن هل كان من السهل وقتها إقناع الناس فى مصر بسفر أبناءهم إلى بلاد الفرنجة ؟.. الواقع أن الأمر لم يكن سهلاً على الإطلاق ، فالثابت والراسخ فى عقول المصريين – آنذاك – أن بلاد الفرنجة هى بلاد الكفر والملاحدة ولذا فكر "محمد على" فى طمأنة الناس بإرسال أحد شيوخ الأزهر ليكون برفقة أعضاء البعثة، وأوكل إليه مهمة تذكيرهم بأمور دينهم وآخرتهم وهو إمامهم فى الصلوات وعليه أن يرسل تقريراً إلى ديوان الوالى فى مصر عن سلوك أعضاء البعثة ، وهل هناك من حاد عن الطريق المستقيم وأغرته باريس – بلد الملائكة والجن – على حد قول عميد الأدب العربى "طه حسين" فى روايته الخالدة "أديب"، أم انهم حافظوا على صلواتهم ونالوا العلوم التى سافروا من أجلها ؟

 ووقع الاختيار على رفاعة رافع الملقب بالطهطاوى نظراً لبلدته الأم، ليكون هو الإمام والواعظ للرحلة مع اثنين آخرين من علماء الأزهر، وكان رفاعة قد سمع عن العلوم الغربية من شيخه "حسن العطار" والذى كان قد اقترب من علماء الحملة الفرنسية وتعامل معهم، وراح يحدث تلاميذه ومن بينهم رفاعة عن التقدم العلمى الذى حققته دول الغرب، ولذا فإن رفاعة كان يتطلع بشغف إلى معرفة ودراسة هذه العلوم، وهذا ماجعله  يقرر ألا تمنعه مهمته الرسمية التى سافر من أجلها عما يسعى إليه من حب المعرفة والاطلاع على ما وصل إليه الغرب.

وبمجرد وصول السفينة التى تقل أعضاء البعثة إلى باريس اتفق رفاعة مع أحد الفرنسيين أن يعلمه اللغة، ووفر مالا من مكافآة البعثة التي يتقاضاها كى يدفع لمعلمه الفرنسى أجره .. وخلال أشهر قليلة أظهر نبوغاً استحق الثناء من العالم الفرنسى "جومار" الذى عهد إليه محمد على بالإشراف العلمى على البعثة، وبدأ الطهطاوى فى ترجمة بعض كتب الهندسة والطب والجغرافيا، كما وضع كتابه الأشهر "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" وفيه يصف الحياة اليومية والغرائب التى شاهدها فى باريس وينتهى إلى أنه من باب أولى أن تكون هذه الأخلاق وهذا التطور الإنسانى والعلمى فى بلاد الإسلام ، ولما عاد الطهطاوى إلى مصر بعد ما يقرب من خمس سنوات عمل كمترجم فى مدرسة الطب ثم نقل للعمل فى مدرسة "الطوبجية" أى المدفعية فقام بترجمة كتب العلوم العسكرية، ولكنه ومنذ عودته من الخارج وهو يحمل فى صدره حلماً بإنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات، وبالفعل تقدم الطهطاوى إلى الوالى محمد على باشا باقتراح تأسيس مدرسة الألسن، فوافق الوالى وكلفه بإدارتها، فكان الطهطاوى هو أول نظارها .. وحين أفتتحت للمرة الأولى سنة 1835 ميلادية كانت تضم أقساماً لتعليم الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والتركية والفارسية، وقام الطهطاوى باختيار الكتب التى ترجمها طلاب المدرسة، والتى عرفتنا كمصريين بالفنون والآداب والعلوم الغربية، وظلت المدرسة منارة للمعرفة وبابا نطل منه على الحضارة الغربية حتى جاء عباس الأول فقرر إغلاقها ونقل رفاعة إلى السودان، ولكن بعد مقتل عباس في قصره ببنها وتولى سعيد أمور الحكم عاد الطهطاوى مرة أخرى وتولى نظارة المدرسة الحربية، وفى عهد إسماعيل أنشأ قلم الترجمة وقام بترجمة القوانين الفرنسية، ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال، فقد كتب عليه أن تكون حياته كموج البحر ما بين لحظة هدوء واستقرار وما بين لحظة ثورة وغضب، وبغض النظر عن سيرته وما عانى منه طوال حياته إلا أن الرجل سيظل بحق هو أول من قام بعملية جراحية فى عقل المواطن المصرى الذى كان رافضاً للحضارة الغربية ومعادياً لها ولعلومها، فاستطاع الطهطاوى أن يؤهل العقل المصرى ومن ثم العربى إلى ضرورة تقبل الأخر والاستفادة من التطور الفائق الذى وصل إليه ،واستطاع الطهطاوى أن يجمع بين الحداثة والأصالة، فهو لم يدر ظهره للتراث العربى وما نتج عنه ولا عن العلوم الشرعية أو مقاصد الدين، وكان جل أمله أن تصبح الأمة الإسلامية فى مصاف الدول الأوروبية التى قفزت بالبشرية بعيدا، وكنا وقتها لم نزل فى القرن التاسع عشر، وقد حارب الطهطاوى من اجل ذلك، وبذل جهدا كبيرا في ترجمة عشرات الكتب الأوربية المنوعة والتى غيرت تفكير أبناء هذا الوطن ..

ومن المستحيل أن يسقط اسم الطهطاوى من تاريخ الفكر العربى فالرجل يعد أول رواد الفكر التنويرى فى مصر ، ولكن من المؤسف أنه لم ينل حقه فنياً ، فالشخصية الدرامية الثرية لم يتم تجسيدها إلا في عدد محدود من الأعمال الفنية، منها المسلسل  التليفزيونى الذى تم انتاجه في عام 1987 بعنوان رفاعة الطهطاوى وهو من تأليف حسن محسب ومحمد أبوالخير وبطولة شكرى سرحان وسمير البنا وهدى رمزى ومن إخراج نور الدمرداش، وهو المسلسل التليفزيونى الوحيد الذى تناول سيرة الطهطاوى كاملة، كما جسد الفنان حمدى غيث شخصيته فى مسلسل بوابة الحلوانى للمؤلف الراحل محفوظ عبدالرحمن والمخرج الراحل إبراهيم الصحن ، وفى عام 2015 قدم المخرج المسرحى القدير عصام السيد مسرحية "وبحلم يا مصر" من تأليف نعمان عاشور وفيها جسد الفنان على الحجار شخصية رفاعة الطهطاوى، ولكن هل يكفى ذلك ؟ هل يستحق الرجل الذى أشعل النور لنسير خلفه أن تجسد سيرته فى مسلسل تليفزيونى يتيم ومسرحية واحدة أو أن يذكر بشكل عابر في مسلسل يتحدث عن الخديوى إسماعيل .. بينما توقفت الدراما عند جبابرة وقتلة وقدمتهم فى أعمال شتى ؟.. ألا يستحق رفاعة الطهطاوى أن يجسد في السينما المصرية كأول عالم أزهرى مستنير دعى الى حوار الحضارات لا الى صراع الحضارات ؟ .. سؤال يحتاج الى جواب من صناع الفن ..

Dr.Randa
Dr.Radwa