الثلاثاء 21 مايو 2024

مغالطات محمود شاكر وغيره في حق رائد التنوير

رائد التنوير

أخبار10-8-2023 | 18:31

صالح السهيل

● دعوى محمود شاكر وقطب وغيرهما تشويهٌ وتعميةٌ عمّا دعا إليه الطهطاوي بحقّ، وهو تعليم المرأة والنهوض بها من واقع الجهل والتخلف
● لابد من الالتفات إلى أن محاولات التشويه والإسقاط واغتيال الشخصيات الوطنية قد شاعت في العقود الماضية، ولا خلاص من ذلك إلا بإحباط تلك المحاولات بالبرهان الصريح
● أدركت الأجيال اللاحقة من المقلدين أهمية الطهطاوي، ودوره العظيم الذي ناء بمثله الرجال أولوا القوة، فشرعوا يوجهون له التهم المسقطة له
لا تخفى مكانة رفاعة الطهطاوي على كل من أحاط خبراً بمسيرة التجديد والتحديث مذ بدأت في مصر، فإن الناظر في مؤلفات الرجل ومترجماته ليجزم أنه كان مجدداً استثنائيا، شعلةً ملتهبة من الغيرة على الأمة والعمل لأجل رفعتها وانتشالها من وهدتها التي طالت قروناً في وادٍ سحيق.
فهذا الرجل العصامي قدم من الصعيد إلى الأزهر، فعبّ ونهل من علومه، ولكن نفسه كانت طلعة، تبحث عن كل جديد ومفيد، فما لبثت أن وجدت طلبتها في الشيخ حسن العطار، الذي توسم فيه مخايل الذكاء، ورشحه للخروج إلى فرنسا ضمن إحدى البعثات العلمية التي كان يرسلها محمد علي باشا، وبذلك تغيّر مسار حياته كلها، ونتج رفاعة الطهطاوي الذي عرفناه.
فمن إتقان اللغة الفرنسية، إلى الشروع بترجمة كتب العلوم المختلفة البعيدة عن تخصصه الشرعي، كالجغرافيا والتاريخ والقانون والطب والميثولوجيا، ومروراً بتأسيس مدرسة الألسن في القاهرة، وتخريج عدد وافر من الطلبة المؤهلين، إلى تحرير جريدة الوقائع وجريدة (روضة المدارس)، وانتهاءً بتأليف الكتب الفريدة في أبوابها.
لم يتعرض الطهطاوي في حياته إلى هجمات المقلدين، وإسقاطهم، ولعل ذلك لأنه نأى بنفسه عن مناطق نفوذهم، ولم يطالب بالتدخل في شؤونهم، بل اختطّ لنفسه طريقاً لا يتقاطع مع اهتماماتهم، فلم ينله ما سينال الشيخ محمد عبده ومن جاء على نفس مدرسته.
إلا أن الأجيال اللاحقة من المقلدين أدركت أهمية الطهطاوي، ودوره العظيم الذي ناء بمثله الرجال أولوا القوة، فشرعوا يوجهون له التهم المسقطة له على الصعيد الديني والأخلاقي والمهني.
أما الاتهام على الصعيد الديني، فهو من أكثر الاتهامات شيوعا، ويتلخص في أن الطهطاوي لما جاء إلى فرنسا، حدثت له (حالة انبهار) بالغرب، وافتتان به، وذلك حين (أشهده) المستشرقون روائعَ المحافل التي تتألق تحت أنوارها مفاتن (النساء الكاسيات العاريات)، على حدّ زعم محمود شاكر.
والذي لمّح إليه شاكر صرح به محمد قطب، فزعم جهلا أن الطهطاوي أزال عن مراقصة النساء وصمة الدنس في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)!
والحقيقة أنني لم أجد -في حدود علمي- من تناول هذه الدعوى بأسلوب علمي، بالرغم من كثرة تناقلها بين الكاتبين كأنها عقد انفرطت حباته، والحاجة ماسّة إلى بيان حقيقتها دون ميل إلى الطهطاوي أو تحامل عليه. 
فأقول: إن الرجلين، ومن تبعهما، قد غفلوا عن أن الطهطاوي دخل إلى فرنسا مسلحاً بالعلم واليقين الجازم بصحة دينه وعقيدته متمسكا بمصريته وقوميته، وأنه أمضى قبل ذلك سنين عدداً جالساً بين أيدي العلماء في أروقة الأزهر، وأما كتاب (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) فقد كتبه الطهطاوي بناءً على طلب شيخه حسن العطار منه أن يدوّن مشاهداته في باريس، فهو مندرج إذن في العموم تحت (فن الرحلات)، التي يذكر فيها المؤلف مشاهداته، دون أن يعني ذلك إقراره لتلك المشاهدات.
ثم إن في تلك الدعوى غفلةً عن منهج الطهطاوي الذي صرح به في مقدمة كتابه، ولطالما كانت الغفلة عن منهج المؤلف ومقصده من الكتاب مطيةً لسوء الفهم والظن معاً حين يقتطع نُتفاً من هنا، ونُتفاً من هناك!
فقد أوضح  الطهطاوي في مقدمة كتابه أن ما يذكره في الكتاب على قسمَين:
القسم الأول: ما يصرح باستحسانه أو استقباحه، فهو لا يستحسن (إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية)، ومن هذا القسم أنه حين تعرض إلى موقف بعض الفرنسيين من العفة، قال: (ومن خصالهم الرديئة قلة عفاف كثير من نسائهم، وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة). 
القسم الثاني: ما يذكره من (العلوم والصنائع المطلوبة والتكلم عليها على طريق تدوين الإفرنج لها، واعتقادهم فيها وتأسيسهم لها)، لذلك فهو يتبرأ مما هو محلّ للنظر وللاختلاف مشيراً إلى أن قصده (مجرد حكايتها). 
وبناءً على هذا تكلم عن المراقص في فرنسا بوصفها فناً (عند) القوم، وكذلك حين ذكر مسّ الرجال للنساء لم ينسَ أن يؤكد أنه (غير عيب عند هؤلاء)، وفي التأكيد على هذه (العندية) تبرؤٌ من أية شبهة إقرار أو موافقة.
وكذلك نفى الطهطاوي علاقة هذا الفن بالفسق وتهييج الشهوات، وهذا في سياق المقارنة بينه وبين الرقص في مصر، فإنه من خصوصيات النساء. 
ولا يعني هذا أن الطهطاوي يقرّ ذلك، لأن ذلك توصيفٌ منه، لا استحسان له ولا بيانٌ لحكمه الشرعي من زاوية الحلال والحرام، ولا نحتاج كثير تمرس في الفهم لنعلم أن مجرد عدم مصاحبة ذلك الفن لهذه الأمور ونحوه لا يعني بالضرورة أنه حلال، فإن بعض الشر أهون من بعض، ولا يعني ذلك أن بعض الشر سائغٌ مطلوب!
ثم كيف يمكن أن يقول الطهطاوي بجواز ذلك الفن وهو يصرح في الكتاب نفسه بذم الفرنسيين على قلة غيرتهم؟ وأن أحكام الإسلام هي معيار الغيرة الصحيحة، لا ما يظنونه ويحسبونه، كما سلف؟
 بل الأكثر من ذلك، أنه صرح في (المرشد الأمين للبنات والبنين) بأن (التزين المطلوب من النساء إنما هو لأزواجهن أو لمن في بيوتهن في أنفسهن لا يتبرجن به للرجال الأجانب كعادة الأعجام المبنية على اختلاط الرجال بالنساء، فإن هذا لا يخلو من الاستحسان الذي يترتب عليه الافتتان). 
وما دعوى محمود شاكر وقطب وغيرهما إلا تشويهٌ وتعميةٌ عمّا دعا إليه الطهطاوي بحقّ، وهو تعليم المرأة والنهوض بها من واقع الجهل والتخلف، والحضّ على عملها بالأعمال التي رآها لائقةً بها، فهو من جهة خالف كثيراً من المشايخ التقليديين الذين تبنوا القول بحرمة تعليم النساء ومنعها من الخروج، ومن جهة أخرى، ضمن سكوت أولئك المشايخ عن دعوته، لأنه لم يأتِ بأحكامٍ يعدّونها خطوطاً حُمراً في ذلك الزمان، مثل سفور المرأة ومخالطتها بالرجال. 
أما على الصعيد الأخلاقي، فهذا سهم آخر وجهه محمد قطب إلى شمائل الطهطاوي وشيمه، فقال: (استقبله أهله بالفرح يوم عاد من فرنسا، بعد غيبة سنين، فأشاح عنهم بازدراء، ووسمهم بأنهم فلاحون لا يستحقّون شرف استقباله)!
ومن خلال مطالعاتي فيما كُتب عن الطهطاوي وسيرته، فإنني أجزم أن هذا الخبر عارٍ عن الصحة تماما، ليس له أصل البتة، لا أدري من أين أتى به محمد قطب!  اللهم إلا أن يكون شيئاً من الأوراق المشوشة الني احتفظ بها، أو ائتفكه من مخيلته، فإن له سوابق تشابه هذا الادعاء، حين ادعى أن والد هدى شعراوي (أشاح عنها) حين رجعت (سافرة) من فرنسا، مع أن والد هدى شعراوي (محمد سلطان باشا) كان قد مات وهدى لا زالت طفلة في مهدها! 
فإذا أردنا أن نحلل هذه الحادثة المدعاة تحليلاً خارجيا، فإنه لا يمكن أن يكون أهل الطهطاوي المقصودون هنا أباه، لأن أباه كان قد توفي والطهطاوي صغيرا! ولا يمكن أن يكونوا أمه، لأن أمه كانت أغلقت على نفسها الباب منذ سفر ابنها، وعندما عاد أخذ ينبهها بعودته ويقنعها بشخصيته، حتى فتحت له الباب غير مصدقة. 
فلم يبقَ إلا أخوال رفاعة الذين ربّوه، وهؤلاء يستحيل أن يشيح عنهم، لسبب يسير، وهو أن ابنتهم ستكون زوجته بعد ذلك، فهل يُعقل أن يتزوج الإنسان بنت أناس يراهم أقل من مستواه، أو يوافقوا هم على تزويج ابنتهم لمن يتكبر عليهم ويزدريهم؟
ثم إن هذه القصة مخالفة لما ذكره معاصرو رفاعة وطلابه من طيب أخلاقه وحسن شمائله.
 فهذا تلميذ الشيخ صالح مجدي، الذي شهد بكرم رفاعة وطيب سجاياه، وعتقه كثيراً من أرقائه، بل تكفله برزقهم وكسوتهم حتى لقي ربه، (وكان ذلك قبل أن يُحظر الرق)، وأنه كان كلما ارتقى إلى أسنى المناصب، وجلس على أسمى المراتب، ازداد تواضعه للرفيع والوضيع، وتضاعف سعيه في قضاء حوائج الجميع. 
وهذا علي باشا مبارك، مخالط رفاعة ورصيفه ومنافسه في مسيرة التجديد، يقول: (ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده ولا في أخلاقه وعوائده). 
أما على الصعيد المهني، فهذا محمود شاكر يشكك في كفاية السنين الست التي قضاها رفاعة في باريز لما اضطلع به، فإن نصفها تصرّم في تعلم الفرنسية، ونصفها الآخر في تعلم التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآداب الفرنسية! ويتوصل شاكر إلى القول بأن ما تعلمه رفاعة في تلك السنين مجرد سطو لا يخلو من سوء الفهم على كُتب في هذه العلوم المختلفة المتباينة! 
والحقيقة أن ما زعمه شاكر هو سوء تصوّر للغاية المرتجاة من تلك الرحلة، فإن الحكم على الشيء فرع من تصوّره.
ذلك أنه لم يكن المقصود من تلك السنين أن يخرج رفاعة طبيباً أو جغرافياً أو فيلسوفاً! وإنما كان المقصود أن ينتهل من أساسيات تلك العلوم ما يؤهله لترجمتها من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، وقد أجرى له الفرنسيون امتحاناً أكّد كفاءة رفاعة وتأهله لما تصدى له. 
وفي الختام، لابد من الالتفات إلى أن محاولات التشويه والإسقاط واغتيال الشخصيات الوطنية قد شاعت في العقود الماضية، ونال رُشاشها قطاعاً واسعاً من المثقفين، فصدّهم عن الإفادة من منجزات مجددينا السالفين، ولا خلاص من ذلك إلا بإحباط تلك المحاولات، وإزهاقها بالبرهان الصريح، وهذا ما حاولت هذه المقالة الوصول إلى طرف منه، والله الموفق لذلك والمستعان.