بقلم: عبدالقادر شهيب
الإنسان هو البطل الأول فى حرب أكتوبر، سواء كان جنديا عاديا، أو كان ضابطا كبيرا، أو كان مدنيا، وهذه بعض المشاهد التى تؤكد ذلك..
المشهد الأول
فور تخرجى من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى منتصف عام ٦٩ التحقت مجندا فى القوات المسلحة مثل كل شباب جيلى، فى البداية التحقت بوحدة للمدفعية ذاتية الحركة، قبل أن أصير ضابط احتياط للتوجيه المعنوى، وفى هذا الوقت كنّا نخوض حرب الاستنزاف الباسلة التى قادتنا إلى حرب أكتوبر المجيدة، ولذلك كان التدريب الأول والأساسى لنا هو حفر الخنادق التى تحمينا من قصف العدو لنا بالطائرات والمدفعية، كنّا نستيقظ قبل الفجر والظلمة حالكة لكى نحفر الخنادق فى ظل جو شديد البرودة نقاومه بمزيد من الحفر، كان شعارنا وقتها، الحفر أو الشهادة.
المشهد الثانى
عندما أصبحت ضابطا للتوجيه المعنوى، الدفعة ٢٧ ضباط احتياط التحقت بقيادة احد لواءات المدفعية التابع للفرقة السابعة التى كان يتولى قيادتها المشير أحمد بدوى، الذى استشهد وعدد من الضباط المرافقين له فى حادث سقوط طائرة مروحية فيما بعد، وفى نهاية عام ٧١، دعا وزير الحربية وقتها الفريق صادق لاجتماع مهم لممثلين عن كل وحدات الجيش الثالث فى مقر قيادته، وذهبت إلى هذا الاجتماع، الذى يسمى بلغة الجيش «مؤتمر»، ممثلا عن قيادة اللواء السابع، وفى هذا الاجتماع تلقيت صدمة كبيرة، فبعد أن أمر الفريق صادق بخروج كل الجنود من قاعة الاجتماع ليقتصر الحضور على الضباط فقط، قال لنا لا تنتظروا أن نحارب قريبا، لأن السوفييت لا يقدمون لنا ما نحتاجه من السلاح لكى نحارب، وما فى حوزتنا من السلاح والذخيرة لا يكفى سوى لبضعة أيام قليلة، ونبه وزير الحربية بالطبع علينا أن نحتفظ بما قاله لأنفسنا وقادتنا فقط، وخرجت من مقر الاجتماع فى قيادة الجيش الثالث متجها إلى مقر وحدته فى منطقة جنيه بالقرب من الكيلو ١٠١ بالسويس وأنا أحمل هما كبيرا داخل صدرى، فقد كنّا ننتظر الحرب على أحر من الجمر حتى نسترد الأرض والكرامة، أو استرداد أنفسنا، ولكن ما إن وصلت إلى مقر وحدتى حتى فوجئت بجندى التحويلة، التليفونات، يسألنى بقلق وضيق وحزن، هل صحيح نحن لن نحارب، وبغضب قلت له من قال ذلك، بل سوف نحارب، ولم أرِد أن أضيف، حتى ولو قال عكس ذلك وزير الحربية، كان همى هو الحفاظ على الروح المعنوية عالية لأن الحرب كانت الحلم، حلم الخلاص، الذى ينتظره كل المقاتلين بالقوات المسلحة، خاصة على الجبهة، ولعل هذا يفسر صدور قرار للرئيس السادات بعدها يقضى بتغيير وزير الحربية وتعيين المشير أحمد إسماعيل مكان الفريق صادق، وقد تولى المشير أحمد إسماعيل قيادة حرب أكتوبر بمشاركة مجموعة من القادة العظام.
المشهد الثالث
لأننا كنّا نحتاج فى الحرب التى نستعد لها لعبور مانع مائى، فقد اهتمت قيادة القوات المسلحة بتدريب الجنود على عبور مانع مائى كثيرا، وفى أول تدريب كبير على ذلك حرص الفريق الشاذلى على الحضور، لكنه لاحظ تكرار بعض الأخطاء التى تتمخض عن إبطاء إتمام عملية العبور، بينما كنّا نحتاج لأن تتم عملية العبور الأولى فى أقصر وقت ممكن، أو فى زمن قياسى، فقد كانت قوارب العبور تسقط من بعض الجنود وهم يحملونها لإلقائها فى المياه، بينما كانت عملية إلقاء القوارب فى المياه عادة غير سليمة، حيث كانت القوارب تحتاج لتصحيح وضعها ليركب فيها طاقمها، أما عملية قفز الجنود إلى القوارب فقد كانت تتم أحيانا بطريقة غير منظمة مما كان يعرضهم للانقلاب فى المياه، وكل ذلك كان يستهلك وقتا كنّا فى أشد الحاجة لاختصاره أثناء عبور قناة السويس حتى نقلل خسائرنا إلى الحد الأدنى، ولذلك قرر الفريق الشاذلى فورا تنظيم جنود كل قارب مع تحديد موقع ومكان كل منهم وهم يحملون القوارب وهم يلقونها فى المياه وهم أيضا يقفزون لكى يستقلوها ليعبروا بها القناة، لقد أدرك الفريق الشاذلى أن الإنسان المصرى عظيم وشديد الحماس، ولكنه يحتاج لمن ينظم حماسه ويدربه على العمل الجماعى، ولعل هذا مانفتقده فى شتى مناحى حياتنا.
المشهد الرابع
كان واحدا من بين أربعة أشقاء، كلهم ضباط بالقوات المسلحة، فى أسلحة ومواقع مختلفة، وكلهم شاركوا فى حرب أكتوبر، وكان هو ضابط مدرعات وموقعه على الجبهة فى نطاق الجيش الثالث، صباح يوم ٦ أكتوبر تلقى أوامر الحرب وتعليمات العبور، كان على بعد كيلومترات قليلة من مدينة السويس التى ولد فيها وعاش حتى عدوان ٦٧، حيث هاجرت أسرته إلى القاهرة باستثناء والده الذى أصرّ على البقاء فى السويس التى كانت تتعرض لقصف العدو، وذلك حرصا على استمرار عمل محطة مياه السويس التى كان يديرها، وعندما علم الابن أن الحرب قادمة شعر بالخوف بالطبع على حياة أبيه، راوده خاطر أن يذهب إليه لكى ينبهه حتى يغادر المدينة، ولكنه خشى أن ينكشف أمر الحرب وموعدها فقرر أن يستودع حياة أبيه فى يد الله، وأن يستعد لتجهيز وحدته ومدرجاتها للعبور، بينما احتفظ بقلبه على والده فى صدره، ولم يتخلص من هذا القلق إلا بعد أن أصيب ونقل إلى أحد المستشفيات العسكرية فى القاهرة وأفاق ليجد والده أمامه.
المشهد الخامس
كان قرار شارون هو اختراق القوات المصرية لإحداث ثغرة تتواجد فيها قوات إسرائيلية على الضفة الشرقية من القناة، ومن أجل تحقيق ذلك قصفت إسرائيل بكثافة مواقعنا فى الحد الفاصل بين الجيشين الثانى والثالث، ولساعات طويلة ومستمرة تعرضت إحدى وحدات المدفعية التابعة للفرقة الثانية لقصف عنيف ومتواصل، وقد خلف ذلك تأثيرا معنويا غير طيب على مقاتلى هذه الوحدة وقتها،وعلى الفور ذهب إليهم ضابط التوجيه المعنوى ليتحدث إليهم، وهو أحد الأصدقاء الذين تعرفت إليهم فى القوات المسلحة، ومازلنا نلتقى حتى الآن، قال لى كان هذا أصعب موقف واجهته فى الحرب، ومع ذلك أعتز به، فوجدت الحالة المعنوية ليست على ما يرام، ولكنى قلت لهم أين أنتم الآن، ألستم على الضفة الشرقية للقناة، أى أن كل هذا القصف الإسرائيلى فشل فى تحقيق أهدافه، كما أن كل خسائركم البشرية هى شهيد واحد لقى مصرعه حينما خرج من الحفرة، وكذلك ألم تسكت طائراتنا مدفعية العدو وتجبر طائراته على الفرار، بعد هذه الكلمات تبدلت الحالة المعنوية لمقاتلى الوحدة تماما، وبفخر قال لى صديقى لم أشعر فى أى وقت أهمية ما قمت به قدر هذا الموقف.
إنها كلها مشاهد تبين أن البطل الأول لحرب أكتوبر هو الإنسان المصرى العظيم الذى رفض الهزيمة وأصرّ على الثأر واسترداد الأرض والكرامة وحارب بشجاعة وانتصر، وهذا الإنسان المصرى العظيم هو القادر على حماية مصر من كل ما يتهددها الآن، والقادر على حماية كيان دولته الوطنية، فقط هو يحتاج لمن يتيح له الفرصة لكى يبدع، أى لمن يثق فى قدراته ولا يخشاه.