لأن الأديب يرى ما لا يراه الآخرون فقد رأى الأديب الكبير "توفيق الحكيم" في الموسيقار "سيد درويش" - الذي حوصر بتهمة الانحراف عن قواعد الفن- عبقريًا مجددًا يمتلئُ فخرًا بموسيقاه التي لم يشبه فيها أحدًا فكانت عليها بصمته الخاصة، وكان تواقًا إلى الفن في صورته العُليا رغم ثقافته البسيطة؛ فإن غريزة الفنان الأصيل التي بداخله دفعته إلى الغوص فيما وراء السهل والضحل من أشكال الفن.
رأى توفيق الحكيم في "سيد درويش" هذا الفنان الذي لا يكتفي بالإلهام ثم يقعد عن التحصيل؛ حيث كان يصاحب "الحكيم" وشلَّتَهُ إلى "تياترو الكورسال" ليشاهدوا جوقة الأوبرا الإيطالية وهي تعرض لهم "توسكا" و"مدام باتر فلاي" لـ "بوتشيني" و"البلياتشو" لـ "ليون كافيللو" كل هذا في الوقت الذي كانت فيه الأوبرا ترفًا لا يقدر عليه إلا السائحون؛ غير أن المسيو "دالياني" صاحب "تياترو الكورسال" كان يخصص لمحبي الفن الفقراء من أمثال "الحكيم" و"درويش" أوبريتات تحييها فرق فنية من الدرجة الثانية، وكان عشاق الفن من المصريين يرون في هذه الأوبريتات المتواضعة ما يغذيهم فنيًا ويعلمهم بالقليل من النفقة.
كل هذا وأكثر حكاه لنا الحكيم في كتابه "فن الأدب" الصادر عن "مكتبة مصر" لصاحبها الناشر الأديب "سعيد جودة السحار" وهو شقيق الأديب الراحل "عبد الحميد جودة السحار" وتحديدًا في باب "الأدب والفن.. إذا كان أحدهما الكأس فالآخر الخمر" وفي فصل خاص عنوانه: "مع أهل الموسيقى" وفيه يعرفنا أنه أدرك ثلاثة من نجوم الفن اللذين تتردد أسماؤهم حتى الآن، وهم: "داود حسني" و"سيد درويش" و"كامل الخُلَعي".
ويطلعنا "الحكيم" على سرِّ إعجابه بسيد درويش الذي لم تكن معرفته به وثيقة في البداية؛ غير أن الحكيم كان قد ألف رواية غنائية عُرِضَ على "درويش" تلحينها فطلب فيها مبلغًا جبارًا بمعايير ذلك الوقت؛ فرأت الجوقة الفنية التي ستمثل الرواية أنه سأل شططًا وسحبت الرواية من "درويش" ثم عهدت بها إلى "كامل الخلعي" الذي رضي بمبلغ أقل بكثير مما طلبه سيد درويش الذي بدا عليه الزهو بنفسه، وهذا ما لم يَرُق لتوفيق الحكيم بالطبع.
بيْدَ أن الحكيم أخذ يلتفت إلى فنِّ درويش وإلى ذلك الجو الإبداعي المبتكر الذي لم يُسْبَق إليه، وصار من معجبيه؛ حتى إنه أخذ في تتبع آثاره الفنية الجديدة، وصار يعرف أحدث ألحانه قبل أن تُذَاع، وهذا من خلال سيد درويش نفسه الذي أصبح صديقًا حميمًا له، أو من أفواه من التقطوها عنه في ليلة من ليالي وحيه المنهمر!
وكان "الحكيم" يحتفي على نحو خاصٍ بما يخرجه "درويش" في النوع الجاد من "الأوبرا" و"الأوبريت" ويبدي كاتبنا أسفه لأن الجيل الجديد في أيامه يصغي إلى كلامه عن فن الأوبرا في مصر دَهِشًا، ولا يتصور كيف ازدهر هذا اللون من الموسيقى في مصر في الماضي، ومات في الحاضر؟!
ورغم الطابع الشعبي لألحان "سيد درويش" وانتشار أغانيه الشعبية كالنار في الهشيم؛ فإنه كان يطمح في الوصول بفنه إلى مرحلة التجرد الأعلى، بمعنى التجرد من الشعبية والصور المحلية، ليقدم موسيقى موسومة بطابعه وحده، لا طابع بيئته التي يعيش فيها، وكان يشاهد ويستمع إلى الفن الأوروبي فيرى فيه بحسه الفني من الأسرار ما لم يره الحكيم ولا أترابه، وينتفع به أيَّما انتفاع، ولهذا قال للراحل "محمود مراد" عندما قدم له "رواية البروكة" وهي الصيغة المصرية للرواية الفرنسية " لا ما سكوت": إنه لا يريدها في صورة مصرية أو شرقية؛ ولكنه يريدها على أصلها بجوها الفرنجي وشخوصها الأوروبيين؛ وهذا لأنه مقدم على محاولة جريئة لن يحيد عنها!
كان "درويش" جسورًا في الفن، مِقْدَامًا في ألحانه المبتكرة، مجددًا لا يعرف القيود، وقد جعلته ثقته بنفسه يقبل على تلحين مسرحية أوروبية مستهدفًا فرض موسيقاه الخاصة على جو أجنبي! وكان له ما أراد، ولأن إرادته كانت فولاذية فقد أخرج الرواية بنفسه من خلال فرقته التي كونها وصنعها على عينه، واستأجر لتمثيل الرواية مسرح "دار التمثيل العربي" وظهرت "البروكة" لأول مرة في ليلة ممطرة فيها البرق والرعد، وامتلأت شوارع القاهرة بالماء والوحل.
فهل أثنى ذلك مُحبي "درويش" عن الحضور ومشاهدة الرواية؟؟ بالطبع لا؛ فقد حضروا إلى المسرح غير شاعرين بفعل الطبيعة، الطبيعة التي أدركوا أنها عدوة الفنان؛ لأنها تغار منه! فهي تعده منافسًا لها في الإبداع؛ لكن لأن "الحكيم" كان يعشق فن سيد درويش فهو يقول غير عابئ بالمطر والرعد: "وماذا يهم؟ لو أن السماء انطبقت على الأرض في تلك الليلة لما فَطِنَّا إلى ما يجري؛ فحبنا للفن كان أقوى من الطبيعة ذاتها!"
وكما لم يعبأ الحكيم ورفاقه من المثقفين بالمطر والوحل، لم يعبئوا أيضًا بقلة المتفرجين، وظلوا على عهدهم في تشجيع "درويش" على نهجه المجدد وألحانه المبدعة التي تحمل معنى الفن ورسالته. ولقد كان عدد المتفرجين لا يزيد على الأربعين أو الخمسين على أقصى تقدير بمن فيهم أصدقاء "سيد درويش"! وجرت الألحان تُصَوِّر مختلف المواقف والعواطف والمناظر حتى إنها صورت الريف بدجاجه وخِرَافه وهي تصيح: "مااااااء"! وهذا في لحن "أحب خرفاني السِّمَان" كما عبرت عن انتصار الجيش الظافر في لحن "ملا الكاسات" وهكذا حتى خرج الحكيم ورفاقه ذاهلين من عبقرية فنان الشعب.
وجلس الرفاق في "خمَّارَة" مجاورة لدار التمثيل العربي بعد انتهاء الأوبريت، وما لبث الفنان المُلْهَم أن أقبل عليهم مع صديقه "عمر وصفي" ولا نشك في أن أحد أهم عيوب "درويش" يتمثل في إقباله على "المُكَيِّفَات" بأنواعها؛ إلا أننا نتغاضى عن هذه الآفة ونطلب له الرحمة، و"من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر".
وعندما جلس "درويش" كان أول ما تكلم به أن سأل الحكيم ورفاقه عن الأوبريت قائلًا: "ما رأيكم؟" يقول الحكيم: " ولم يخطر في بال الفنان المسكين أن يسألنا عن رأينا في كساد الحفلة وخواء الصالة! ولا خطر في بالنا أن يسألنا في ذلك؛ فقد كنا ندرك أن الرأي المطلوب هو أجلُّ من ذلك عنده وأسمى – لا لأنه كان يريد الإفلاس أو يكره المال- بل لأن فرحة الفنان بفنه تبهره أكثر مما يبهره المال، وأن النشوة التي تبعثها خمرة الفن تذهب دائمًا بلُب الفنان في أول الأمر فتذهله عن كل شيء! أدركنا ما يريد فقلنا:..... لست أذكر والله ما قلنا؛ ولكن الذي لا شك قد حدث هو أنه قرأ في وجوهنا الجواب: إنه قد انتصر".
إلا أن رأي زملاء درويش في المجال الفني كان على النقيض من رأي المثقفين؛ فقد قابل "الحكيم" في اليوم التالي لعرض الأوبريت كلًا من : "كامل الخلعي" و"داود حسني" وأبدى لهما إعجابه وحفاوته بأوبريت "البروكة" فبدا عليهما الاستياء؛ لأنهما كانا من أنصار الفن القديم، أو – على الأقل- كانا فيما يبدعانه من الفن الشرقي الجميل والمتمكن يسيران في التجديد باحتياط وحذر؛ لذا كان رأيهما في "درويش" إنه مارق عن الأصول الفنية، خارج على القواعد الغنائية، مبتدع في الموسيقى! وتلك هي التهمة الأبدية لكل مجدد جريء كما يقول الحكيم.
على أنه من الواضح أن "درويش" لم يفتعل التجديد الفني؛ بل كان التجديد متصلًا بفنه، ممزوجًا بدمه، ولا حيلة له فيه. لقد كانت الألحان تأتيه كأنها تنفجر من ينبوعٍ خفي، يخفى على الجميع حتى عليه هو، وكان من براعته وسحر عبقريته يقول مزهوًا: "إنني أستطيع أن ألحن كل شيء؛ حتى أخبار الجرائد!" نعم، لقد أحس أنه أمام هذا الينبوع المتدفق من الوحي الفني يستطيع جعل الكلام العادي قالبًا يصب فيه ألحانه فيحييه كما يحيي الماء عودًا يابسًا فيخضر ويُزْهِر.
ويقارن الحكيم بين "كامل الخلعي" و"درويش" فيخبرنا برأيه فيهما، ومفاده أن الخلعي لا يستطيع رغم تمكنه الموسيقي من إحياء الكلام العادي ليجعل منه موسيقى مبدعة، بل إنه لا يستطيع التلحين إلا بعد ضبط وزن الشعر المراد تلحينه؛ أما "درويش" فعبقريته تمس أي كلام فتقلبه نغمًا تحار فيه العقول! إنه ساحر..
ورغم ذلك لم تُصِب هذه العبقرية ما هي جديرة به من تقدير الناس، الناس الذين كانوا أحيانًا يسخرون من سيد درويش حين يظهر على المسرح بجسده الضخم وصوته الفحل، ولا ينسى "الحكيم" حين مثل "درويش" دور البطل في رواية "شهرزاد" فاستقبله الجمهور بالنكات وهو يغني بصوته الأجش: "أنا المصري كريم العنصرين" فحزن الحكيم وثار؛ لأن الجمهور لم يقدر فيه صحة النغم ولم تتهذب حاسته الفنية ليدرك أن صحة صوت الرجل في رجولته وقوته لا في طراوته، نحن نُصَدِّق على قول الحكيم، ونعتقد أن صوت المطرب اللبناني الراحل "نصري شمس الدين" من أجمل الأصوات لأنه صوت رجولي تمامًا.
ولا شك أن للثورة المصرية في عام 1919 فضل على سيد درويش لأنها وجهته إلى الإشادة بمفاخر بلاده القومية في إطار من الصوت الصلب المعبر تمامًا عن الوطنية والثورة والغضب على المحتل؛ لقد أخرج لنا درويش ألحانه الثورية لتعبر عن عاطفة ملتهبة وأداء قوي، وكان للثورة كل الفضل في تحفيز درويش على التجديد أكثر فأكثر، فقد خاض الفنان غمارها شابًا متحمسًا متفتح القلب لأفكارها وأحداثها، في حين كان "الخلعي" و"داود حسني" من الكهول الذين لم يتأثروا بالثورة ولا أثروا فيها؛ أما درويش فكان من الشباب الذين أدركوا وحدهم أعاجيب الثورة وشعروا بحرارتها.
وأخيرًا يلهب "الحكيم" حماسنا لمصر وحبنا لها فيقول: "لقد انكشفت لعيني وقلبي معجزة مصر عام 1919 ورأيت الثورة في كل مراحلها تسفر عن روح خفية باقية أبد الدهر، نابضة تسعف مصر بين الحين والحين، ظل هذا الشعور يلاحقني حتى سجلته في "عودة الروح".
لقد كان سيد درويش في فورة شبابه بقلبه الجديد الملتهب الذي أثرت فيه الثورة فأخرج فنًا خالدًا قاد به موسيقى الشرق إلى آفاقٍ جديدة.