الخميس 2 مايو 2024

المزارات المحفوظية

مقالات30-8-2023 | 20:02

في ذكرى رحيله، سبقتني أقلام مبدعة في وصف أدب نجيب محفوظ، وتسابقت مئات الدراسات النقدية لتحليل أعماله الأدبية ونقد رؤيتها السينمائية، حتى أن دعمه وتبجيله لم يتوقف عند الشرق الأوسط؛ بل جاء أول التفات للغرب له؛ في صورة ظهور أول دراسة عن أعماله كتبها الأب "جاك جومييه" الدومينيكاني المستشرق، والتي نُشرت عام ١٩٥٧ في مصر؛ وكانت دراسة مستفيضة عن الثلاثية.

ولا يخفى علينا أن من قاد مشروع منحه للنوبل هم أساتذة فرنسيون منهم "جاك بيرك" و"أندريه ميكيل"، بل وأكدوا ؛ إن جائزة  نوبل جاءت متأخرة ثلاثين سنة على الأقل؛ والسبب أن محفوظ  لم يكن قد تُرجِمت أعماله إلى لغات عالمية، ولكن ومع فوزه بجائزة نوبل عام ١٩٨٨؛ بدأت طفرة حركة ترجمة الأدب العربي. لذا في مقالي  سأتطرق هنا بإيجاز  لشخص محفوظ ولبعض الحرافيش رفقاء دربه.  العملاق "جمال الغيطاني"و الذي كان يسكن في حارة تتفرع من شارع قصر الشوق، عنوان الجزء الثاني من الثلاثية. لفت انتباهه وهو في العاشرة من عمره أن روايات محفوظ كانت تحمل عناوين المكان الذي يعيش فيه: (قصر الشوق وبين القصرين وخان الخليلي).

تم اللقاء الأول معه، كان يوم جمعة من شتاء ١٩٥٩ وكان الغيطاني في الخامسة عشرة من عمره، يمشي في شارع عبد الخالق ثروت في الجانب الغربي من دار الأوبرا فرأى الكاتب الكبير قادماً من ناحية ميدان العتبة، فعرفه من الصورة في صفحة الكتاب الذهبي، وهو لن ينسى أبداً "طلة" نجيب محفوظ وكلماته عندما قال له إنه معجب بأدبه وبأنه يكتب القصة القصيرة؛ وأعطاه موعداً في مقهى في بناء "صفية حلمي" -تلميذة الراقصة "بديعة مصابني"، في الوقت الذي كان يعتبر فيه الجلوس المقهى نوعاً من الفساد، واكتشف الغيطاني بعد ذلك أن أهم مكان يعلم الإنسان الحياة هو المقهى. وهكذا ابتدأت اللقاءات واستمرت العلاقة عبر مقاهي القاهرة ولم تنتظم في بيته إلا في السنوات العشر الأخيرة بعد حادث الاعتداء عليه.

ندوة محفوظ بصحبة الحرافيش؛ كانت مركزاً يجذب أي مثقف يريد أن يلتقي بالأدباء وكانت أهم ندوة أدبية في الحياة الثقافية للقاهرة، فمن الموضوعات التي فرضت نفسها؛ جدا هي الموجة الجديدة من الرواية، والنقاشات كانت كلها تدور حول اللارواية التي ظهرت في فرنسا في الستينيات.حيث زمن  كان انتقال الأفكار والاتجاهات الجديدة في الأدب في ذلك الوقت أسرع مما هو عليه الآن في زمن التكنولوجيا.وليس أدل على ذلك من ظهور الكتاب في باريس وترجمته في مصر بعد شهرين أو ثلاثة. ذكر المقربون منه نبل صفاته الإنسانية؛ وصنفه أغلبهم ليبيراليًا حقيقياً؛ بمعنى أنه يمكن أن يختلف معك بالرأي من دون أن يؤدي ذلك لا إلى كراهية ولا تراشق،وأيضا  بدون نفاق  للرأي العام؛ فقد كان أعنف ناقد للنظام الملكي، وعلى الرغم من ذلك انتقد ثورة ١٩٥٢، وكان عدو للأجواء غير الديمقراطية في تجربة عبد الناصر التي أدت إلى النكسة، وكان مؤمناً بالعدالة الاجتماعية، والعدالة الإنسانية وكان ناقداً لنظام السادات، رغم إعجابه بشخصه، وكانت هذه نقطة اختلاف كبير مع بعض الحرافيش.

كان مع العدل ولم يكن راضياً عن الفساد في نظام مبارك، انتقد ظلم تلك الحقبة بذكاء حيث تميز على مدار تاريخه؛ بشفافيته في للتعبير عن رأيه واتجاهاته دون مهابة أو تملق، مستعيناً بالسخرية والنكات؛ فقد كان عميد فن القافية في أي محفل.
أما التواضع لديه فحقيقي وليس زيف أو تمثيل؛ وهذا  مكنه من تطوير قلمه وأدواته؛  ليقرأ حتى آخر لحظة في حياته وطرح الأسئلة على من يحيطون به، بعد أن توقف عن القراءة. كان يؤمن بالصداقة وهي مكنته من أن يواصل اهتمامه بالشأن العام بعد أن تلاشت حواسه، فمكنه أصدقاؤه من أن يقيموا له صلة بالدنيا كأنه يعيش فيها لحظة بلحظة.

أما صداقاته في حي الجمالية والحسين فكان لا حصر لها ولا عد وكانت عنده فراسة التقاط ملامح  الناس، وملك مهارة نسج عوالمه الخاصة في الحياة والأدب.
لذا بعد كل هذا الإبداع والتميز وبعد تلك العالمية، أُثمن متحف نجيب محفوظ في الجمالية، واعتقد أنه نواة   لفكرة "المزارات المحفوظية"، والتي تفانى من أجلها صديقه جمال الغيطاني؛ وهو المقترح الذي دعا لتحويل "زقاق المدق" في شارع الجمالية في القاهرة القديمة إلى محمية ثقافية وتحويله إلى مزار سياحي؛ يعود بالأموال على مصر،ويشمل هذا المشروع تسجيل الأماكن المرتبطة بمحفوظ ، مثل المقاهي التي ارتادها والبيوت التي أقام فيها والأماكن الأثيرة لدية في القاهرة القديمة، على أن يتم ترميم ما يحتاج منها إلى ترميم والتعريف بها وتحديث الأماكن التي عاشت فيها شخصيات روايات نجيب محفوظ التي دخلت الأدب الإنساني في العديد من اللغات، وكان هذا المشروع قد لقي ترحيباً وتمت الموافقة عليه إلى أن أجلته ثورة يناير، ولكن يبقى الأمل اليوم في استكمال متحف نجيب محفوظ بصورة أكثر توسعاً تواكب مخطط الدولة لتطوير وتخطيط القاهرة الفاطمية - الخديوية.
فقامة مثل نجيب محفوظ لم ولن تتكرر وتكريمها هو تكريم لمصر الثقافة والإبداع.. رحم الله نجيب الخلق ومحفوظ الإبداع.

Dr.Randa
Dr.Radwa