عندما تتجول في شارع المعز، سيتشبث التاريخ بردائك، ويسلب نظرك، ويأسر انتباهك، ويتبع خطواتك وتستشعر أنفاسه، وتلفك روائحه المنبعثة من الأزقة والحارات، من داخل البيوت التي خلع عليها الزمان رداءَه، ومن فوق المآذن والقباب، ويطل عليك من النوافذ والأبواب من هنا ومنا هناك.
في هذا الشارع الأسطوري، سوف تقف مشدوهًا أمام مبنى حجري شاهق لن تخطئه عينك، ذي واجهة مهيبة ثرية، بجدرانها الغائرة وعناصرها المعمارية، ووحداتها الزخرفية، وشبابيكها الجصية، وأشرطتها الكتابية.
هذا المبنى الشامخ هو مُجمّع، أو مجموعة، السلطان "المنصور قلاوون"(1279-1290م)، أحد أشهر سلاطين المماليك البحرية ورأس أسرة حكمت مصر والمشرق العربي ما يزيد على قرن من الزمان، والواجهة المهيبة، التي تمتد بطول يتجاوز الخمسة والستين مترًا، وترتفع ارتفاعًا يتجاوز العشرين مترًا، هي واجهته.
هذا المُجمَّع، الذي يشتمل على أكثر من وحدة معمارية لكل منها وظيفتها الخاصة، يتكون من بيمارستان لعلاج المرضى، وقُبة مخصَّصة لحفظ وإقراء القرآن الكريم، ومدرسة لتعليم العلوم الشرعية والطبية، وسبيل ماء للعطاشى من المارة والسابلة، إضافة إلى المنشآت الأخرى الإدارية والخدمية من مطابخ وحمامات وغير ذلك، وكان هذا المجمَّع، المعروف الآن بمجموعة السلطان قلاوون، بداية لظهور ما يعرف باسم المجمّعات المعمارية.
والبيمارستان، أو المارستان، كلمة فارسية تتكون من شقين، الشق الأول: "بيمار" أو "مار" وتعني بالفارسية: المريض، والشق الثاني: "ستان"، وتعني مكان، وبهذا فإن المعنى الحرفي للبيمارستان "دار المرضى"، أو مكان معالجة المرضى، أي المستشفي العام بالمفهوم المعاصر، واستعمل العثمانيون فيما بعد مصطلح دار الشفاء للدلالة عليه. ويعد هذا البيمارستان المبنى الرئيس في مجموعة السلطان قلاوون هذه.
والحقيقة أن البيمارستان ليس جديداً على الحضارة الإسلامية، فقد كان أول بيمارستان أنشىء في الحضارة الإسلامية في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، وقيل ابنه الوليد ابن عبد الملك، حيث أنشئ مستشفى كبير في دمشق في نهايات القرن الأول الهجري، خصص فيه قسم للمجذومين حتى لا يختلطوا بالأصحاء وبقية المرضى، بينما كان أقدم بيمارستان عُرف في مصر يُنسب إلى أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية، لكن لا توجد بقايا له أو آثار منه إلى اليوم.
أما سبب إنشاء بيمارستان قلاوون، فاختلفت الروايات فيه، فمن قائل إن قلاوون لمَّا كان أميرًا أثناء سلطنة الظاهر بيبرس توجه لغزو الروم سنة 675 هـ/ 1276م فأصابه مرض خطير وهو بدمشق، فعالجه الأطباء بأدوية أُخذت من بيمارستان نور الدين محمود، فشفي من مرضه، وركب حتى شاهد البيمارستان، فأعجب به ونذر إن أتاه الله الملك أن يبني مثله في مصر، فلما أصبح سلطانًا وفَّى بنذره.
وقيل إنه قد نذر لله أنه إن تسلطن وأنجده الله من مصيبة وقع فيها قبل السلطنة أن يبني في موضع سجن كان قد سُجن فيه واحداً من أعظم المستشفيات في تاريخ الإسلام.
ومن المؤرخين من يقول إنه أراد إنشاء هذا البيمارستان صدقة جارية لولده وولي عهده الملك الصالح "علاء الدين علي" الذي توفي سنة 682هـ.
وهناك رواية عن ابن اياس في بدائع الزهور في وقائع الدهور، تذكر أن السلطان قلاوون أمر مماليكه بأن يضعوا السيف في العوام لأنهم خالفوا أمره في شيء بجهلهم فغضب منهم، وأمر بقتلهم، فلعب فيهم السيف ثلاثة أيام، فقُتل في هذه المدة ما لا يُحصى عدده، وراح الصالح بالطالح، فلما زاد الأمر عن الحد، طلع القضاة ومشايخ العلم إلى السلطان وشفعوا فيهم، فعفا عنهم، وكف عنهم القتل، وندم على ما فعله، وبنى هذا البيمارستان ليكفِّر الله عنه ما فعله بالناس.
أقيمت المجموعة على جزء من أرض القصر الفاطمي الغربي كانت في الأساس قاعة كبيرة لست الملك ابنة الخليفة العزيز بالله وأخت الخليفة الحاكم بأمر الله، وكانت تعرف بالدار القطبية، نسبة إلى مالكتها "مؤنسة خاتون" القطبية الأيوبية ابنة الملك العادل أبى بكر وأخت الملك المفضل قطب الدين"، وقد أشتري السلطان قلاوون منها هذه الدار وما يجاورها، فأعطاها الثمن المطلوب، وعوضها بدار أنيقة هي قصر الزمرد بالقرب من رحبة باب العيد شمال القاهرة، ثم بدأ الهدم ومن ثم البناء، الذي استغرق أربعة عشر شهراً في الفترة ما بين ربيع الأول 683هـ/ 1283م وجمادي الأول684هـ/1284م ونقشت تلك التواريخ على العتب الرئيس للمجموعة.
وقد أشرف على البناء الأمير والوزير النشيط "علم الدين سنجر الشجاعي"، الذي سخَّر لها كل الإمكانات والعُمال المتاحين في مصر وقتها. وأوقف السلطان قلاوون على البيمارستان أوقافاً كثيرة من ضياع، وأراض وكثير من القرى الزراعية والضياع والبساتين من أملاكه وأراضيه في بلاد الشام ومصر، وبعضها حوانيت ووكالات وخانات كبيرة وفنادق، وغير ذلك من أنواع البر والخير مما لم يسبق لأحد من الملوك من قبله أن يفعله، وجعل ريعها حصراً لهذه المؤسسة الصحية والتعليمة.
وتضمن هذا البيمارستان مدرسة للطب، وللصيدلة، ومستشفى عام لمعالجة جميع الأمراض، فكان بها أقسام للجراحة، والأمراض الباطنية، والنفسية، وعيادة متخصصة في طب النساء والتوليد، وصيدلية بها كل الأدوية والعقاقير، وكان متاحاً بالمجان لجميع الناس، غنيهم وفقيرهم، فشكَّل مؤسسة طبية سابقة لعصرها، وطفرة في عالم تقديم الخدمات الصحية القائمة على العلم وعلى الأطباء الدارسين لا على حلاقي الصحة والعطارين والوصفات الشعبية. ووصلت الرعاية الصحية بالمرضى إلى حد توصيل الأدوية والأغذية إلى منازلهم، ويقال إنه كانت هناك عروض ترفيهية تقدم للمرضى، وكان يُعطى لكل مريض يخرج معافى من البيمارستان كسوة وخمس قطع من الذهب؛ حتى لا يضطر إلى الإلتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه، ومن يمت يُجهز ويُكفن ويدفُن.
وظل هذا البيمارستان شاهداً على التقدم الكبير في ميدان الطب والعلاج في القاهرة المملوكية حتى بعد موت المنصور قلاوون لعدة قرون تالية، واستمر يقوم بخدماته إلى أن نفدت الأموال التي أوقفها السلطان قلاوون له عام 1856م. وأخذت عيادات البيمارستان تتناقص شيئاً فشيئا، وتُغلَق الواحدة تلو الأخرى، إلى أن أغلقت جميعها عدا قسم الأمراض النفسية، فلم يبق فيه إلا المرضى النفسيون، وبعد فترة ارتبطت كلمة "المارستان" بالأمراض العقلية من قبل العامة، فصارت العامة تسميه بعد التحريف "مورستان "، إلى أن تم نقل المرضى النفسيين إلى مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية عام 1880م.
ثم ما لبث أن تحول جزء منه إلى عيادة لعلاج الرمد وأمراض العيون بداية من عام 1915م، وعُرف بمستشفى قلاوون. وعلى الرغم من مرور مئات السنين على إنشائه، إلا إنه ما يزال يحتفظ ببقايا بهائه القديم، ولا زال يحتفظ بهيبته وجلاله والأهم بتاريخه الناصع الجميل.