الأحد 5 مايو 2024

الشهيد أحمد حمدي.. صانع كباري العبور


الشهيد أحمد حمدي

مقالات9-10-2023 | 10:39

الشهيد أحمد حمدي

يتوقف الزمن فوق الأرض وتتوهج الشمس في السماء إجلالا وخضوعا لمسيرتهم النقية حين يأتى ذكرهم العطر، الأبطال العمالقة شهداء قواتنا المسلحة

 لقد كرمت القيادة العليا لقواتنا المسلحة اسم العملاق الشهيد أحمد حمدى فأطلقته على أول دفعة من ضباطنا الجدد، تخرجت في الكلية الحربية بعد معارك أكتوبر 

 اشترك البطل الشهيد أحمد حمدى في حرب ١٩٥٦ وكان يتحرك بجسارة وثبات تحت النيران وانفجارات القنابل التى أسقطتها طائرات العدوان الثلاثي 

الشهيد أحمد حمدى: لو أراد الله أن يكرمنى ويكرمكم لكتب لي الشهادة وأنا أحارب بین جنودی في معركة تحرير سيناء

 

هذه قصة بطل من عمالقة قواتنا المسلحة تحكى ببساطة نوعية القائد المصرى الذي ظل دائما يقاتل في مقدمة جنوده،  مثل أبطال كثيرين غيره سجلوا صفحات الشرف والفخار للعسكرية المصربة وجادوا بحياتهم فداء للوطن . 

 

إنه أحد عمالقة وحدات الكبارى بسلاح المهندسين ، أعطى الكباري والعبور كل حياته ، واكد صدق دعواه وهو يقاتل بجانب الكوبرى الذى شيده دفاعا عن سلامته ، بين كبارى الجيش الثالث، إنه البطل الشهيد لواء مهندس أحمد حمدى عبد الحميد.

 

يتوقف الزمن فوق الأرض وتتوهج الشمس في السماء إجلالا وخضوعا لمسيرتهم النقية حين يأتى ذكرهم العطر، الأبطال العمالقة شهداء قواتنا المسلحة ، أبناء الإرادة المصرية ، الذين أعطوا الوطن بقتالهم ،اقتداره المجيد وقدموا بسخاء بطولي في معاركهم أعظم الفداء جادوا بأغلى ما يملكون أعطوا حياتهم، فصنعوا باستشهادهم المشاعل الشاهقة تضيء الطريق أمام تقدم قواتنا إلى سيناء .

 

إن البطل لا يولد بطلا ، بل البطولة صفة وسلوك تنمو لديه مع نمو عمره ،حتى تأتي اللحظات التي يرتفع فيها بقدرته ويتجاوز إمكانيات البشر كما حدث في ملحمة الممر وملحمة حرب أكتوبر ويتألق في قتاله ويؤكد صدق دعواه ويختار الفداء بالروح فداء للنصر.

 

 بطلنا اليوم هو « اللواء مهندس أحمد حمدي عبد الحميد ( نائب مدير سلاح المهندسين وفائد قوات كبارى العبور  إلى سيناء ، وأحد أذرعتها المرفوعة دائما بالحماية ، كان دوره خلال المحركة علامة فنية بأعظم الدلالات .. بل كان وقودها ، إنه أحد الفصائل البشرية التي أضافت الجديد إلى سجل معارك قواتنا المسلحة صفحة فخار وشرف العسكرية المصرية وقتالها المشروع .

 

منذ الصدمة التي أصابتنا  في يونيو 1967، واللواء مهندس أحمد حمدي لا يتوقف لحظة مع رجاله الضباط والجنود في دراسة الإمكانيات الهندسية المتاحة للعبور إلى سيناء أعادوا مناقشة الموقف ، تدارسوه باستیعاب طرحوا الثغرات والعيوب ، تصارحوا بكل نقاط الضعف لديهم ، امتلكوا رؤية جديدة للصورة بلكل أبعادها ، وضعوا الخطط الجديدة و الخطط البديلة.

 

وبدأوا يوفرون احتياجات هذه الخطط بدأب وإصرار ، ذهبوا إلى مختلف المناطق والبلاد بحثا عن شكل قريب للهدف ، واتصل ليلهم بنهارهم، وعملوا وعيونهم على اليوم القادم حتما لا محالة ، وأصبحت كبارى العبور ومياه القناة وهدم حصون وقلاع بارليف ، هي كل حياتهم وبات دورهم دور المهندسين في معركة التحرير غرامهم وسرهم الكبير ولقد حققوا الحلم .

 

قبل أن أسترسل .. كيف أُستُشهد البطل ؟

إنني ألجأ إلى التقرير العسكرى الذى وضعته القيادة العليا عن معركة اللواء مهندس أحمد حمدى عبد الحميد . وفيه جاءت هذه السطور : واتته الفرصة التي انتظرها طويلا ، واللحظة التي كلما أعد نفسه لها وأحسن الإعداد عندما بدأت طلائع الزحف المقدس تعبر الهزيمة إلى النصر على جسد من أجساد أشرف الشهداء ورأت  روحه الطاهرة أبناء الوطن يعبرون القناة ويتسابقون من أجل النصر أو الشهادة ، وأدرك البطل قيمة تخطيطه السابق لعمليات المهندسين العسكريين المقاتلين ، وكان إدراكه السليم لأهمية عمليات وحدات الكباري باعثا أكبر لبذل المزيد من الجهد وتذليل كل ما يعترض طريق القوات العابرة من مصاعب، غير عابئ بما تتعرض له حياته من خطر تحت غارات الطائرات الإسرائيلية وقصف مدفعية العدو المكثفة ، ويشهد الرجال الذين كان لهم شرف العمل تحت قيادته ، بأنه كان دائما بينهم، في مقدمتهم طوال النضال وقد أشرف على كل صغيرة في عملية كباري العبور وتدعيمها ، إنه أسهم بجهده الجسدي بجوار جنوده الصناديد في إعادة إنشاء الكباري التي تحطم بعض أجزائها نتيجة قصف قنابل الطائرات العدوة منذ الساعة صفر في معركة التحرير يوم ۱۰ رمضان الخالد ، وبكى طوال ثمانية أيام حول الكباري لا يفارقها.

 

وفى يوم ١٤ أکتوبر او ۱۸ رمضان ، قام مع رجاله بإعادة إنشاء كوبرى كان قد سبق فيه تقدير منه لمدى أهمية عمليات الإنشاء، وظهرت مجموعة براطيم غارقة متجهة بفعل تيار المياه إلى الجزء الذي تم إقامته من الكوبرى مما يعرض هذا الجزء لخطر التدمير، وهنا قفز البطل إلى ناقلة برمائية من ناقلات السلاح قادها بنفسه واتجه إلى مجموعة البراطيم وقد سبقها ، وأمسك بها وسحبها بعيدا من منطقة العمل ، ثم عاود مباشرة استكمال بناء الكوبرى بجوار جنوده وبينهم . قائدا وزميلا وجنديا، رغم استمرار الفصل الجوى فوقهم وكثافة نيران المدفعية الإسرائيلية دون أن يبتعد عن منطقة العمل والخطر ، مدركا آنه ان فاضت روحه ، فإنها تفتدى بألوف الأرواح التي لابد وأن تصنع النصر للوطن ، وإصابته بإحدى الشظايا المتطايرة ، وكانت إصابة قائلة ، و أُستشهد « البطل » بجانب الكوبري فداه للمعركة .

 

دفعة البطل

لقد كرمت القيادة العليا لقواتنا المسلحة اسم العملاق الشهيد فأطلقته على أول دفعة من ضباطنا الجدد، تخرجت في الكلية الحربية بعد معارك أكتوبر ، وذلك يوم ٢ يناير ١٩٧٤ ، وأعلن وزير الحربية والقائد العام أن القائد الأعلى للقوات المسلحة يهدى سیف الشرف العسكرى لأسرة الشهيد ، وترقية البطل من رتبة عميد إلى رتبة لواء، ومنح مسيرته العسكرية نجمة الشرف تقديرا لبطولة العملاق وعظمة التضحية التي جاد بها.

 

ودعت القيادة والدة الشهيد وزوجته وأطفاله الثلاثة وأشقاءه ، إلى حفل التخرج الكبير، حيث وقفت الأسرة مع وزير الحربية ورئيس هيئة الأركان ، وقائد الكلية الحربية وأساتذتها يستعرضون طوابير الخريجين الجدد من مقاتلى مصر، حاملي اسم البطل لواء مهندس أحمد حمدى عبد الحميد أحد العلامات البارزة على أصالة الإرادة المصرية وجسارة المقاتل المصرى واقتداره الحي المتجسد أبدا فوق تاريخ الأوطان ، دفاعا عن الحق والكرامة واستقلال الأرض.

 

طفولة البطل:

ذهبت إلى أسرة ذلك الرجل أبحث عن مكونات البطولة فى حياته ، وإلى رفاق السلاح ، إلى جنوده الذين أُستُشهد بينهم ، بل وفي مقدمتهم .. كما كان دائما طوال خدمته، إنه من أبناء الدقهلية ، والده كان من رجال التعليم الذين حسبته عليهم وطنيتهم تحمسهم لجلاء قوات الاحتلال البريطاني من مصر، وقد أوضع أول أولاده الذكور ، بطلنا الشهيد ، قصة النضال الوطني لشعب مصر منذ أصبح طفلا يعي ويفهم ..

 

تحكى السيدة أم الشهيد ؟

رزقنا الله قبل أحمد بفتانين ثم بذكر مات طفلا ، وجاء أحمد عام ۲۹ ، وتعلق أبوه به تعلقا شديدا، وكان يروى له وعمره عشر سنوات كل مساء عن ثورة ۱٩ ، وامتلأت كراريس ولدي بموضوعات الإنشاء عن الجلاء والاستقلال وتضحيات شعب مصر منذ فجر التاريخ، حتى التحق بالمرحلة الثانوية  ورفض أبوه أن تضمه المدرسة التي يتولى نظارتها وهي مدرسة الرشاد الثانوية ، خشية أن يجامله المدرسون فألحقه بالمنصورة الثانوية ، وظل دائما من المتفوقين.

وفی عام ١٩٥١ تخرج البطل مهندساً ميكانيكيا وانضم إلى "الجيش الاحتياطي» وكان قائما تلك الأيام ، ريثما يحقق حلمه ويصبح ضابطا في الجيش المصرى العامل .. وما ضاع الهدف منه على الإطلاق .

وفى ١٨ أغسطس عام ١٩٥١ ، استطاع أن يلتحق بورش القوات الجوية برتبة ملازم أول ثم سرعان ما انتقل إلى سلاح المهندسين ليبدأ صفحة جديدة من حياته الخصبة..

ولقد اشترك البطل الشهيد في حرب ١٩٥٦ وكان يتحرك بجسارة وثبات تحت النيران وانفجارات القنابل التى أسقطتها طائرات العدوان الثلاثي على منطقة ( شعير ، پسیناء وكأنه يتحرك تحت الأمطار، وانعكست هذه الجرأة الفريدة على زملائه رفاق السلاح وجنوده وقد أطلقوا عليه صاحب اليد النقية ، وقد أبطل بیمناه ألوف الألغام التي بثها العدو قبل أن تنفجر فى رجالنا . وكان سريع العثور على حقول الألغام واكتشافها دون أن يتعثر مرة واحدة.

وتروى السيدة زوجته عنه ، فتتذكر إجازة قصيرة قضوها في غزة ، كان يعمل في الإسماعيلية وكنت معه ، وذهبنا إلى غزة لقضاء عدة أيام ، وسمع من زملائه أن ثمة مشكلة فى العريش، حيث يتوقعون ألغاما مدفونة بإحدى المناطق العسكرية، فتركنا واستقل سيارة إلى هناك ، وعاد بعد يومين بعد أن تطوع للقيام بالمهمة ، وفرغت الإجارة ورأيته سعيدا بتطوعه ... وقال لي ونحن في طريق عودتنا إن الجندية هي هوايتي.

وبعد ١٩٦٧ كان البطل العملاق يعمل ۱۸ ساعة ، وأحيانا ٢٠ ساعة كل يوم ، في إعداد کباری عبور قواتنا والعربات البرمائية والبراطيم وقد أشرف على صناعتها صناعة وطنية 100 % .. وعاش يحلم بيوم العبور إلى سيناء وكثيرا ما طلب من السيدة أمه أن تدعو له بالبقاء حيا حتى يتشارك فى معركة التحرير ، وقد استجاب الله لدعوات الأم وحقق أمنية البطل.

تقول الأم :

 

لقد سافر بعد زواجه عام ١٩٥٨ ، إلى بنما خارج البلاد وكان قد مضى على زواجه ثلاثة أشهر فقط ، وقال يومها إن زوجتي تستطيع الانتظار ، لكن الجيش لا يستطيع انتظاري ، وقد جاءته كبرى بناته أمنية يوم عودته إلى الوطن فى إجازة قصيرة ، وكانت أمنيته أن يحضر ميلاد أول أطفاله ، وحقق الله له أيضا هذه الأمنية حين ولدت ( أمنية ) كما سمّاها بعد وصوله إلى الوطن بساعات قليلة.

 

موسوعة علمية

قال لي المقاتل منتصر أحد الأبطال الذين جرحوا بجانب البطل الشهيد :لقد درس في الاتحاد السوفييتي وغيره وكان الشهيد أستاذا في كثير من العلوم، علمنا نراء ونقترب منه وهو أشبه بموسوعة علمية هندسية في الميكانيكا في المعمار فى التكتيك، في كل العلوم العسكرية كانت ثروته هى قراءاته وفكره وعقليته المرتبة وذهنه الحاضر أبدا ، وكثيرا ما رأيته يستمع للجنود المقاتلين ويناقشهم في قضايا مختلفة، واهتمامه بأی معلومات جديدة لا يضعف أبدا حتى إذا حصل عليها من أحد جنوده ، كما كان اهتمامه كبيرا بأدق الأمور وأبسطها وبنفس القدر من الاهتمام يقوم يومها لأداء التفتيش على جنوده ومظهرهم، حتى أحذيتهم وخيامهم وزمزميات الماء لديهم، وطوال شهر كامل قبل حرب رمضان المجيدة بقى العملاق البطل بين وحداته وقد اتصل ليله بنهاره وقل يعمل طوال أيام هذا الشهر من ٩ صباحا حتى 4

 

صباح اليوم التالي ، وكان أحيانا ينام جالسًا ، وتواجده بين قواته دائما استمر اعتبارا رئيسيًا لديه يحرص عليه حرصه على أغلى الأشياء عنده.

 

في اليوم الثاني للمعركة أصيب أحد کبارى الجيش الثالث ، وكانت الإصابة كبيرة وانزعج أكثرنا ، وإذ به پستقل سيارته بعد أن أبلغته بما حدث ويحمل معه كمية من البسكويت، ويذهب إلى الكوبرى ويجمع جنوده ويوزع عليهم البسكويت والشاى بنفسه، ويعمل معهم وبينهم في إصلاح الكوبرى بأعصاب فولاذية ، وحنانه يفيض علينا ، وقد تحولنا إلى طاقات هائلة من النشاط ، وجاءت طائرات العدو مرة ثانية بعد أن أصلحنا الكوبرى وألقت قنابلها عليه ، وتحطم جزء آخر ، وطوال الغارة الجوية لم يتركنا البطل أو يحاول اللجوء إلى أحد المخابئ القريبة منا ، بل ظل فوق الكوبرى يتحرك بخطوات بطيئة وهو يعلم أنه فوق أهداف مكشوفة ، وعلى الفور عاد الرجال إليه يعملون بكل الإيمان والصلابة التي استمدوها من قائدهم في صلاح الجزء المدمّر من الكوبرى ، وقال لنا يومها  « قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»

 

ليلة الرحيل

ویروي مقاتل آخر : من قائده : في أحد الأيام وكنا نقوم بمشروع تدريب بجانب أحد مصالح القطاع العام ، شب فجأة حريق كبير بالمصنع ، تجمعنا واشتركنا على الفور بكل إمكانياتنا في إطفاء الحريق دون أن يطلب أحد منا ذلك ، وتلقت قيادة المهندسين خطاب شكر من مدير المصنع وقد ذكر قصة تطوع اللواء البطل أحمد حمدي وضباطه وجنوده في إنقاذ المصنع. 

 

كان دائما يبادر إلى الأعمال العظيمة البارزة وقال لي ولده عبد الحميد ، من مواليد ١٩٦٣

 

كان أبي يقول لنا ، أنني أصاب بالصداع حين لا أعمل أو اقرأ ، وقد أرسل لى لوحة معدنية كانت مرفوعة فوق أول موقع إسرائیلی نسفه المهندسون بالديناميت وكانت آخر رسالته إلينا قبل استشهاده بيوم واحد ، ليلة استشهاد البطل جاء بالشيخ زين واعظ وحدات الكباري ، وكان من قبل مجندا بهذه القوات، وقرأ الاثنان فى القرآن الكريم، ثم أديا صلاة العشاء ، كان ذلك يوم ١٤ أكتوبر ١٩٧٣ ، وقام بتفقد كبارى الجيش الثالث ، وإذا بطائرات العدو تلقى قنابلها حوله ، ولم يبتعد البطل ، ولم يتحرك بعيدا عن الكباري التي شیدها بيديه ، ظل بجانبها يحاول إنقاذها وحمايتها حتى أصيب ، وتناثرت دماؤه فوق سطح الكوبرى الذى أعطاه كل حياته ، ودفن چثمانه بجواره على الشاطئ الشرقي لسيناء وصلنا صباح 19 رمضان ، وعصفوران خضر اللون يهبطان كل فجر ويقفان طويلا فوق القبر ويتجمع المقائلون لرؤية المشهد الفريد ، ويتذكرون البطل الذى قال لأسرته وهو يرحل إلى يوم ٦ أكتوبر المجيد :

 

- لو أراد الله أن يكرمنى ويكرمكم لكتب لي الشهادة وأنا أحارب بین جنودی ، في معركة تحرير سيناء ولقد أكرمه الله وكتب له أعظم الرحيل فوق أشرف الساحات وأخلدها فداء للصمود وللنصر.