أعود لمتنفسي الصحي بعد انقطاع دام لعدة شهور لظروف السفر والانتقال لمستقر جديد يضعني في مسؤولية من نوع يختلف عن ذي قبل، فصفة المغترب أصبحت تتفق ووضعي الجديد الذي يستثير بداخلي حالة الحنين بقدر كل شبر من موقعي إلى محل إقامتي بالمحروسة، ولكن وحدها تظل تحاوطني كما تحتضن الأم رضيعها بين راحتيها.
أحاول جاهدة مجابهة ومواجهة الفكرة والأمر الواقع وحتى المستقبلي المُقَدَّر، لا يهون عليّ في هذا غير دعاء الأم ويقيني بكونه الوضع المؤقت الذي يمنحني خاصية العزلة المطلوبة لفترة، وإعادة ترتيب أوراق العقل ومفاتيح الروح، فقد ظلت صفحات الجريدة على مقربة من عيناي لفترة طويلة منعتني من رؤية التفاصيل، ومرآة نفسي.
أخذت وطني معي في حقيبتي وجواز سفري، رأيته في سمائي وأنا راحلة، واستودعته في حفظ الله الحارس، ونطق به قلبي في كل مرة رن فيها هاتفي الخلوي ناطقاً "سلام على مصر في الأولين وفي كل وقت وفي كل حين"، وبرغم أن كل شيء من حولي يكاد ينطق بمصرية الصنع أو اللمسات، حتى تكاد تشعر أنك محاط بها من كل صوب وحدب تحميك وتربت على كتفك أينما حللت.
رأيت مصر في كل مغترب مصري أذاب مرارة الغربة بداخله طواعية وآثر مشاعر المُعَافَرة وإثبات الذات وتحقيق النجاح على مشاعر الانكسار والاستسلام والانهزام، رأيتها في نظرات البعض غير المصري لي وأنا أطلق النكات المصرية بعفوية وتلقائية المصريين الذين تفوق روحهم في الدعابة سكان كوكب الأرض، رأيتها في العديد من المنتجات والمصنوعات المصرية التي لا غنى عنها هنا والتي تعامل بدرجة كبيرة من التقدير والتفضيل متخطية بذلك المنتجات الأخرى.
رأيتها في جميع المهن والوظائف والحرف التي قدراً تعاملت معها وبالطبع اكتشفت مصرية أصحابها، فكل مصري هنا هو بمثابة شهادة جودة متحركة، فترى الجميع يبحث عن الطبيب المصري، والمهندس المصري، والعامل المصري، والقانوني المصري، والمدرس المصري، وغيرها من المهن والحرف.
كانت ولا تزال وستظل، قِبلَة وبوصلة ورمانة ميزان، حتى في أضعف حالاتها وأقسى أوقاتها، حتى وإن دعيت للمعارك، واستُفِزَت لخوضها، وتم الزج بها لتحمل ما لم تقم به، وسيقت لقدر شاحب رسمه البعض في مخيلته، ودُفِعَت بوازع الضمير الإنساني لتولي مسؤولية الدفاع -بالإنابة- عن بضع وعشرين كياناً... هي باقية.