يظلُّ عدمُ التفريط في القدس تشبُّثاً بالأمل، وانتصاراً لقضيتها حبلاً متيناً وعروةً وُثْقَى توحِّد بين أفراد الأمة عربيةً كانت أم إسلامية.. بل لا أكون مبالِغاً حين أقول إن البشر الأسوياء يتراصون معنا، ويقفون في ذات الخندق الذي ما غادرناه منذ عقودٍ، تتعدد القصائد، ويأتي إبداعُ الشعراء غزيراً متنوعاً إزاء ما تعانيه "القدس" اليوم تحت سيطرة الاحتلال الصهيوني..!!
لأجلكِ يا مدينةَ الصلاةْ أصلّي...لأجلك يا بهيّةَ المساكنْ... يا زهرةَ المدائنْ
ياقدسُ.. ياقدسُ..ياقدسُ... يا مدينةَ الصلاةْ أصلّي ..
أتت هذه القصائد كرسائلَ.. طمأنةً للمدينة المقدسة اعتماداً على خطَّيْن أصيلين:أولهما..الحبُ العميقُ والحزنُ الجَمْرُ على مأساتها، وثانيهما..الأملُ البالغُ حدَّ اليقين المطلق في استرداد قدس الأقداس...لكن لقصيدة"زهرة المدائن"التي شدتْ بها جارةُ القمر "فيروز" من كلمات وألحان" الأخويْن رحباني"مذاقاً يفوق حدَّ السحر..!! ولمن لا يعرف "الأخوين رحباني"..!! فالاسم يأتي اختصاراً لاثنيْن من الإخوة هما عاصي ومنصور رحباني من عظماء الموسيقى العربية والعالمية، إضافة إلى كونهما شاعريْن من طرازٍ فريدٍ وموزعيْن موسيقييْن بارعيْن..!!نعود إلى قصيدة"زهرة المدائن"ومذاقِها الذي يُحلِّق في مناطقَ طازجةٍ من الإدهاش عقْب نكسة يونيو عام1967 واحتلال القدس الشرقية...أكان لوجود مبدعيْن أخويْن تأليفاً وتلحيناً ضمانٌ لنجاح القصيدة لتصير أحدَ أشهر الأغاني العربية المهداة إلى القضية الفلسطينية، وواحدةً من أفضل أعمال جارة القمر"فيروز"؟!! أم أن هناك عواملَ أُخَرَ جاءت لتجعلها نموذجاً ساحراً للقصيدة القومية المُغنَّاة..؟!!
عيوننا إليك ترحل كلَّ يومْ...تدور في أروقة المعابدْ
تعانق الكنائس القديمةْ...وتمسح الحزنَ عن المساجدْ
يا ليلةَ الإسراءْ...يا دربَ من مرّوا إلى السماءْ
عيوننا إليك ترحل كلَّ يومْ...وإنّني أصلّي
تأتي مقدمة اللحن أشبه بالموج الهادر حيث غَلَبَ على المقدمة استخدامُ الآلات النحاسية،وكأننا حال استماعنا ننتقل بأرواحنا إلى ميدان المعركة وتبدو أصوات الآلات النحاسية أشبه بصوت"البوروجي"الذي دائما مايستخدم في الحياة العسكرية،وهي لفظةٌ تركيةٌ من"بورو" وتعنى البوق والنفير و"جي"لاحقةٌ لغويةٌ تركيةٌ تفيد الحرفة فيكون المعنى النافخ في البوق،نجح المطلع اللحنيُّ في إدخالنا أرض المعركة مباشرةً دونما تمهيد،ويدخل صوت فيروز حاداً دونما مزاحمةٍ من عزف آلةٍ موسيقيةٍ أو إيقاعٍ...!! لتَرْسُخ المعاني في الأرواح واضحةً جليَّةً لتتوالى الصفات المقدسة والعريقة لمدينة"القدس"(مدينة الصلاة/بهية المساكن/زهرة المدائن) بعد استحضارها ماثلةً للعيون مثلما هي ماثلةٌ في الأرواح بمُفْتَتَح(لأجلك)؛ليلعب التكرار دورَه العظيم في(ياقدس)قاصداً القداسةَ عَلَماً ومعنى..!!
لقد استطاعت القصيدة تجييش المشاعر دعماً لقضية القدس لا فرق بين مسلمٍ أو مسيحيٍّ؛فالكل جمعتْه رايةُ القضية القومية الواحدة؛لأنها-أي القدس-مدينة الأديان؛حيث تغنَّتْ فيها بمعاني القومية والتسامح الديني بين مسلمي ومسيحيي العرب تحت راية القضية القومية الواحدة،مع التركيز على ارتباط عنصري الأمة بها ارتباطاً ينفي مجرد التفكير في نسيانها(عيوننا إليك ترحل كل يوم) تفتتح الدفقة وتختمها.
الطفل في المغارةْ...وأمه مريمْ وجهان يبكيان
لأجل من تشرّدوا،لأجل أطفالٍ بلا مَنازلْ...لأجل من دافع واستُشهِد في المداخلْ
واستُشْهِدَ السلامْ...في وطن السلامْ...وسقط العدلُ على المَداخلْ
حين هوت مدينة القدس تراجع الحبُّ...وفي قلوب الدنيا استوطنت الحربُ
ومثلما استحضرت القصيدةُ حادثةَ"الإسراء والمعراج"وقيمتها إسلامياً وارتباط الصلاة بأولى القبلتين،تستعيد القصيدةُ وجه"المسيح" وأمه الصدِّيقةَ"مريم"وقد علا ملامح وجهيهما الأسى لشدة ما يرتكبه المحتل من أهوالٍ كتشريد الأطفالٍ والفتْك بالمدافعين ..!! لقد تمَّ قتْلُ السلام وإسقاطُ العدل وليس الأمر بالشيء الهيِّن حين تستوطن الأرواح الحرب بعدما غادرها الحب...أوقعت القصيدة في فخاخ المبالغة؟!!أم أن مايرتكبه المحتلُّ اليوم على أرض"غزة"يفوق ماارتكبه النازيون من مذابحَ همجيةٍ دون أن ترفَّ عينٌ من أعين أصحاب القرار العالمي القادرين على فرْض إرادتهم ..؟!!
الغضب الساطع آتٍ...وأنا كُلِّي إيمانْ
الغضب الساطع آتٍ...سأمرُّ على الأحزانْ
من كل طريق (آتٍ)...بجياد الرهبة (آتٍ)
وكوجه الله الغامر (آتٍ، آتٍ، آتٍ)
لن يُقفلَ بابُ مدينتنا، فأنا ذاهبةٌ لأصلّي
سأدقّ على الأبوابْ...وسأفتحها الأبوابْ
وستغسل يا نهر الأردنْ...وجهي بمياهٍ قدسيةْ
وستمحو يا نهر الأردنْ...آثار القَدَم الهمجيةْ
لقد نجح"الأخَوَان رحباني"في التعبير لحناً عن الامتزاج والتجانس بين عنصري الأمة في مواجهة العدو الصهيوني،وذلك بالمزج مابين دقَّات أجراس الكنائس وتيمة الإنشاد الصوفيِّ أو ما يُشْبهُ أذان الصلاة،ويأتي المبتدأ الموصوف ب(الساطع)والخبر(آت) للدلالة على التمكن التام من إزالة كل الغيوم العارضة،وكأننا نستحضر النص القرآني(أتى أمر الله فلا تستعجلوه)،وتتكرر لفظة(آت) عَمْداً مع تمام الثقة باستخدام(لن يُقفلَ بابُ مدينتنا)واشتراك مجموعة الكورال بصوتٍ هادرٍ في نطق لفظة"آت"كأنه قرار الأمة الذي لابد أن تعيَه الدنيا،وفي لحنٍ مُتبادَلٍ ما بين صوت"فيروز"وأصوات مجموعة الكورال تتصاعد القصيدة مجتازةً كل الحواجز في قوةٍ إلى نهاية اللحن، وقد سيطرت عليه أصوات مجموعة الكورال حتى الختام موحيةً بجماهيرية الموقف من خلال حروفٍ تناسقت كلماتها غايةً في القوة والحماسة..!!
إن ما نحياه اليوم في"غزة" الباسلة هو بشارات الفجر الساطع والغضب الساطع الآتي رغم جسامة التضحيات،والأرواح التي رَخُصتْ دفاعاً عن"الأقصى" بعدما فاض الكيْلُ من اقتحامات المتطرفين الصهاينة وتدنيسه، وسيولُ الدماء الطاهرة التى لا تجف لن تذهب سدى في سبيل تحرير"فلسطين"من النهر إلى البحر...إنهم يروْنه بعيداً ونراه قريباً...وإننا لموقنون بنصر الله
الغضب الساطع (آتٍ)...بجياد الرهبة (آتٍ)
وسيُهْزَمُ وجهُ القوةْ...البيت لنا...والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس...بإيدينا...للقدس سلامٌ.