الخميس 21 نوفمبر 2024

ثقافة

فلسطين أيقونة المقاومة في عيون الأدب العالمي

  • 30-11-2023 | 18:12

عبدالله أديب القاوقجي

طباعة
  • عبدالله أديب القاوقجي

فلسطين.. غدت هذه الكلمة أيقونة المقاومة التي تلهم الشعراء والكتاب على كرّ الأيام وتتابعها؛ فمذ عام سبعة عشر وتسعمائة وألف للميلاد والفلسطينيون يعانون من آثام وعد بلفور الآثم اللعين الذي قدم أرضهم وطنا لليهود يعيشون فيه تخلصا من إزعاجهم للدول الأوربية التي فاض بها الكيل من ويلات اليهود وإفسادهم، وأضحت فلسطين منذ ذلك العهد مرتعا لليهود ينتقلون إليه ويعيثون فيه فسادا.. ولا يزال الفلسطينيون يقاومون بكل ما أوتوا من قوة وبأس.

ولا توجد مقاومة مشروعة في مكان ما أو زمان ما إلا وسار الأدب في ركابها داعما ومباركا خطواتها؛ فالوطنية الصادقة والعقيدة الراسخة مادة خصبة للشعراء والأدباء العرب على مختلف توجهاتهم وعقائدهم، ولذا لا نجد شاعرا أو أديبا جاء في عصر ما بعد نكبة فلسطين إلا وأسهم بمادته الأدبية في تلك القضية وقدم أنبل مشاعره وأنفس أعماله غناء بمجدها وبكاء على حالها، مؤمنين بأن توظيف الأدب في الدفاع عن حقوق الإنسان هي أسمى وظائفه، وأنفذ خصائصه. 

ويعد أول من أطلق مصطلح "أدب المقاومة" الأديب الفلسطيني "غسان كنفاني" صاحب رواية "عائد إلى حيفا" والذي اغتالته يد فجور من أيادي المحتل الغاشم، ويهتم هذا النوع من الأدب بالكتابة عن أوضاع فلسطين السياسية تحت الاحتلال، كما يهتم بأحوال الفلسطينيين المعذبين  الذين يعانون الجوع والمرض والتهجير القسري من لدن العدو الإسرائيلي، وبهذا يندرج تحت أدب المقاومة كل نص أدبي يتناول حال الإنسان في معركته مع الآخر المعتدي؛ من حيث بيان جهاد المعتدى عليهم ووصف حياتهم أو رثاء الشهداء منهم، أو من حيث بيان طريق النجاة من يد هذا المحتل، أو من حيث بيان جرائم المعتدي وفضح أفعاله.
   إن فلسطين المباركة هي المكان الوحيد على ظهر الأرض الذي اجتمع أتباع الديانات السماوية الثلاث على تعظيمه؛ فقد أسرى إليه نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإليه اتجه بداءة في صلاته، وفي بيت لحم ولد سيدنا عيسى المسيح عليه السلام وعلى أرضه نشأ، وإليه هاجر سيدنا موسى الكليم عليه السلام، ومن هنا شغلت فلسطين عاطفة الشعراء وعقولهم، ولم لا وهي مهوى الأفئدة ومحط الأنظار وبوصلة الأرواح وموطن الفداء والتضحية، فها هو "أحمد محرم" يشكو من ظلم اليهود ومن الذين فرطوا في القدس:
إيه فلسطين اصبري أو فاجزعي        وكفى بصبرك في الحوادث مغنما
ظلم اليهود بنيك حين تحكموا          وأرى الألى باعوك كانوا أظلما
وها هو "أبو القاسم الشابي" يسمع أنينها ويرثى لها:
فلسطين الحبيبة كيف أحيا         بعيدا عن سهولك والهضاب
تناديني الشواطئ باكيات         وفي سمع الأنام صدى انتحاب
وها هو "إبراهيم طوقان" يعلن حبها دينا:
ديننا حُبك يا هذا الوطن          سرُّنا فيه سواء والعلن
وها هو "صالح الشرنوبي" يقسم بالفداء:
لك المجد في الأرض منذ القدم            فمدّى جناحيك صوب القمم
فقد أقسم العرب أن يفتدوك                 فإما وجود وإما عدم
وها هو "الجواهري" يدعو ألا تكون فلسطين اليوم هي أندلس الأمس:
ناشدتُ جندكَ جندَ الشعبِ والحرسا                أن لا تَعودَ فلسطينٌ كأندلُسا
ناشدْتُك الله أن تسقي الدماءُ غداً                  غَرْساً لجَدِك في أرجائِها غُرسا

وعلى نهج الشعراء جاء الكتاب ليتناولوا القضية في أدبهم فنجد من هذا الأدب الروائي؛ رواية "رأيت رام الله" لمريد البرغوثي، ورواية "باب الشمس" للكاتب "إلياس خوري"، ورواية "الطنطورية" للكاتبة "رضوى عاشور"، ورواية "الخرز الملون" للكاتب "محمد سلماوي"، ورواية "زمن الخيول البيضاء" للكاتب "إبراهيم نصر الله". 
 ولا يستطيع الإحصاء أن يقدم لنا تقريرا عن إسهامات الشعراء والكتاب في دعم القضية الفلسطينية؛  ففي كل يوم بل في كل ساعة ينظم الشعراء ويكتب الأدباء دعما ومشاركة للمقاومة الفلسطينية.

لكن ما أريد أن أحدثك به قارئي العزيز ليس عن إسهامات العرب في أدب المقاومة الفلسطينية، ولكن عن إسهامات غير العرب في ذلك الأدب النفيس؛ فقد انمازت فلسطين من كون أدبها فريدا في مادته شاهدا على عصره جاذبا للأدباء أصحاب الضمائر اليقظة والقلوب الحية من كافة الجنسيات؛ فلم تقتصر الكتابة عن فلسطين ومقاومتها على الأدباء العرب فقط - وإن كان فيهم الكفاية والغناء- وإنما وجدنا بعض الأدباء العالميين المنصفين تناولوا في أدبهم القضية الفلسطينية، ومن البدهي أن يهتم المسلمون غير العرب بالقضية؛ فالمنزع الديني عامل مشترك يجعلهم مشاركين في القضية، فهذا مثلا "آية الله الخميني" الذي جعل آخر يوم جمعة من شهر رمضان يوماً للقدس لتذكير العالم أجمع بما يتعرض له أبناء فلسطين من ظلم، وقهر، وقسوة، وحرمان، ومن بعده جاء السيد "علي الخامئني" الذي وجه النظار بقوله: "إن على المثقفين، والكتاب، والفنانين، والمتصدين للإعلام في العالم الإسلامي الشعور بالتكليف إزاء القضية الفلسطينية، وتوعية الرأي العام العالمي بالظلم منقطع النظير الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم، والاهتمام بجميع الأبعاد، والأساليب الفنية لهذا الغرض"، وعلى إثر هذه الدعوة قام الشعراء الإيرانيون بدعم القضية الفلسطينية، ومنهم الشاعر "كاظم كامران شرفشاهي" الذي يقول ما ترجمته:
"يا قبلتي الأولى لا يستطيع أحدٌ أن يفصلك عنّي
 لا أحد 
وأنا ما زلتُ حتى الآن آملُ في الوعودِ الإلهية 
 ولن أقبلَ أيّة قصاصة ورق باسم ” الوثيقة ” 
مُحطّمٌ منَ العذاب
 وما أكثرَ الآلام التي بقيت مكبوتة وكأنما الرياح المثيرة للغبار لا تسمح بالتفتح
فمنذ أمد بعيد لا يصل الحق إلى صاحبه". 

أما المثير للاهتمام أن نجد من غير العرب وليس على دين الإسلام من يهتم بالقضية الفلسطينية، فهذا يؤكد حق هؤلاء الفلسطينيين في جهادهم ودفاعهم عن أرضهم، ومن هؤلاء الأديب العالمي "غونتر غراس" الألماني صاحب جائزة "نوبل" عن روايته "طبل الصفيح" والذي كتب قصيدته: " What Must Be Said ما يجب أن يقال" ونشرها في إحدى الصحف الصادرة في ميونخ عام اثني عشر وألفين للميلاد، وطالب فيها بفرض الرقابة على أنشطة "إسرائيل" النووية، لأنه لا يحق لها أن تمتلك هذا السلاح الذي يشكل خطراً على السلم العالمي، فيقول ما ترجمته:
"أعترف: لن أستمر في الصمت،
لأنني سئمت
من نفاق الغرب
وأتمنى
أن يتحرر الكثيرون من هذا الصمت
ومطالبة مسببي هذا الخطر المعروف
الاستغناء عن العنف
وفي نفس الوقت التشبث
بالمطالبة بمراقبة مستمرة ودون إعاقة
للإمكانيات الذرية الإسرائيلية"

فالألمان الذين سكتوا طويلا تحت وطأة أفعالهم النازية ضد اليهود في الماضي فاض بهم الكيل وخرجوا عن صمتهم وانتقدوا الصهاينة الذين يضربون بكل الاتفاقيات الدولية عرض الحائط ويفعلون الأفاعيل النكر بالشعب الفلسطيني دون خوف من فرض عقوبات دولية أو تحرك أممي لأنها ربيبة الولايات المتحدة الأمريكية ويدها العليا المدللة في منطقة الشرق الأوسط.   

وقد أكد "غراس" أنه التزم الصمت زمناً طويلاً بسبب الفزع الذي أخرس ألسنة الناس زمنا بسبب الحكم الشائع بمعاداة السامية، لكنه لم يستطع أن يظل صامتا إزاء هذه الأحداث الإجرامية العدائية التي تقوم بها إسرائيل، ويصف ذلك بقوله: 
أشعر بالكتمان العام لهذه الحقائق،
الذي خضع له صمتي،
ككذبة مُرهقة
يقود بالضرورة حالما تُجوُهِل
إلى احتمال العقوبة
والحكم بـ"المعادات للسامية" المعتاد.

كما أنه انتقد الحكومات الألمانية التي تحابي إسرائيل كنوع من التكفير عن ذنبها في الماضي بقوله:
الآن، ولأن بلدي،
من حين لآخر يُطلب منه
التعويض عن جرائمه القديمة
التي ليس لها مثيل،
يزود عمليا/تجاريا بحثا
إسرائيل بغواصة حربية مرة أخرى.

وكان من تبعات هذه القصيدة مناداة بعض الصهاينة بسلبه جائزة "نوبل" التي حصل عليها، ومنعه من دخول إسرائيل، ما جعل السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية آنذاك "بيتر أنجولد" يؤكد أنّ الجائزة منحت لغراس بسبب جدارته الأدبية ولا علاقة لذلك بالمواقف السياسية.

ومن أجناس الآداب العالمية التي اهتمت بالقضية الفلسطينية "أدب الرحلة" الذي نقل المشاهد والمعاهد الفلسطينية في نصوصه، فهذه مدينة القدس تظهر متلألئة في يوميات الكاتبة الإيطالية "ماتيلدا سيراو" في روايتها (بلد المسيح) والذي وصفت فيها رحلتها إلى القدس، واصطحبت المؤلفة القارئ ليستكشف معها روح تلك الأرض المقدسة التي رأت السيد المسيح وسمعت صوته، ذلك المكان الذي انماز من ظواهره المادية؛ فها هي أسوار مدينة القدس وأبوابها ورائحتها وتاريخها وكل شيء فيها يعكس أصالة هذه المدينة، إنها صورة الفردوس في الأرض، ولكنها ترتدي ملابس الحداد، البيوت والشوارع الضيقة التي تصعد وتهبط بين التلال، والأزقة والأحياء والحانات والمتاجر المظلمة، ومعبد سليمان وجامع عمرو الذي يبدو وكأنه قطعة فنية خرجت في التو من بين أيدي أعظم الفنانين.

وتتساءل المؤلفة "ماتيلدا سيراو" من هم سكان القدس من بين الذين يعيشون بين جدرانها المقدسة، من منهم الذين يستحقون أن يطلق عليهم هذا المسمى الشريف، بالتأكيد ليس اليهود مع أنهم يشكلون أكثر من نصف سكان القدس الآن؛ لأنهم كانوا مشتتين لا أمة لهم ولا شعب، وأتوا من كل بقاع الأرض ليعيشوا هنا لكنهم يعيشون في خوف دائم؛ لأنهم يرون في الآخر عدواً لهم، ويشعرون بالاضطهاد، ويعيشون في منازل صغيرة مظلمة هى أسوأ منازل القدس. وعلى الرغم من سيطرتهم على التجارة الرئيسة في القدس فإنهم لا يملكون الشجاعة ولا السعادة، ضعفاء عجزة.. متطفلون.. يسلبون هواء المدينة المقدسة وشمسها. 

وكذلك من الكتاب العالميين الذي جعلوا روايتهم في أرض فلسطين الكاتب الفرنسي "جان جينيه" الذي كتب رواية: "أسير عاشق" وقد قام "كاظم جهاد" بترجمتها إلى العربية، وهي رواية تنتمى إلى أدب الشهادة، حيث سجل "جينيه" أيامه التي قضاها في فلسطين مما يجعلها إضافة أدبية للقضية الفلسطينية.

وكذلك رواية (نجمة هائمة) التي صدرت عام 1992، للكاتب "جون ماري جوستاف" الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2008، وتدور أحداث الرواية في أربعينيات القرن العشرين، وهى تساوي بين الاقتلاع الفلسطيني ومأساة اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، من خلال شخصية "إستر" اليهودية التي رفضت البقاء في القدس، وقررت العودة إلى فرنسا تضامناً مع "نجمة " الفلسطينية التي لم تلتقيها سوى مرة واحدة عام 1948، توقف خلالها الزمن ليسجل لحظة خروج "نجمة" من فلسطين، ودخول "إستر" إليها، لحظة تلاقت فيها عيون الفتاتين وتبادلا فيها خيوط المأساة.
   وغير هؤلاء كثير من الأدباء العالميين الذين ما زالت قلوبهم يقظة وضمائرهم حية، ولم يسيروا في ركاب الهيمنة اليهودية التي تسيطر -وللأسف الشديد- على مجريات الأمور الإعلامية والتجارية على مستوى العالم.   
   وبعد فلا شك أن جهاد الكلمة له يد عليا تفوق أحيانا يد السلاح، وتكون آلامها أدوم أيجاعا وأبقى أثرا؛ فآلام السلاح تداوى وتضمد أما آلام الكلمة فلا علاج لها ولا ضِمادة، وهي عسية بأن تكون محركا للشعوب وللضمائر الإنسانية لمؤازرة الفلسطينيين في قضيتهم ومقاومتهم المشروعة.  
 

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة