الثلاثاء 7 مايو 2024

المسرح المدرسي الفلسطيني.. مقاومًا


د. سيد علي إسماعيل

مقالات9-12-2023 | 16:02

د. سيد علي إسماعيل

تُعدّ مدرسة «روضة المعارف الوطنية بالقدس» -المعروفة بالمدرسة العمرية حالياً- رائدة المسرح المدرسي في فلسطين، فقد أنشأها الشيخ «محمد الصالح» عام 1906، بوصفها أول مدرسة وطنية في تاريخ فلسطين التعليمي الحديث تُدرِّس علومها باللغة العربية. هذه المدرسة -التي أصبحت كلية عام 1926- بها قاعة كبرى متعددة الأغراض، ومن أغراضها إقامة حفلات التخرج كل عام، وإقامة العروض المسرحية التي تنوعت بين عروض وطنية وقومية وتاريخية أو عروض مقاومة للاحتلال الإنجليزي وللمخططات الصهيونية.

في عام 1911 زار المدرسة العالم الأديب الهندي «حسن نظامي الدلهوي»، وشاهد مسرحية «صلاح الدين الأيوبي»، وسجل ذلك في مذكراته، قائلاً: "في المساء بعد المغرب دعاني الشيخ محمد الصالح مرة أخرى، فشاهدت المسرحية الحربية ريتشارد الإنجليزي والسلطان صلاح الدين، التي قام بتمثيلها تلاميذ المدرسة مع المدرسين، ويجب أن نتمعن في الهدف الأصلي منها".

وفي عام 1912 كانت العروض المسرحية التي يؤديها الطلاب داعمة للمدرسة، بوصفها عروضاً احترافية، يشاهدها الجمهور مقابل شراء التذاكر!! وحول هذا الأمر، قالت جريدة «القدس»: "غداً ستشخص مدرسة روضة المعارف رواية «طرابلس الغرب»، فنحث الأهالي على ابتياع أوراق الدخول لحضور هذه الرواية المؤثرة مساعدة لهذه المدرسة الوطنية". وهذا النشاط الفني، يؤكد رجاحة عقل الشيخ محمد الصالح وتدبيره التربوي! فعلى الرغم من كون المدرسة إسلامية إلا أنها متطورة مؤمنة بالمسرح كونه فناً هادفاً يُمكن استخدامه في التعليم والتربية والتمسك بالتاريخ ورموزه من أجل المقاومة الناعمة ضد الاستعمار والمخططات الصهيونية! والدليل على ذلك ما كتبه «نجيب نصار» صاحب جريدة «الكرمل» الفلسطينية عام 1921 حول ما شاهده من تطور تعليمي، وأسلوب متقدم في التدريس، يمزج الدراسة النظرية بالدراسة العملية، ويربي جيلاً جديداً يعتمد على إمكانياته الذاتية، ومهاراته المتنوعة، ويحقق مشروع الشيخ محمد الصالح، المبني على العلم والقوة!! وأهم ما فيها -من وجهة نظري- أنها ذكرت أحداث إحدى المسرحيات التي يمثلها طلبة الروضة، لنعرف أن المسرحيات المُمثلة، هي مسرحيات تاريخية تُظهر تاريخ انتصار العرب والمسلمين وقوتهم على مر التاريخ، مثل مسرحية «ذي قار» التي انتصف العرب فيها لأول مرة من الفرس على يد بطل الموقعة هاني بن مسعود الفارس الأبي المشهور، يمثل في الرواية إباء العرب ونجدتهم، فملك العرب النعمان فضل الموت على تزويج كريمته بكسرى ملك الفرس، الذي دانت له الرقاب وركعت أمامه الملوك وخضعت له القبائل والممالك، وذلك محافظة على النسب والحسب والعصبية.

وفي مارس 1925 كانت المقاومة المسرحية المباشرة لروضة المعارف، عندما نشرت جميع الصحف الفلسطينية خبر وصول اللورد «بلفور» إلى فلسطين، وسط استياء ورفض شعبي من الجميع لهذه الزيارة المشئومة للمشئوم صاحب الوعد المشئوم بلفور!! لذلك قامت المدرسة بنشر إعلان عن تمثيل مسرحية بطل الشرق الكبير «الأمير عبدالكريم» في ثلاث حفلات، الأولى لطلاب المدارس، والثانية للسيدات، والثالثة للرجال!! وهكذا نجحت المدرسة في وضع بصمتها -رافضة زيارة بلفور- بصورة عملية من خلال نشاط طلابها، عندما عرضت مسرحية حول أشهر مجاهد عربي معاصر قاوم استعمار بلاده، وهو المجاهد المراكشي «عبدالكريم الخطابي»، متخذة منه نموذجاً معاصراً لموقف كل فلسطيني حُر رافض لوجود الاحتلال الإنجليزي!! وهذه الرسالة وصلت إلى المحتل الإنجليزي، فحاول إيقاف عرض المسرحية دون جدوى -كما أخبرتنا جريدة «الكرمل»- حيث مُثلت المسرحية في القدس، وخارج القدس أيضاً، ونشرت الصحف ذلك، ومنها هذا الخبر الذي نشرته جريدة «فلسطين»، قائلة: "مثل تلامذة مدرسة روضة المعارف في القدس مؤخراً رواية الأمير عبدالكريم، فكان الإقبال عليها عظيماً جداً. وقد أجاد الممثلون في أدوارهم غاية الإجادة، وهم ينوون تمثيل هذه الرواية في يافا ونابلس وحيفا".

وفي عام 1929 أقامت المدرسة حفلتها السنوية، وحضرها سماحة مفتي القدس الحاج «أمين الحسيني» رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وكبار رجال الدولة، وقام فريق من تلامذة المدرسة بتمثيل مسرحية غنائية ذات فصلين تتضمن موعظة أخلاقية جميلة، موضوعها «العلاج الشافي لمرضنا الاجتماعي وواجب الأغنياء». كما كانت المدرسة تسمح لعروض مسرحية أخرى وطنية تُعرض في قاعتها من خارج المدرسة! ففي فبراير 1931 كانت القاعة الكبرى لروضة المعارف مسرحاً لعرض مسرحية «شهيد الراية العربية» لجمعية التمثيل الفلسطينية، وذلك مساعدة منها لنقابات العمال العرب بالقدس. وتم العرض يوم 20 فبراير، وكما وصفته جريدة «الجامعة العربية» قائلة: "إنه مأساة وطنية تاريخية محزنة، ذات مغازٍ عديدة، ومعان سامية شريفة. لذلك كان الإقبال حسناً والتمثيل متقناً بقدر الإمكان. ومما هو جدير بالذكر أن كلية الروضة تبرعت بتقديم المكان مجاناً لهذا المشروع الخيري".

هذا النشاط الفني جعل المدرسة تشكل لجنة خاصة بها عام 1934، هي لجنة «الفنون الرفيعة»! وقد كتب أحد أعضائها -وهو «سالم بحور» بالصف الثالث الاستعدادي- كلمة عنها قال فيها: تألفت في كلية الروضة هذا العام، لجنة الفنون الرفيعة، جاعلة هدفها الأسمى قول رسول الله: "إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه"، واتقان العمل إحدى مزايا الرجل الناهض، الذي يسمو بنفسه إلى التفوق، واكتساب معالم الفَخار، بخلاف الكسول المهمل، فإنه لا يرجى له خير ولا فلاح، وكذلك العامل الذي لا يتقن عمله، ولا يجيده ويظهره بمظهره اللائق الجميل، فإنه لا يجني الثمرة المطلوبة، وقد رغبت اللجنة أن تأخذ الطلبة بهذا المنهج القويم، وهم في دور التربية والتهذيب، حتى ينشأ الواحد منهم، مفطوراً على حُسن الذوق، وحُب الجمال، ورغبة الإجادة والإفادة، وهذا يبث فيه النشاط المتواصل، والجهاد الشاق، والاعتماد على النفس، والاعتداد بما يقدم من عمل، يرفعه إلى مراتب الكمال والعز، ويسمو به إلى مواطن الفخار والمجد. ولهذا الإتقان نواح عدة، منها الموسيقى، والرسم، والنجارة، والأشغال اليدوية. وفي هذه الفروع المتعددة، ينمو الحس، ويرقى الشعور، وترق المدارك، وتجد الأذن والعين، واليد -يسوقها الفكر الصائب- مجالها الفسيح، ونزوعاً حياً، نحو مراتب الحسن والجمال. فنرجو لهذه اللجنة كل رواج ونجاح ولأعضائها كل تقدم وفلاح.. وبالفعل كانت ثمرة هذه اللجنة، قيام بعض أعضائها بتمثيل فصل مسرحي هزلي يحكي عن نوع من كسب العيش، وحسن المعاملة، وحسن التخلص، قام به كل من: جميل الخطيب، إسحق العوري، حسين العسود، داود فيضي.

والجدير بالذكر أن المدرسة أصدرت مجلة خاصة بها اسمها «مجلة روضة المعارف»، وقد سجلت هذه المجلة ريادة غير مسبوقة في تاريخ المسرح الفلسطيني بأكمله، حيث نشرت أول نص مسرحي مدرسي، مكتوب خصيصاً للتمثيل المدرسي، وليس نصاً مسرحياً قامت بتمثيله المدرسة!! ومن هنا كانت ريادة روضة المعارف ومجلتها في هذا المجال عام 1934. وقد قامت إدارة المجلة بكتابة تمهيد لهذا النص المسرحي، قالت فيه: "ننشر هذا الفصل الذي قام بتمثيله في حفلة «ختم القرآن» بكلية الروضة السادة: جمال بيبي في دور (علي)، وعباس بامية في دور (سليم)، وجمال عابدين في دور (هشام). وبقراءة هذا الفصل تتعرف معناه ومغزاه". والحقيقة أن من يقرأ هذا النص يكتشف تسجيلاً واقعياً ووثيقة تاريخية توثق أفعال مدارس التبشير في فلسطين وممارساتها لإبعاد الطلاب عن القرآن!! كما أن المسرحية تبين الفرق بين مدارس التبشير ومدرسة روضة المعارف، لا سيما وأن المسرحية مُثلت في إحدى حفلات ختم القرآن السنوية!!
وإحقاقاً للحق لم تكن القاعة الكبرى لكلية روضة المعارف الوطنية بالقدس مسرحاً خاصاً للعروض المدرسية أو العروض الفلسطينية فقط!! بل كانت مسرحاً للعروض الزائرة وتحديداً عروض بعض الفرق المسرحية المصرية، مثل فرقة رمسيس المسرحية أو «فرقة يوسف وهبي»! حدث هذا في أبريل 1930، وحدثتنا عنه بعض الصحف الفلسطينية -مثل الحياة، ومرآة الشرق- وعلمنا منها أن فرقة يوسف وهبي مثلت داخل القاعة عدة مسرحيات في عدة أيام، مثلت فيها بعض المسرحيات، منها: «البؤساء» و«وراء الستار» و«الكوكايين». والمسرحية الأخيرة كانت برعاية اللجنة التنفيذية لمؤتمر السيدات العربيات، وتم صرف ريعها لإعانة عائلات المحكوم عليهم بالإعدام بعد أحداث ثورة البراق. فعلى سبيل المثال نشرت جريدة «الحياة» مقالة نقدية عن أول عرض تمّ في القاعة، تحت عنوان «البؤساء على مسرح الروضة»، قالت فيها: 

يشعر المشاهد لأول نظرة يلقيها على قاعة الروضة بنقص في النظام الذي عودنا إياه نابغة الفن الأستاذ يوسف بك وهبي. وليس اللوم في ذلك على فرقة رمسيس لأنه لم يكن لها أن تشرف على نظام القاعة ووضع أرقام على الكراسي ليعرف المشاهد المقعد الذي سيأخذه. أما الإقبال فيعتبر حسناً بالنسبة لرواية تمثلها فرقة عادية ولكنه قليل بالنسبة لشهرة الأستاذ وشوق الجمهور لتمثيله.

ولعل هذا يعود إلى ارتفاع أسعار التذاكر مع الضائقة المالية من جهة، وموقع مسرح الروضة وبُعده من جهة أخرى. وكان أكثر الحاضرين من الشبان الذين يقدرون الأستاذ حق قدره. وقد خصصت الصفوف الأمامية للسيدات العربيات اللاتي لم يحجمن عن حضور روايات الأستاذ وهبي الأدبية، وهذه ظاهرة من ظواهر النهضة النسائية في فلسطين. وقد بدأت الموسيقى تعزف قبيل الساعة التاسعة وبدأ التمثيل في الوقت المعين. وقام الأستاذ وهبي بدور جان فالجان أولاً والعمدة أخيراً فأجاد كل الإجادة ولم يترك فيكتور هوغو - مؤلف المسرحية - أثراً في نفوس قراء روايته أكثر مما تركه الأستاذ وهبي في نفوس مشاهديه. وقام «حسن البارودي» بدور الكاهن و«دولت أبيض» بدور الراهبة فكأنهما لم يخلقا إلا ليكونا من رجال الدين من حيث الوقار والصلاح.

وقامت السيدة «زينب صدقي» بدور «مادلين» والآنسة «أمينة رزق» بدوري «بتي جرفيه» و«كوزيت» وقد أجادتا ونالتا إعجاب النظارة وكذلك قومسير البوليس. ولا نبخس باقي الممثلين حقهم فقد قام كل بدوره خير قيام بالرغم من تحملهم مشقة السفر وعدم ملاءمة المسرح. وجدير بنا أن نشير إلى النشاط الذي أبداه مدير المسرح في سرعة تغيير الستائر في مسرح ينقصه الاستعداد الفني وبهذه المناسبة نلخص الكلمة التي ألقاها سكرتير المسرح فقد شكر الحاضرين بلسان الأستاذ وهبي وطلب إليهم أن يغضوا الطرف عن قصور يبدو بسبب ضيق المسرح الذي يجب أن يكون عملياً أكثر منه فنياً وأن الأستاذ فضل هذا المسرح على غيره احتراماً للرأي العام وتقديراً للفكرة القومية. وقال إن الأستاذ ليس من طلاب المال أو الشهرة فهو يقوم بواجب مقدس نحو الشرق وغايته نشر الثقافة وتقوية الروابط التي تجمع بين القطرين الشقيقين.

وأخبرتنا الصحف أيضاً أن فخري بك مساعد رئيس المجلس البلدي في القدس أقام حفلة شاي دعا إليها عدداً من أهل الفضل لتكريم نابغة فن التمثيل العربي وحامل لوائه الأستاذ يوسف وهبي بك، وذلك في بيته العامر الواقع في محلة الشيخ جرّاح. كما قالت الصحف أيضاً إن فرقة يوسف وهبي مثلت رواية «الجحيم» على مسرح روضة المعارف وكانت حفلة خاصة للسيدات فقط، كما أنها ستمثل أيضاً رواية «توسكا»! وقد خصّت جريدة «الحياة» مسرحية «ما وراء الستار» بكلمة، قالت فيها: 

في مساء الخميس مثلت فرقة رمسيس هذه الرواية على مسرح روضة المعارف وكان الإقبال على هذه الرواية أكثر منه على رواية البؤساء، ورفعت الستارة في الوقت المعين. وخلاصة الرواية أن سلفو يدير وامرأته سيمونتا الحسناء مسرحاً في مدينة فينسيا البندقية المشهورة بحفلاتها المقنعة وأعياد الكرنفال. كان سلفو في البداية فقيراً معدماً فيمده صديقه الضابط الجميل أندريا بالمال ويكثر تردد هذا الصديق لبيت صديقه ويتعلق بزوجته المرحة. تكثر أقاويل الناس، فتجيء أوكتافيا شقيقة سلفو والغيرة على سمعة أخيها تكاد تأكلها. تنصحه ولكنه طيب القلب يحب امرأته فيحاول أن لا يصدق. وفيما هو يستعد لمرافقة زوجته لحفلة الكرنفال يضطره إخلاصه لأستاذه القديم أن يسافر ليراه قبل أن يلفظ نفسه الأخير. يترك زوجته في البيت مع طفله ويغادر المدينة على عجل.

ولكنه لا يدرك القطار فيعود لبيته فجأة ولا يجد زوجته. تنقشع عن عينيه الغشاوة ويرى دلائل الحقيقة المؤلمة. تستعد فرقة سلفو لتمثيل رواية عطيل فيأخذ دور البطل وامرأته دور ديدمونة وفي ليلة التمثيل تتوفر لديه أدلة الخيانة فيثور لشرفه. إذ يرشده شكسبير برواية عطيل على طريق الخلاص والانتقام، فيقتل صديقه في غرفة الماكياج ويقتل زوجته على المسرح وهو يمثل دور عطيل، وهكذا تنتهي المسرحية. ومثل يوسف وهبي دور سلفو وأمينة رزق دور سيمونتا وعهد إلى «أحمد علام» بدور أندريا وإلى دولت أبيض بدور أوكتافيا ومثل حسن البارودي دور كوماسو و«فردوس حسن» دور نيللا و«مختار عثمان» دور البارون.
 

Egypt Air