● استفاق من نسوا أو تناسوا القضية الفلسطينية، أو لم يعرفوها أساسا، لتعود هذه القضية تستأثر وجدانيا باهتمامهم كما كانت قضية عمرنا دوما
● إسرائيل تخطط وتنفذ على أرض الواقع تصفية القضية الفلسطينية بدفعهم للهجرة قسرا إلى سيناء ، ثم دفع سكان الضفة الغربية للهجرة قسرا إلى الاْردن
أنا انتمى لجيل كانت فلسطين هى قضية حياته ، وكانت إسرائيل تمثل له العدو الذى يحتل أراضى الفلسطنيين ويسلبهم حقهم فى وطن مستقل ودولة خاصة بهم مثلهم كبقية شعوب العالم قاطبة .. فنحن تفتح إدراكنا على مشاركةَ الإسرائيليين بريطانيا وفرنسا فى العدوان الثلاثى فى خريف عام ٥٦ بعد أن قمنا باسترداد قناة السويس التى حفرناها بسواعد أبنائنا الذين فقد عدد منهم حياته وهم يحفرونها .. ونحن الذين عاشوا مأساة يونيو ٦٧ التى تركت بصماتها غائرة فى نفوسنا بعد ان أسفرت عن احتلال قطعة عزيزة غالية من أرضنا هى أرض الفيروز أو سيناء، وانتفضنا لإعداد أنفسنا لحرب تحرير نسترد فيها كرامتنا وأرضنا المحتلة .. ونحن أيضا الجيل الذى خاض حرب أكتوبر العظيمة بعد ست سنوات من الإعداد والاستعداد التام والشاق حتى نعبر الهزيمة ونحقق الانتصار الذى أصاب الإسرائيليين بصدمة بالغة لم ينسوها رغم مرور نصف قرن .. ونحن كذلك الجيل الذى رفض رغم إبرام معاهدة كامب ديفيد عام ٧٩ تطبيع العلاقات شعبيا مع إسرائيل فى شتى المجالات، الاقتصادية، والثقافية، السياسية، واعتبر كل من يمارس تطبيع العلاقات مع الإسرائيليين منبوذا من الجماعة الوطنية . . لذلك كله كانت فلسطين بالنسبة لجيلنا هى قضية حياة، وكان العدو بالنسبة لنا واضحا طوال الوقت، ورغم كل ما طرأ من تطورات وتغيرات.
ولكن مع مرور السنوات، سنة بعد أخرى منذ عام ٧٩ الذى أبرمناها فيه اتفاق كامب ديفيد وتعرض منطقتنا لتطورات عديدة، أخذت القضية الفلسطينية تتراجع فى قائمة أوليات الأجيال التى جاءت بعدنا، خاصة مع انحسار الاهتمام الرسمى العربى بها الذى سلبها وصف قضية العرب الأولى .. ووصل الأمر إلى درجة افتقاد هذه القضية أى اهتمام لعدد من الأجيال التى جاءت بعدنا .. حتى الاهتمام الموسمي الذى كانت تحظى به هذه القضية الفلسطينية رسميا أصابه الفتور ، بعد ان انهمكت عدد من الدول العربية فى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل فى إطار خطط كونية أمريكية تستهدف إحباط خطط منافسيها، خاصة الصينيين والروس لإقامةَ نظام دولى جديد لا يحتكره قطب واحد كما هو حادث منذ انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، وتتضمن إقامة مشروعات اقتصادية ضخمة وكبيرة مشتركة مع إسرائيل، وتستفيد منها بالطبع.
وهكذا صارت القضية الفلسطينية يتيمة، فى ظل تمادى اليمين الإسرائيلى المتطرف فى تنفيذ خطط تصفية هذه القضية والإجهاز عليها تماما، وعدم اكتراث المجتمع الدولى بإلزام إسرائيل بحل الدولتين الذى بادر العرب بطرحه فى المبادرة العربية ولاقى قبولا دوليا بالكلام فقط .. ولذلك ساد انطباع حتى بداية شهر أكتوبر من هذا العام أن القضية الفلسطينية ماتت فى الوجدان العربى، خاصة وجدان الأجيال العربية الشابة التى ولدت وهناك تراجع فى الاهتمام بهذه القضية، وسبت على تغير فى النظرة العربية تجاه إسرائيل، من عدو إلى حليف يمكن التعاون معه لمواجهةَ قوى إقليمية أخرى!.. وساعد على ذلك انقسام الفلسطينيين فيما بينهم البعض، وهو ما أثر سلبا على صورتهم لدى الأجيال العربية الجديدة التى لم تعش اعتداءات إسرائيل على أرضنا، وفقدت من ينبههم للخطر الإسرائيلى علينا، ولعدوانهم المستمر والمتزايد على الأشقاء الفلسطينيين والتى تتم بشكل يومى خلال السنوات الأخيرة.
وكان هذه هى حال القضية الفلسطينية قبل يوم الثامن من أكتوبر الماضى الذى بدأت فيه إسرائيل تشن عدوانا شديد الوحشية وحرب إبادة ضد أهالى غزة، دمرت فيها المبانى على رؤوس ساكنيها، وخربت الشوارع والمرافق، وقتلت الأطفال والنساء، واقتحمت المدارس والمستشفيات، واستهدفت بالقصف تجمعات الإيواء لمن تركوا منازلهم قسرا ولجأوا إلى مخيمات أو مدارس ومستشفيات، وفرضوا عليهم حصارا جائرا شاملا حرموهم خلاله من الغذاء والماء والدواء والوقود والكهرباء، ودفعوهم للهجرة جنوبا وترك أراضيهم، لأنهم اعتبروهم حيوانات بشرية لا تستحق الحياة أصلا ناهيك بالطبع عن الاستقلال مثلما نالت كل الشعوب التى كانت محتلة وتخلصت من الاحتلال البغيض ولم يتبق إلا الشعب الفلسطيني الوحيد الذى يرزح تحت نيران احتلال وحشى بغيض.
لقد استفاق من نسوا أو تناسوا القضية الفلسطينية أو لم يعرفوها أساسا، لتعود هذه القضية تستأثر وجدانيا باهتمامهم كما كانت قضية عمرنا دوما نحن الجيل الذى شهد العدوان الثلاثى وصدمته هزيمة يونيو وغمرته بالفرحة حرب أكتوبر، وظل منذ اتفاقات كامب ديفيد يرفض تطبيع العلاقات مع الإسرائيليين لأنه لا يرى فيهم سوى غاصب لأراضى الأشقاء ومحتل بغيض. ومجرم حرب لا يتوانى عن ارتكاب أبشع المجازر، نلنا نصيبنا منها فى مدرسة بحر البقر التى قصفتها طائرات إسرائيل خلال حرب الاستنزاف المجيدة التى سبقت حرب أكتوبر ومهدت لها.
ولعل هذا أهم تداعيات العدوان الوحشى لإسرائيل ضد قطاع غزة وحرب الإبادة التى أعلنتها ضد اَهلها، وايضاً لعله أهم خسائرها، والتى تفوق وتتجاوز كثيرا جدا خسائرها البشرية من الجنود والضباط أو من المستوطنين، وخسائرها فى الدبابات والآليات، وخسائرها الاقتصادية التى دفعت قادتها العسكريين لتخفيض أعداد من تم استدعاؤهم للاحتياط لوقف نزيف الخسائر الاقتصادية .. فبعد أن كانت إسرائيل تقدم نفسها للعرب بوصفها صديقا وشريكا وحليفا اكتشفت أجيالنا الجديدة التى لم تشكل القضية الفلسطينية لها شيئا ان إسرائيل لا يمكن أن تكون صديقا أو شريكا أو حليفا أو حتى مجرد جار عاد طبيعى، لأنها تضمر الشر لنا جميعا وليس للشعب الفلسطيني وحده .. فهى لا تخوض فقط حرب إبادة شديدة البشاعة ضد الأشقاء الفلسطينيين، وإنما تخطط وتنفذ على أرض الواقع تصفية القضية الفلسطينية بدفعهم للهجرة قسرا إلى سيناء، ثم دفع سكان الضفة الغربية للهجرة قسرا إلى الاْردن.
وهذا أهم وأبرز تحول طرأ على القضية الفلسطينية بسبب هذا العدوان الوحشى الإسرائيلى ضد أهل غزة .. لقد خرجت القضية الفلسطينية من تحت ركام النسيان والتجاهل العربى الذى أصاب أجيال عديدة لتصير كما كانت هى قضيتهم الأولى والأهم الآن .. بل إنها صارت قضية حاضرة لدى شعوب العالم أيضا ، حتى شعوب الدول والحكومات التى سارعت بتقديم الدعم لإسرائيل وتساعدها على استمرار حرب الإبادة فى غزة.