رغم تجاوز عدد الشهداء والجرحى والمفقودين والأسرى أكثر من 100 ألف فلسطيني خلال الحرب على غزة والتي تدخل اليوم الثمانين، وسط اضطرابات وتأثيرات سلبية لها على المنطقة كلها بأمنها واقتصادياتها، إلا أن مجلس الأمن بعد 4 أيام من المباحثات اعتمد قراره رقم 2722 بتوسيع دخول المساعدات للقطاع وليس وقف إطلاق النار، لتظل المحنة مستمرة بين دمار في فلسطين وغياب استقرار بدول الشرق الأوسط.
ففي مياه البحر الأحمر ودوله المطلة عليه صارت التناقضات واضحة، بين اقتصاد يضربه التضخم الناتج مؤخرا عن أزمة الحرب في غزة بحسب تصريحات رئيس الحكومة وتحمل بلاده الكثير من التداعيات على الحدود الشرقية وسط سيناريوهات مروج لها حول التهجير القسري للفلسطينيين إلى مصر، والأردن والعراق وبين اليمن غير السعيد منذ سنوات، والذي فاجأ الحوثيون المنطقة بدخولهم على خط المواجهة مع إسرائيل بإطلاق صواريخ وطائرات مسيرة أو استهداف شاحنات وناقلات وسفن في البحر الأحمر وإرباك حركة الملاحة عبر مضيق باب المندب، بما يؤثر على حركة التجارة العالمية العابرة أغلبها في قناة السويس المصرية.
الحال ليس ببعيد عن دولة المعابر المملكة الأردنية الهاشمية التي تخدم أراضيها حركة التجارة البرية وتضم مجنسين من ذوي الأصول الفلسطينية يقطنون العاصمة عمان بالأخص منذ عقود، فيما تشهد الحدود اللبنانية قصفا مستمرا على الجنوب وسط تهجير لسكانه مع فتح جبهة للحرب مع تل أبيب عبر حزب الله المدعوم من إيران، دون قراءة موضوعية لواقع اقتصادي صعب يصل بها كدولة إلى مستوى الفشل.
الحضور الإيراني في مشهد الصراع تعاظم مع دخول طهران على خط مواجهة غير مباشرة كعادتها مع تل أبيب وواشنطن، حيث تستهدف أطراف تابعة لها في العراق القواعد الأمريكية ومناطق الاستثمار الأجنبي لدول تتجه سياساتها لدعم إسرائيل، وبالضرورة يتحول الخليج العربي ومضيق هرمز تباعا إلى ساحة لاستعراض القوة من قبل طهران والدول ذات التأثير والحضور العسكري فيها، بينما سوريا غارقة في الفوضى تتحمل دول الجوار تداعيات هجراتها المتلاحقة منذ العام 2011 ، ولحقت بها ليبيا على استحياء مع إصرار قواها السياسية على إبقاء الخلافات، وفقدان السودان سمته كأحد سلال الغذاء في العالم بين تقسيم وصراع مسلح وانهيارعملته الوطنية.
تداعيات الأزمة في غزة باتت واضحة على اقتصاد دول المنطقة، حيث تراجع الطلب على السفر إلى الشرق الأوسط منذ بدء التصعيد في السابع من أكتوبر، وتنفيذ إسرائيل ضربات جوية وعمليات برية على قطاع غزة، وأظهرت بيانات لشركة "فوروارد كيز" لتحليل حركة السفر، انخفاض حجوزات الطيران الدولية على مستوى العالم خاصة في الأمريكتين مع إلغاء المسافرين رحلاتهم إلى الشرق الأوسط ومختلف أنحاء العالم.
وانخفضت تذاكر الطيران الدولية الصادرة في منطقة الشرق الأوسط 9 % في الأسابيع الثلاثة التي أعقبت 7 أكتوبر، مقارنة بعدد التذاكر الصادرة قبل الأسابيع الثلاثة من الصراع، وتراجعت حجوزات الرحلات الدولية للسفر إلى المنطقة 26 % في الأسابيع الثلاثة التي أعقبت الصراع، وهبطت حجوزات الرحلات الدولية في المتوسط 5% عبر المناطق.
فيما كشفت نتائج أولية لدراسة تقييمية سريعة جديدة صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) أن التنمية البشرية في مصر ولبنان والأردن من المتوقع أن تتراجع بسبب الحرب على غزة.
وقالت الدراسة "أوشك النظام الإنساني في غزة على الانهيار، ما يعرض حياة أكثر من 2.2 مليون من السكان لخطر داهم. مع كل يوم تستمر فيه هذه الحرب، فإن تداعياتها على الدول المجاورة في منطقة الدول العربية ستتسبب في انتكاسات اجتماعية واقتصادية طويلة الأجل".
وجاءت تقديرات الدراسة بناء على "الدروس المستفادة من الصراعات السابقة في المنطقة، بما في ذلك غزو العراق عام 2003، والحرب في غزة 2008-2009، والأزمة في سوريا، التي لا تزال تحتدم منذ عام 2011".
وتشمل تلك الآثار التغيرات في أسعار النفط، وتدفقات اللاجئين، والضغوط على الدين العام والحيز المالي، والسياحة والتجارة وغيرها. وتشير الدراسة التقييمية إلى أن عوامل التأثير تلك يجب مراقبتها بعناية إذ تظل مكامن للمخاطر وإن لم تظهر آثارها بشكل كامل بعد في الوقت الحالي. ويقدر معدو الدراسة التقييمية السريعة أنه بعد امتداد الحرب لأكثر من ثلاثة أشهر، فإن الآثار الاجتماعية والاقتصادية على البلدان المجاورة ستتعاظم. إذ تتوقع تقديرات الحد الأعلى أن امتداد الحرب بما يتجاوز ثلاثة أشهر من شأنه أن يدفع أكثر من نصف مليون شخص للوقوع في براثن الفقر وأن يصل إجمالي خسائر الناتج المحلي الإجمالي إلى 18.0 مليار دولار أميركي أو 4.0% للدول الثلاثة مجتمعة في عام 2024.
وحذر معدو الدراسة من أنه إذا توسعت الحرب في نطاقها الجغرافي، فإن تأثيراتها ستتصاعد وستتعمق آثارها بشكل أكثر وضوحًا، مطالبين باتخاذ تدابير عاجلة لبناء قدرات البلدان المجاورة المتأثرة على مواجهة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، كما شددوا على أن الأولوية يجب أن تكون لاتخاذ كافة تدابير اللازمة لإنهاء الحرب لوضع حد للدمار والمعاناة التي لا توصف في غزة والأرض الفلسطينية.
العراق لم ينج من تداعيات الأزمة في غزة، حيث يؤكد صندوق النقد الدولي بأحدث تقاريره أن نمو الناتج المحلي الإجمالي للعراق سينخفض في عامي 2023 و2024 نتيجة تراجع إنتاج النفط في البلاد، بما في ذلك تخفيضات من تحالف أوبك+ للإنتاج، بينما يشكل التوسع المالي الكبير للبلاد في قانون الموازنة لثلاث سنوات مخاطر على المدى المتوسط. الصندوق قال إن الاقتصاد الذي تقوده الدولة ويعتمد بشكل كبير على النفط والغاز، يحتاج إلى إصلاحات هيكلية جذرية لتنويعه وتحقيق النمو المستدام. بينما أبقت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، في نوفمبر الماضي، على تصنيف العراق دون تغيير عند "Caa1" تصنيفها ضمن درجة المضاربة ضمن تصنيف موديز لالتزامات الشركات طويلة الأجل، مع نظرة مستقبلية مستقرة، وأوضحت أن التصنيف يعكس وضع العراق الراهن في ظل اعتمادها المالي والخارجي على الهيدروكربونات، ما يؤدي إلى انكشاف البلاد بشكل كبير على التقلبات التي قد تحدث في أسعار النفط.
كما توقعت الوكالة أن يكون لتصاعد الحرب في غزة وتدخل أطراف أخرى في الصراع انعكاسات جوهرية على العراق وكردستان.
إلا أن إقليم كردستان الذي استهدفت هجمات أطراف مسلحة بعض أراضيه كانت له دوما مواقفه الداعمة للحق الفلسطيني في دولة مستقلة عاصمتها القدس، وذهبت مساعدات حكومته الإنسانية وكذلك مؤسسة البارزاني إلى الشعب الفلسطيني خلال محنته.
وعلى المستوى السياسي والعسكري، أظهرت الحرب في غزة تضامنا ودعما غير محدودين من واشنطن لتل أبيب، بشكل أنذر مبكرا بتوسيع دوائر المواجهات العسكرية في المنطقة، حيث وجهت الولايات المتحدة رسالة ردع واضحة منذ اللحظة الأولى، فقدمت دعمها الكامل لإسرائيل ومساعدة تل أبيب على رفع قدراتها العسكرية وحولت مسار حاملة الطائرات "جيرالد آر فورد" للإبحار باتجاه إسرائيل بطاقمها المكون من حوالي 5 آلاف فرد كجزء من إجراءات الردع، مع وضع 2000 جندي في حالة تأهب.
وبعد واقعة قصف مستشفى المعمداني في غزة، اعتبرت إيران على لسان وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان أن "الوقت انتهى"، ودخل حزب الله بصواريخ طهران على خط مواجهة مواقع إسرائيلية.
فيما اعتبر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن اللحظة الراهنة تُمثل نقطة انعطاف في الشرق الأوسط، ويتطلب نطاقها المماثل لهجمات 11 سبتمبر، إعادة التفكير في النموذج الأساسي الذي يحدد سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ونهجها في التعامل مع مجتمعات المنطقة وصراعاتها.
وأكد أن المساعي الراهنة تستلزم جهداً عسكرياً كبيراً وموسعاً، في إطار التهديد بنشوب صراع أوسع نطاقاً، بما في ذلك المعارك في الساحة الفلسطينية، وربما في لبنان أيضًا، وسيكون لشركاء الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة دور حيوي أيضًا.
ويرى المعهد أن "هذه ليست مجرد مرحلة أخرى من الصراع بين إسرائيل وحماس، فالاختلاف كبير لأن إسرائيل ستسعى إلى "قطع رأس" القيادة العسكرية للحركة، وتدمير ما تبقى من قدراتها العسكرية، كما ستحاول إعادة ثقة الجمهور في الحكومة الإسرائيلية وجيشها، واستبدال التصورات الإقليمية عن ضعف إسرائيل وهشاشتها بصور القوة الإسرائيلية التي لا تقهر".
ربما تنتظر المنطقة سيناريو جديدا ناتجا عن واقع جديد تفرضه القوة حال الخلاص من بنية وسكان قطاع غزة وتهجير أغلبهم، حيث انتهت الحياة هناك أو تكاد باعتراف مسؤولي منظمات الإغاثة الدولية والذين كرروا خلال أكثر من 10 أسابيع مضت استحالة الحياة هناك وتدهور الوضع الإنساني معتبرين القطاع أخطر بقعة على وجه الأرض، بينما تطرح تل أبيب رؤيتها لما بعد الاجتياح البري الكامل للقطاع بوضعه تحت إشراف دولي وحضور عربي موسع لإعادة بنائه، ربما لسكان غير متواجدين داخل حدوده بالضرورة.