الثلاثاء 21 مايو 2024

أدباء تحت قبة البرلمان

د. بهي الدين مرسي

برلمان10-1-2024 | 11:32

د. بهي الدين مرسي

لا شك أن توجه أصحاب الأقلام وعباقرة الأدب والشعراء إلى تمثيل الشعب في البرلمان المصري قد أسهم في إثراء الحياة البرلمانية بعقول تميزت بقدرات وملكات الإبداع في الآداب والفنون
دخل أباظة العمل السياسي والتمثيل البرلماني في وقت كانت الحياة السياسة في مصر تشهد زخما يستحق استدعاء هذا العملاق وأمثاله للمشاركة في العمل السياسي
أنيس منصور تأرجح بين العمل الجامعي في مجال تدريس الفلسفة، والعمل الصحفي، والكتابة الأدبية، والعمل الروائي، بالإضافة للعمل في مجال التحليل السياسي والمجتمعي.

 

في الذكرى المئوية للحياة البرلمانية في مصر، جدر بنا سبر أغوار هذا الصرح القومي العظيم الذي ينظر إليه كمصنع للحياة السياسية في مصر منذ العام 1824 وحتى يومنا هذا، ولا شك أن صناع السياسة في هذا الصرح هم ثلة من عقول مصر الثرية فكريا، خاصة وأن اختيار ممثلي الشعب يتم بشكل انتقائي من أصحاب القلم الواعي واللسان الحقوقي، وهي الفئة المتعلمة من دارسي الحقوق والسياسة. وليس خفيا أن هذه الفئة من الدارسين يميزهم التوجه الفكري المرتبط بالتوجه السياسي والحقوقي، ومن ثم فهم أصحاب أقلام ذوى مرجعية أدبية تضم خبراء اللغة العربية، وعباقرة الأدب الروائي والشعراء، خاصة وأن لغة التقاضي وطبيعة الخطاب المهني تحت قباب المحاكم يستلزم التفوق اللغوي.

من هنا، أسهم هذا التوجه في إثراء الحياة البرلمانية بعقول تميزت بقدرات وملكات الإبداع في الآداب والفنون، وليس خفيا أن قوائم ممثلي الشعب في البرلمان المصري عبر تاريخه كانت ولا زالت تزخر بأسماء فطاحل الأدب، ونظرا لاتساع وتشعب القائمة التي تضم أسماء العظماء من حملة الأقلام في مجال الأدب، يصعب الحديث عن كل هؤلاء، ولكننا سوف نناقش في هذه الأطروحة بشكل اختياري العملاقين الكاتب والروائي ثروت أباظة، والكاتب والصحافي أنيس منصور، فهما نموذجان بارعان قاما بإثراء الحياة الأدبية والفكرية، وكان لكليهما بصمة لا يمكن تجاهلها في الحياة البرلمانية.

ثروت أباظة

الكاتب والروائي المصري ثروت دسوقي أباظة من أنبغ أبناء محافظة الشرقية (1927 – 2002)، سلسل العائلة الأباظية التي أنجبت ثلة من الأدباء والمفكرين وقدمت للأدب العربي عمالقة على رأسهم والده الأديب دسوقي أباظة، وعمه الشاعر عزيز أباظة، وعمه الكاتب الكبير فكري أباظة.

تخرج ثروت أباظة في  جامعة فؤاد الأول عام 1950، وأجيز بليسانس الحقوق، وبدأ حياته المهنية في مجال المحاماة، أما حياته الأدبية، فبدأت مبكرا في سن السادسة عشرة، وكانت أولى محاولاته عبر أدب القصة القصيرة، والقطوف التمثيلية التي كتبها خصيصا للإذاعة، وقد اكتسب شهرة من خلال ميكروفون الإذاعة، ثم اتجه أباظة إلى كتابة القصة الطويلة، فكانت باكورة أعماله قصة "ابن عمار" والتي تم تصنيفها كقصة تاريخية، وتسلل متدرجا لحقل الكتابة في الأدب المسرحي، وكانت مسرحية "الحياة لنا" هي المولود البكر في هذا المجال، ولا يمكن نسيان دوره في ترجمة بعض  الأعمال الأدبية العالمية.

وحول النشأة الفكرية، تشبع أباظة بالكاتب المصري المرموق  كامل كيلاني، وتأثر بفكر ومؤلفات عميد الأدب العربي "طه حُسَين، ومعهما تَوْفيق الحَكِيم، وعبَّاس العقَّاد، وأحمد شَوْقي، ولكن الرجل لم يقف عند حدود الفكر الأدبي والكتابة، بل تسلل للعمل السياسي والتمثيل البرلماني في وقت كانت الحياة السياسة في مصر تشهد زخما يستحق استدعاء هذا العملاق وأمثاله للمشاركة في العمل السياسي، وقد استجاب لنداء الساحة السياسة وانخرط الرجل في النشاط البرلماني.

تدرج أباظة في العمل الصحفي، وتولّى رئاسة تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون التي تصدرها مؤسسة دار الهلال الصحفية عام 1974، وتولى رئاسة القسم الأدبي بصحيفة الأهرام بين أعوام 1975 و1988، وظل يكتب في الصحيفة نفسها حتى نهاية حياته.

شغل الرجل أيضا منصب رئيس اتحاد الكتاب، وجاء هذا متزامنا مع تولي منصب وكيل مجلس الشورى، وحظي أيضا بعضوية المجلس الأعلى للثقافة، والمجالس القومية المتخصصة، ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون، ونال الرئاسة الشرفية لرابطة الأدب الحديث وكذلك عضوية نادي القلم الدولي، وكلها مناصب تتزين وتزين هيئات نقابية مجالها الصحافة والإعلام، فحق وصف العملاق ثروت أباظة في علاقاته المهنية بالرجل المناسب في المكان المناسب.

أما عن مشواره الأدبي، فقد أبدع ثروت أباظة في تأليف عدة أعمال روائية تحول البعض منها إلى أعمال سينمائية ومسلسلات تلفزيونية، كما أثرى الرجل ساحة الدراما الإذاعية بأكثر من أربعين تمثيلية إذاعية، وأربعين قصة قصيرة، بالإضافة إلى سبع وعشرين رواية طويلة.

كان حريا بمصر تكريم الرجل، وبالفعل حصل على جوائز عديدة منها جائزة الدولة التشجيعية عام  1958، ونال أيضا وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ثم جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام  1982.

وفي محاولة لتسليط الضوء على بعض أعمال ثروت أباظة الأدبية التي تسببت في حراك مجتمعي، تتصدر الروايتان "شيء من الخوف" ومن بعدها رواية "ثم تشرق الشمس"، وروايات أخرى، ولكننا في السياق الحالي سوف نشير إلى البعض من هذه الروايات التي نالت أسهما عالية في ساحة الأدب الروائي.

لعل أشهر الروايات التي تربحت أسهما عالية ضمن أعمال الأديب ثروت أباظة هي رواية "شيء من الخوف"، وقد خرجت هذه الرواية إلى النور في عام 1969 وقد تم إنتاجها سينمائيا ويروي هذا العمل دور "فؤادة" الفتاة الصغيرة التي تحب الفتي "عتريس" البريء النقي، والذي تحول لاحقا إلي وحش كاسر، يحترف القتل والنهب، ويعاقب القرية، حتى أنه تسلح بالغلظة ذات يوم ومنع عنها الماء، ولم يجد عتريس من يواجه جبروته بالاعتراض سوي الفتاة فؤادة، حبه القديم ونقطة ضعفه الوحيدة، ولما لم يستطع قتلها، تملكها بالزواج ، ولكن فؤادة ترفض هذا الزواج السلطوي، فيقوم عتريس بتزوير الوكالة والعقد، وترضخ فؤادة  لسطوته وتنتقل للعيش معه دون شرعية، وهنا تثور على عتريس أعراف القرية التي ترفض العبث بالشرعية، وترفض فؤادة الاستسلام لعتريس حتى الموت، وكانت الرواية شديدة الرمزية والإسقاط لتوثق صراع الخير والشر داخل الإنسان، لذلك، أثارت هذه الرواية جدَلًا واسعًا جراء تلميحات أبداها المقربون من الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بأن الرواية تنطوي على الكثير من الإسقاط السياسي الذي يشير إلى ديكتاتورية الزعيم جمال عبد الناصر.

أما عن رواية "ثم تشرق الشمس" فقد كتبها ثروت أباظة، وتضمنت فترة ما قبل ثورة يوليو 1952 ، وتدور قصتها حول عائلتين من كبرى العائلات، وأشار لهما بعائلة "همام" والأخرى عائلة "عزت"، وهما عائلتان تتمتعان بالثراء، ولكن همام مات مفلسا فقيرا، وبالطبع افتقرت معه عائلته، وانتقل للعيش مع  أسرته للعيش في شقة صغيرة متواضعة عوضا عن السرايا التي فقدها مع الثروة، إلا أن أفراد عائلته بقوا على سلوكهم القويم يما عدا الابن الأصغر الذى تبدل سلوكه وسعى للثراء من جديد ضاربا بعرض الحائط القيم التي تمتعت بها أسرته، وانتهج المبدأ المكيافللي في تحقيق الثراء.

أما رواية "قصر على النيل"، فهي تعد من الروايات المتفردة، حيث ناقشت عددا من المفاهيم التي قد تقلب وتغير حياة الشخصية الإنسانية رأسًا على عقب، و ربما تغير من نظرة الفرد للمستقبل والماضي. تدور فكرة رواية "قصر على النيل" حول أهمية العلاقات الأسرية وافتقار القدوة، وتزخر الرواية بالأحداث السريعة، ومن بينها تحقير قوة المال ونفي إمكانية أن المال يمكن أن يضمن تحقيق السعادة الأسرية، وأنه لا يحقق الاحترام والإخلاص والتفاهم بين الأبوين، وتطرقت الرواية بعد ذلك لبعض جوانب التوجهات السياسية التي تناقش الطبقية .

وتزخر قائمة الإنتاج الأدبي للعظيم ثروت أباظة لتشمل العديد من الأعمال مثل "هارب من الأيام، ورواية "الضباب" وكذلك رواية "أحلام في الظهيرة" و "طارق من السماء" والغفران" وأيضا رواية "لؤلؤة وأصداف" وجاء في ختام القائمة رواية "خشوع" وهي الرواية العشرون.

توفي الأديب ثروت أباظة في 17 مارس 2003 بعد صراع طويل مع المرض إثر إصابته بورم خبيث في المعدة.

أنيس منصور

والآن، ننتقل للحديث عن النجم الثاني في مجال الأدب والكتابة ممن شاركوا في الحياة السياسية بمصر وانخرط في الأنشطة البرلمانية، وهو أنيس منصور، ذلك الرجل الذي كان يصعب تصنيفه فكريا ومهنيا، وقد تأرجح بين العمل الجامعي في مجال تدريس الفلسفة، والعمل الصحفي، والكتابة الأدبية، والعمل الروائي، والقصة القصيرة، ولم يكتف بكل هذا، بل استحدث أدب الرحلات وأدرج هذا الفكر ضمن صفحات الفكر، وقد كان سباقا في هذا الصدد، بالإضافة للعمل في مجال التحليل السياسي والمجتمعي من خلال الانشغال طواعية بالعمل البرلماني.

ولد أنيس محمد منصور في أغسطس 1924 في قرية تتبع مدينة المنصورة، وحفظ عدة أجزاء من القران الكريم في سن مبكرة في كتاب القرية، وكان له في ذلك الكتاب حكايات عديدة حكى بعضها في كتابه "عاشوا في حياتي"  وتخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1947. وبالرغم من أن التدريس الجامعي كان متاحا له، ومارس هذا العمل بعض الوقت، إلا أنه لم يستمر طويلا، وآثر أن يتفرّغ للكتابة مؤلفاً وكاتباً صحفياً، واشتهر أنيس منصور بالكتابة الفلسفية التي كانت تميز معظم مؤلفاته، ثم تفرّغ للكتابة والعمل الصحافي في مؤسسة أخبار اليوم. 

كان أنيس منصور شغوفا بدراسة اللغات، وهو ما مكنه من ترجمة بعض المؤلفات من الإنجليزية للعربية، وكذلك بعض المسرحيات.

كان أنيس منصور من المقربين للرئيس السادات، ورافقه في زيارته إلى القدس عام 1977، وساعدته هذه العلاقة في التفرد بمناصب عديدة في الحقل الصحفي، وقد كلّفه الرئيس السادات بتأسيس مجلة أكتوبر في 31 أكتوبر 1976، وهي مجلة عربية سياسية اجتماعية وتبوأ رئاسة تحرير المجلة، كما ترأس أنيس منصور العديد من مناصب التحرير لعدد من الصحف والمجلات، وتزامنت هذه الوظائف مع اهتمامه بالكتابة الصحفية، وقد تنقل أنيس منصور بين أكثر من مؤسسة صحفية هي أخبار اليوم، وآخر ساعة، والأهرام، والهلال، واستمر لسنوات في كتابة المقال اليومي في صحيفة أخبار اليوم حتى تركها في عام 1976 ليصبح رئيساً لمجلس إدارة دار المعارف، وبعدها أصدر مجلة الكواكب التي تصدر عن دار الهلال الصحفية.

كان أنيس منصور يهوى السفر، وبالفعل سافر إلى العديد من بلدان العالم، وساعدته هذه الزيارات على تأليف العديد من كتب الرحلات، ما جعله رائدا في هذا الأدب، ولعل أشهر هذه الكتب هو كتاب "حول العالم في 200 يوم"، ومعه كتب أخرى ضمن أدب الرحلات مثل "اليمن ذلك المجهول"، وكتاب "أنت في اليابان وبلاد أخرى".

حصل أنيس منصور في حياته على الكثير من الجوائز الأدبية ومن أبرزها الدكتوراه الفخرية من جامعة المنصورة ، وكذلك جائزة الفارس الذهبي من التلفزيون المصري، وجائزة الدولة التشجيعية في مصر في مجال الأدب.

"الخالدون المائة" الكتاب الأكثر إثارة وجدلا في حياة أنيس منصور، وهو كتاب بالإنجليزية من تأليف   الكاتب "مايكل هارت"، وهو كتاب يرصد قائمة احتوت على أسماء مائة شخص رتبهم الكاتب حسب تأثيرهم في التاريخ، وضمت القائمة مئة شخص منهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويسوع، وموسى، كما ضمت أسماء مؤسسي الديانات الوضعية، وبعض المخترعين ممن أضافوا للحياة الكثير، وبعض قادة الفكر.

توفي في أكتوبر 2011 عن عمر 87 عاما، وشيد له تمثالا بمدينة المنصورة  كونه أحد رموز مصر من المشاهير.