إيَّاكَ أن تتصوَّرَ أنَّك وإن ملكْتَ كلَّ أسبابِ القوة أنْ تُزحزِحَ شعباً مؤمناً بعدالة قضيته وشرعيةِ كفاحه.. هذا مُحالٌ.!!، وإن حاصرتْه أسبابُ الهزيمة، أو تساقطت عليه الكوارثُ فيما يبدو لأصحاب العيون العَجْلَى.!!، أو استطعت بوسائلك غيرِ الشريفةِ ودعْمِ مُناصريك أن ترى نفسَك قد أحكمتَ قبضتَكَ حول حلوقه، فتحْسَب أنَّ بإمكانِكَ أيها الموهومُ التخلُّصَ من وَجَعِ الرأسِ، ومن ثَمَّ الإجهاز على أصحاب القضية وتستريح إلى الأبد..هيهات أيها الأحمق!!.
(ربما أفقد ما شئت معاشي
/ربما أعرض للبيع ثيابي..
وفراشي/ربما أعمل حجَّاراً
..وعتَّالاً..وكنّاسَ شوارعْ/ ربما أبحث في رَوْثِ المواشي عن حبوبٍ/ربما
أخمد..عُرياناً..وجائعْ/
يا عدوَّ الشمس لكنْ لن أساومْ/وإلى آخر نبضٍ في عروقي.. سأقاومْ!!)
لتأتي قصيدة"سأقاوم" أو"عودة يولسيّز"حيث يقف فيها"سميح القاسم" على قمة جبل الكبرياء العربي متحدِّثاً باسْم أمة العرب عامةً وشعب فلسطين خاصةً، وموضِحاً للعالم أجمع أننا طلابُ حقٍّ لا نساوم فيه ولا نهادن، وعلى افتراضٍ..أو حتى صرنا إلى هذه المرحلة المتأزِّمة التي تخيِّم الآن بظلالها على الأمة العربية عامةً والشعب الفلسطيني خاصةً؛ من فَقْدِ أسبابِ العيْش وامتهانِ أشقِّ الحِرَفِ في سبيل تحصيل لقيماتٍ يقمن الأصلاب..!!، وسيطرة ظلال اليأس على الكثيرين وقد يموت البعض طيلةَ السيْر على طريق التحرير عرايا جائعين.. لكننا لدينا من الإصرار ما يكفي لتظلَّ المقاومةُ لهيباً مشتعلاً في النفوس جيلاً بعد جيلٍ، ودرْسُ التاريخِ يؤكِّد أن الاحتلال-وإنْ دقَّ أوتاده- زائلٌ، ولن نتوانى في نضالنا وطرْد العدوِ حتى لو كلَّفنا ذلك أغلى ما نملك..!!
(ربما تسلبني آخر شِبْرٍ من ترابي/ ربما تُطعم للسجن شبابي/ربما تسطو على ميراث جَدِّي من أثاثٍ..
وأوانٍ..وخواب/ربما تحرق أشعاري وكتابي/ ربما تُطعمُ لحمي للكلاب/ربما تبقى على قريتنا كابوسَ رُعْبٍ يا عدوَّ الشمس لكن لن أساومْ/وإلى آخر نبضٍ في عروقي..سأقاوم!!)
ومن اللافت لنظر المتمعِّن في القصيدة اعتمادُ مطلعِ دفقاتها الأولى على البراعة في استخدام مفردة"ربما" التي تكررتٍ مراتٍ عديدةً في الدفقتين الثانية والثالثة،ومن قبلهما في البداية ثم يقلُّ ورودُها حتى يختفي استخدام الشاعر لها في نهاية القصيدة؛فلقد أراد"سميح القاسم"أن يؤكِّد أن ما يعانيه الشعب الفلسطيني من محاولات التشريد أو طمْس الهوية التي لا تتوقف وسرقة ميراث الأجداد من أجل تزييف التاريخ ، أقول إنَّ كلَّ ما يقوم به المحتلُّ الغاصب لن يجدي شيئاً أمام الواقع الصامد، وإن ذلك من باب الأمور الحائلة ومصيرها إلى زوال،ولا يمكن للأوهام أن تصير يقيناً،والغلبةُ في الختام ستكون لليقين الحقِّ وهو العودة إلى الوطن،لذلك لم يكن ختام الدفقات(يا عدو الشمس لكن لن أساومْ/وإلى آخر نبضٍ في عروقي سأقاوم!) بنداء المستعمر هكذا( عدو الشمس)إلا لبيان عجْز الصهاينة عن مواجهة التحدِّيات الكونية ممثَلةً في مواجهة شروق الشمس مثل عجْز"النمرود" في حِجاج نبي الله "إبراهيم الخليل" حينما تحدَّاه أن يأتي بالشمس من المغرب معاندةً للنواميس الكونية،ويلي هذا النداء استخدام الأسلوب المؤكد بأداة النفي"لن"لقتل أيِّ تفكيرٍ في المساومة..بل القتالُ.. والقتالُ فقط حتى آخر نبضٍ في العروق..!!
(ربما تطفئ في ليلي شعلةْ/ربما أُحْرَم من أمي قُبْلةْ/ربما يشتم شعبي وأبي طفلٌ..وطفلةْ/ربما تغنم من ناطور أحلامي غَفْلةْ/ربما زيَّف تاريخي جبانٌ..وخرافيٌّ مؤلَّهْ/ربما تحرم أطفالي يوم العيد بدلةْ/ربما تخدع أصحابي بوجْهٍ مستعارْ/ربما ترفع من حولي جداراً وجداراً وجدارْ/ربما تصلب أيامي على رؤيا مُذِلَّةْ/يا عدوَّ الشمس.. لكن.. لن أساومْ
وإلى آخر نبضٍ في عروقي
.. سأقاوم!!)
وإذا كان"سميح القاسم"قد ركَّز على استخدام معجمٍ خاصٍ بما يرتكبه الصهاينة كغلبة أفعال(تسلبني، تسطو،تحرق،تحرم،تخدع) أومفرداتٍ(السجن،كابوس) ليحمل دلالةً واضحةً على تنوُّع تعذيبِ الصهاينة لأهل فلسطين والتنكيل بهم بصورةٍ لم تفرِّقْ بين الشاعر وبين كل مَنْ له علاقةٌ به كأبيه وأمه... وأولاده وصحابه،لقد شمل التنكيلُ الشعبَ بمختلف الأعمار، ولم يزده إلا مقاومةً وصموداً؛ ليأتي الختام بعيداًعن"ربما"!! يشيعُ فيه مُعجَمُ الفرح والاستبشار بمفرداته مثل (زغاريد،بهجة،عودة) وشيوع التفاؤل باستخدام أسطورة"يولسيّز/يولسيس
/أوديسيوس"ملك إيثاكا وأحد أساطير الإغريق في حرْب طروادة، وصاحبُ فكرة"حصان طروادة" بعد حربٍ استمرت قرابةَ عَشْرِ سنوات،إلا أن طول غيابه منح منافسيه من النبلاء الفرصةَ لإعلان موته، وإقناع زوجته بتزوُّج أحدهم،لكنها أبتْ وظلت تنتظره على الشاطئ حتى عاد..!! إنها الرسالة يؤمن بها"سميح القاسم"ونحن معه.إن الإنسان الفلسطيني عائدٌ مهما طال غيابه، عائدٌ إلى الأرض،عائدٌ للدفاع عن كرامته... وكلُّنا تفاؤلٌ بمجيء ذلك اليوم:
(يا عدوَّ الشمس..في الميناء زيناتٌ،وتلويحُ بشائرْ/وزغاريدُ وبهْجةْ/
وهتافاتٌ وضجَّةْ/والأناشيدُ الحماسيةُ وهْجٌ في الحناجرْ/وعلى الأفق شراعٌ يتحدَّى الريحَ.. واللّجَّ..ويجتاز المخاطرٍْ/إنها عودة"يوليسيّز"من بحر الضياعْ/عودةُ الشمس، وإنساني المهاجرْ/ولعينيها،وعينيه.. يميناً.. لن أساومْ/وإلى آخرِ نبضٍ في عروقي..
سأقاومْ
سأقاومْ
سأقاومْ