يُحكى أن زوجًا دخل على زوجته فوجدها تبكي، فسألها عن سبب بكائها فأجابت بأن العصافير التي فوق الشجرة تنظر إليها حينما تكون بدون حجاب وهذا قد يكون فيه معصية لله، فرح الزوج بورع زوجته وتقواها، وقبّلها بين عينيها. وفي الصباح أحضر فأسًا وقطع الشجرة من جذورها، ثم حدث بعد مرور أيام قليلة على هذه الواقعة أن شعر الزوج بإعياء أثناء العمل، فعاد إلى بيته مبكرًا على غير العادة، فوجد زوجته نائمة في أحضان عشيقها !!
كانت صدمة الزوج بالغة، ترك منزله هائمًا على وجهه لا يلوي على شيء، حتى حط به الترحال بمدينة بعيدة، لفت انتباهه أن بعض أهالي تلك المدينة يتحلقون بالقرب من قصر الملك، ويتهامسون في وجل واضطراب، وحين سألهم عن سر هذا التجمهر والاضطراب، قالوا إن خزائن الملك قد سُرِقَت. في تلك الأثناء مرّ رجلٌ يسير على أطراف أصابعه فسأل عنه: من هذا؟
أجابوه: إنه شيخ المدينة .. رجل شديد الورع، يمشي على أطراف أصابعه خشية أن يدعس نملة، فيعصي الله !!
فصاح الرجل: لقد وجدته .. لقد وجدته ..
وحين استفسروا منه عن قصده، أجابهم: لقد عرفت من سرق خزائن الملك .. أرسلوني إلى الملك.
حين مَثُلَ الرجل بين يدي الملك، قال: يا مولاي: إن الشيخ هو من سرق خزائنك وإن كُنت مُدعيًا أو كاذبًا .. فاقطع رأسي.
أمر الملك الجنود بإحضار الشيخ والتحقيق معه، فأسفر التحقيق عن اعتراف الشيخ بالسرقة.
توجه الملك بالسؤال إلى الرجل قائلاً: كيف عرفت أنه السارق؟
أجاب الرجل: إن المبالغة في أمر ما تكشف عن زيف صاحبه. فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده. ومن يتعفف تعفف العاهرات، يرتكب الموبقات. ومن يُقسم ليل نهار بأغلظ الأيمان، اعلم أنه كذَّاب أشر. الإنسان الصادق ليس في حاجة إلى مزيد من القَسَم. وحينما يكون الاحتياط مبالغًا فيه، وحين يكون الكلام عن الفضيلة شديد المبالغة؛ فاعلم أنه تغطية لجرمٍ!!
انتهت القصة.
تكشف هذه القصة زيف بعض المظاهر الخادعة للفضيلة. فكما يقول الفيلسوف الألماني «امَانويل كانط» في كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» إن المعيار الوحيد لأخلاقية الأفعال هو ألا تكون دوافعُها مستندة إلى مصلحة أو منفعة، بل يجب أن يكون الدافع إليها مطابقًا لفكرة الواجب. فالمعيار الوحيد عند كانط لأخلاقية الأفعال أن تكون دوافع أفعالنا مستمدة من شعورنا بالواجب.
ويرى كانط ضرورة التمييز بين الأفعال التي يقوم بها المرء استنادًا إلى الشعور بالواجب، وتلك التي يفعلها نتيجة لحرص أناني دافعه المصلحة. فمثال ذلك أنه مما يتفق مع الواجب أن يكون الإنسان كريمًا في تعامله مع من يحتاج مساعدة، فإذا رأينا أحد الأغنياء يقوم بمساعدة كثير من الفقراء والمحتاجين، ومنحهم عطايا مالية وعينية، فإن هذا الكرم الظاهر لا يكفي على الإطلاق لكي يجعلنا نذهب إلى الاعتقاد بإن ذلك الرجل الغني قد صدر في مسلكه هذا عن إيمان بالواجب وبمبادئ الكرم، بخاصةٍ إذا عرفنا أن مصلحته قد اقتضت ذلك، نظرًا لأنه أحد المرشحين لانتخابات مجلس النواب!!
ولا يستطيع الإنسان في هذا المقام أن يفترض أن هذا الرجل الغني كان يحمل في نفسه ميلاً مباشرًا نحو الفقراء والمحتاجين، بحيث دفعته تلك العاطفة التي يحس بها نحوهم إلى إغداق العطايا عليهم. إذن لم يصدر هذا السلوك الكريم عن واجب، ولا عن ميل مباشر؛ بل كان الباعث عليه المصلحة الذاتية وحدها. إنه كرم مخادع، وفضيلة زائفة.
قس على ذلك الأفعال التي يأتي بها كثير من الناس بغية تحقيق مآرب شخصية، كأن يقوم التاجر بتأدية فريضة الحج متظاهرًا بأنه يؤدي ما يمليه عليه الواجب الديني، في حين أنه أراد أن يكتسب لقب «الحاج فلان» في تعامله مع عملائه. وكذلك من يبالغ التظاهر بالتعفف عن المكاسب والمنافع والأغراض مصرحًا ليل نهار، بأنه لا يروم شيئًا، ولا يسعى إلى شيء. في حين أن كل أفعاله تكشف عن خلاف ما يزعم. إن تعففه أقرب ما يكون إلى زهد العاهرات وتعففهن، إنه فضيلة زائفة.
ونجد كذلك من يتظاهر بأنه يضحي بما يملك من جهد وطاقة من أجل خدمة الناس والسهر على تحقيق مصالحهم، في حين أنه يؤسس مصالح ومآرب شخصية له ولمن يسير في ركبه. أو ذلك الذي يبالغ في إظهار حبه وتعاطفه مع شخص ما (رجل أو امرأة) ويبالغ في الكشف عن عواطفه الحميمة تجاه ذلك الشخص، في حين أنه يرى في كل البشر مجرد وسائل لتحقيق أغراضه، ويستخدم عاطفة الحب الزائف وسيلة لاستمرارهم في خدمته وتحقيق مآربه، سواء أكانت هذه المآرب مكاسب مادية أم متع حسية.
الأمثلة كثيرة وشرحها يطول. يبقى أن نمتلك وعيًا حقيقيًا لتمييز الفضائل الحقيقية عن تلك الزائفة.