الخميس 2 مايو 2024

حيلف يلف و يرجعلي

مقالات8-2-2024 | 11:31

تابعت بوسائل الإعلام خبرا يتناول إجراء إحدى الجامعات امتحانا للطلاب عن أغاني المطربتين إليسا ونانسي عجرم، في البداية أخذتني الدهشة من اختيار الجامعة لهما ، ولكني سرعان ما تداركت أن كلا المطربتين لديهما من سنوات الغناء ما يتجاوز العشرين عاما يعني جيلين، وأن بعض أغاني إليسا تعبر عن حالات واقعية رغم اختلاف الرأي العام  ما بين مستنكر ومتقبل وسط هذا الجدل لمعت في ذاكرتي إحدى أغنيات إليسا والتي تقول في جزء منها :

(حيلف يلف ويرجعلي وهيجي قدامي ويدمعلي ، عشان أسامحه وأنسى وأعديها حيشوفني حينهار قدامي وحيقول ولا يوم من أيامي ده ما فيش أيام من بعديها)

فهل اللف والدوران  سنة كونية؟ سنة الله في خلقه أم ماذا ؟

وتخيلت أنه بكل لفة من لفات الأرض أو دورة من دورانها فهي تعود إلى حيث كانت، وكذلك دورة حياة الإنسان والحيوان والنبات، ولكن كان تركيزي في مسألة عودة الناس إلى الطبيعة بعد أن استهلكوا أنفسهم بكل ما هو ضار وكيماوي ومصنوع أصبحوا يبحثون عن سلال القش والبندورة العضوية وبدائل الأدوية من الأعشاب والعطارة.  

هل فعلا احتاجت الناس دورة من الزمان لتقتنع أنها كان يجب عليها أن تعود سريعا لا بل إن لا تذهب في تجارب تهدر الوقت والمال والجهد والصحة بل وتلوث البيئة والهواء والطعام وتعطل الأرض عن مسارها الطبيعي وتغير المناخ وتشح المياه وتكثر الأمراض والسرطانات، إنها فعلا دورة مكلفة وباهظة الثمن، وهي تماما كمن يخطئ بحقك ويعود حاملا بين أنيابه الندم ربما لا تسامح ولا تصالح فالذنب أقوى وأنت أضعف من أن تنسى فلا يغفر الذنوب (كافة) إلا الله، فهل تسامح الأرض وهل تصفح السماء وهل تعود على ما كانت عليه سابقا، أم سنعيش الدمار والخراب المتزايد والمتراكم إلى ما لا نهاية. 

أنا مشكلتي مع اللفة وليس مع العودة .. فلماذا تكلف نفسك لفة ودوران وتكلف كرامتك ذل الاعتذار وتكلف الآخرين عبء الصلح والغفران بعد الانهيار 

في اللهجة المصرية يقال (ما كان من الأول).

من هنا نستنتج أنه ليس كل التجارب مفيدة فبعض الحكمة تقر بأن السلامة أحيانا تكمن في عدم الخوض في تجارب خاطئة مذموم عقباها. 

وبالعودة إلى فكرة العودة 

تأملت المعنى ومدى تحققه على أرض الواقع، وجدت أنه بالفعل الناس بدأت تحن إلى ماضيها رغم إغراقها في زمن الفضاء الافتراضي الالكتروني ، فتحن للقاء الصحبة تحت شجرة  في الأرياف بعيدا عن صخب المدن ، و الهروب الي الشواطئ لاصطياد الاسماك في أوقات الاجازات ، واعداد أفران بلدية من الطين لطهي الطعام في المناطق الزراعية أو الصحراوية ، والبحث عن أصدقاء الطفولة واصطيادهم عبر الفيسبوك لاستعادة الزمن الماضي ولتبادل الذكريات  المشتركة .

البعض الآخر يستدعي  وجبة غذائية من ذاكرة  الجدة لإعدادها بنفس الطريقة القديمة رغم مغريات الوجبات السريعة وبريقها وعناصر جذبها .

والكثير من الشعوب عادت للتداوي بالأعشاب بعد استفحال خطورة العلاج الكيماوي الحديث ، كما عادت بعض الشعوب لوضع الماء في الأواني الفخارية والطهي عليها ، وانتشرت الزراعة العضوية بعيدا عن الكيماويات الي تسببت في انتشار السرطانات المختلفة ، وكذلك الحال الى الملابس والدقة في اختيار الملابس المصنوعة من العناصر الطبيعية كالأقطان والحرائر الطبيعية والاصواف ، وتهميش المنسوجات المصنوعة من البوليستر .

الطريف ان اليوتيوب ملئ بالعديد من القنوات في دول الشرق والغرب التي تتفنن في تقديم إعداد طعام الجدات والطهي وطرقهم المتوارثة في تجهيزها ، وهكذا بدأ العالم في احياء ماضيه ، بعد ان اكتشف خسارتها من تجاهل هذا الماضي ونسيانه لعقود من الزمن ، فعاد إلى الطبيعة نادما على كل المراحل التي غفل بها عن موروثه الانساني الطبيعي والذي أثبت نجاحه في حياة أسلافهم .

ومورثاتنا الشعبية حبلى بالعديد من الحكم التي هي خلاصة تجارب الأجيال المتعاقبة ومنها  من ( فات قديمه تاه ) ، ( وياما دقت على الراس طبول ) ، (اللي ما يسمع يأكل لما يشبع ) و( يا خسارته للي عمل النسوان تجارته ) (و الي من ايده الله يزيده) و(وذنبك على جنبك)  وغيرها الكثير من هذه الامثولات تعكس خبرات عميقة في الحياة ومن يستمع اليها ويصدقها ويهضمها بعقله ينجي من مخاطر عديدة في الحياة يدفع الانسان ثمنها غاليا من ماله وصحته وشبابه وراحته النفسية ، و للأسف فان الكثير منا يصر اصرارا  على خوض التجربة بنفسه ويشرب كاساتها حتى الثمالة ، وبعد ان يحقق خسائر فادحة نجده  يلف ويلف  راجعا إلى الوراء لينقذ ما يمكن انقاذه ، وربما يكون قد فات الأوان للنجاة .

أتمنى ، ونحن نعيش في زمن تعدد مخاطره يوميا وتهلك الانسان في عمره وعافيته وعمله وقوت يومه ، ان يستفيد  منذ بداية طريقه من خبرات السابقين عليه ، وان يستمع لآراء الخبراء والمفكرين دون الاغترار بالتحديث اليومي لمفردات يومية من علوم تكنولوجية وتقنيات وأساليب حياة مادية يلهث فيها وراء كل جديد وبراندات دون ان يحظى بالسعادة والطمأنينة وراحة البال .

فالتحديث اليومي لمعطيات حياتنا المعاصر قد يكون مفيدا في بعض جوانب الحياة ، لكن معظمه اكثر ضررا وفتكا بإنسان هذا العصر ، ومن الذكاء ان نستفيد من الخبرات لنختصر إضاعة الوقت والعمر والجهد فيما لا طائل من ورائه سوى الخسائر الفادحة فالتجارب فيها خسائر كبيرة وكما يقال في الأثر الشعبي ( الواحد ما بيتعلم الا من كيسه ) ، وقد لا تكون الخسائر فردية وانما يمتد تأثيرها على الأسرة  والمجتمع سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا .

فالأب ينصح انه باختيار زوجة صالحة لان العرق دساس ، فلا ينتبه لمقال والده ويختار عكس ذلك فيطلق ويفشل في زواجه 

وقد تنصح الام ابنتها بمراعاة حماتها وتحمل عصبيتها أحيانا بسب الكبر والمرض حتى يستقيم البيت بالمودة والتراحم وتجنب المشاكل ، لكنها تلقي  كلمات أمها عرض الحائط وتعامل حماتها الند بالند وتعيش في جحيم وبعد عشرين عاما ترجع لأمها قائلة يا ليتني عملت بنصحك وخبرتك .

والشاب المراهق كثيرا ما يجد النصائح من الأبوين والأسرة الكبيرة لتجنب أصدقاء السوء خاصة ممن يتعاطون المخدرات  وتتوالى نصائح الأطباء في الفضائيات والمدارس عن كوراث تعاطي المخدرات ، ولكن الشباب يرفضون الاستفادة من هذه الخبرات ويصرون على التجربة فيقعون في براثن الإدمان وبعد ان تضيع حياتهم يلفون ويرجعون الي ذويهم طالبين النجدة والخلاص .

يا ريت نتعظ من أغنية اليسا .. حيلف يلف و يرجعلي .

 

Dr.Randa
Dr.Radwa