تمر اليوم الذكرى الخامسة والثلاثون لاسترداد طابا ورفع الرئيس الراحل حسني مبارك العلم المصري فوق أرض سيناء الطاهرة..
لتكون بذلك آخر مئات الأمتار التي تعود إلى حضن الوطن الأم مصرنا الغالية، وسوف يظل استرداد هذه القطعة الطاهرة من الأرض ملحمة خالدة لن ينساها التاريخ المصري الحديث الذي سجلها بحروف من نور، بل إن كل حرف من هذه الملحمة كان شاهدًا على مدى ما تملكه الدولة المصرية من إرادة صلبة لا تقهر وقادرة على التغلب على كل الصعاب مهما كان حجمها..
● لقد تعاملت مصر بكل الجدية مع مشكلة طابا منذ ظهورها عقب إتمام إسرائيل انسحابها النهائي من سيناء في 25 إبريل 1982 دون الانسحاب من منطقة طابا التي تبلغ مساحتها حوالي 1200 متر..
حيث ضربت مصر أروع الأمثلة عندما التزمت التزامًا كاملًا بتنفيذ المادة السابعة من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة في 26 مارس 1979 التي تضمنت فقرتين رئيسيتين..
حيث نصت الفقرة الأولى على أن الخلافات المثارة بين الدولتين بشأن تطبيق أو تفسير هذه المعاهدة يتم حلها عن طريق المفاوضات، أما الفقرة الثانية فقد نصّت على أنه إذا لم يتيسر حل هذه الخلافات عن طريق المفاوضات فيتم الحل عن طريق التوفيق أو تحال إلى التحكيم، وهو الأمر الذي تحقق في النهاية باللجوء إلى التحكيم بعد استنفاد طريقي كل من المفاوضة والتوفيق..
كما تعاملت مصر مع هذه القضية بأسلوب "علمي" و"عملي" متميز للغاية، وذلك من خلال تشكيل منظومة عمل متكاملة، وهي اللجنة القومية العليا لطابا التي ضمت ممثلين وخبراء من كافة مؤسسات الدولة المعنية، سواء من وزارة الخارجية أو القوات المسلحة أو المؤسسات القانونية والعلمية والأمنية مدعومة تمامًا من القيادة السياسية. ومن ثم تحركت هذه المنظومة في أبهى وأرقى صورة وطنية على المستويين الداخلي والخارجي من أجل الحصول على كافة الوثائق والحجج والخرائط والشهود التي تؤكد كلها أحقية مصر في طابا، وهو ما تحقق بالفعل..
وبالرغم من أن "المعركة التفاوضية" كانت معركة "قانونية" و"سياسية" شديدة الشراسة؛ إلا أنه -في رأيي- أن أحد أهم التحديات التي واجهت عمل المفاوض المصري تمثلت في كيفية التعامل والتغلب على المفاوض الإسرائيلي الذي يتمتع بالقدرة الفائقة على الجدل والحوار غير الموضوعي، والتركيز على الشكليات، ومحاولة إغراق المفاوض المصري في تفصيلات لا حصر لها من أجل الابتعاد عن تحقيق الهدف الرئيسي الذي تسعى إليه مصر..
لقد كان المفاوض المصري شديد الوعي بمثل هذه الأساليب، ونجح من خلال امتلاكه الحرفية والمصداقية والثقة بالله وبالنفس في مواجهة المفاوض الإسرائيلي، وبالتالي تم كسب هذه المعركة التفاوضية الطويلة في النهاية بشكل أذهل ليس فقط المفاوض الإسرائيلي، بل أذهل العالم كله..
●● ومن بين ما أظهرته المعركة -التي انتهت في 19 مارس 1989 برفع العلم المصري على أرض طابا- أهمية الوثائق التاريخية والقانونية والجغرافية، وأن كلمة كتبت هنا أو صورة التقطت هناك أو خريطة أرفقت في كتاب أو حتى ختم بريدي، يمكن أن يمثل دليلا قويا لإعادة الحقوق لأصحابها..
وفي ظل هذه الحقيقة - ومن منطلق أنه ليس بالقانون وحده يتم كسب "القضايا الحدودية" - عكف الفريق المصري على تعقب كل وثيقة تتصل بالقضية والبحث عن أي معلومة أو كلمة تثبت حق مصر في أرضها وتفند الادعاءات الإسرائيلية، وهو ما يصفه المؤرخ يونان لبيب رزق في كتابه "طابا قضية العصر" بأنه أطول ماراثون وثائقي في تاريخ القضايا الحدودية..
وتنوعت الأدلة التي قدمها الفريق المصري للمحكمة وشملت الوثائقَ التاريخية -التي احتلت مكان الصدارة- والخرائط والمجسمات الطبيعية والإحداثيات الشبكية وكتابات المعاصرين والزيارات الميدانية إلى مناطق الخلاف وبقايا أعمدة الحدود، فضلا عن شهادات الشهود..
لدرجة أن الفريق المصري استعان بنحو 29 خريطة في مذكرته الأولى المقدمة في مايو عام 1987، لإثبات نقاطها الحدودية وتبعية طابا للسيادة المصرية، مقابل 6 خرائط فقط قدمتها إسرائيل لدعم حقها المزعوم!..
بل لم يخل الأمر من الأدلة الطريفة التي لعبت دورا في تأكيد "مصرية طابا" ومن بينها أختام البريد والطوابع.. وكما سبق وأن روى لي في أحد الحوارات التي أجريتها مع "العلامة والفقيه الدستوري والقانوني الكبير الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي السابق وعضو الفريق القانوني المصري لاستعادة طابا" فإن: "إسماعيل شيرين آخر وزير للحربية في عهد الملك فاروق وزوج أخته"، والذي كان قائدا للكتيبة المصرية في طابا، تطوّع للإدلاء بشهادته أمام المحكمة الدولية التي تنظر إجراءات التحكيم.. حيث قدم "شيرين" خطابات بريدية بعث بها إلى زوجته وأسرته من طابا، وردودا على تلك الخطابات أرسلت إليه هناك، وأن أختام البريد والطوابع تؤكد ذلك، وزادت هذه الشهادة من اقتناع المحكمة بأحقية مصر في أراضيها المحتلة"!..
ومن بين الأدلة الأخرى الطريفة والمهمة صورة من الامتياز الذي منحته الحكومة المصرية لشركة البترول (الأنجلو- مصرية) التابعة لشركة "شل" خلال عام 1921-1922، لتقوم بأعمال التنقيب عن البترول في سيناء في المنطقة المتاخمة لخليج العقبة حتى خط عام 1906، ومرفق به رسم كروكي يوضح هذه المناطق..
كما لعبت صورة لحاكم سيناء الإنجليزي باركر بك عام 1906 دورا كبيرا في القضية، حيث يظهر باركر وهو يرتكز على العلامة الحدودية 91 وهي أبرز نقاط النزاع بين مصر وإسرائيل في هذه القضية..
●● الخلاصة..
ان تاريخ "19 مارس 1989" سيظل فارق.. حيث يسجل وحدة شعب مصر الذي التفّ حول قيادته وجيشه الوطني وليؤكد للعالم أن المصريين لا يتركون شبراً واحداً من أراضيهم وقادرون على حماية تراب وطنهم بكل الطرق، بالحرب أو بالسلام!..
ولازلنا نفتخر ونعتز جيلاً تلو الآخر بقدرة الدولة على فرض إرادتها واسترداد أرض سيناء كاملة، والويل كل الويل لتلامذة الشيطان ولو بمجرد تخيل أنه المساس بتلك البقعة الطاهرة المقدسة التي اختارها الله ليتجلى فيها..
فالمصريين أدركوا أن الوقوف على قلب رجل واحد والالتفاف حول القيادة والجيش هو أقوى سلاح لمواجهة العدو وأبرز أسباب الانتصار.. وأن "أرض سيناء" لم ولن يستطع أحد الاقتراب منها، ومن يفكر في ذلك فهو يحلم بالمستحيل.. وأن الحلم مهما كان بعيداً فالمصريون قادرون على تحقيقه بالإصرار وحبهم الشديد الذي لا مثيل له..
ففط يبقى أن نقول..
إن مصر التي رفضت التفريط في شبر واحد من أراضيها، وخاضت معركة طابا بعد حرب أكتوبر، فإنها لن تقبل بأي سيناريوهات أو مخططات لتصفية القضية الفلسطينية على حساب أرض سيناء..