الجمعة 24 مايو 2024

أحمد حسين الطماوي .. وداعا لأحد رموز الذاكرة الثقافية

26-2-2017 | 10:10

د. نبيل حنفي محمود - كاتب مصري

كاد يوم من أيام يوليو 2011 ينتصف، عندما انطلق جرس هاتفي المحمول، كنت آنذاك في مقر عملي بكلية الهندسة بجامعة المنوفية، التي أشرف بالانتماء إليها، انتحيت جانبا للرد، فإذا بالمتحدث هو الكاتب الكبير الأستاذ أحمد حسين الطماوي، الذي لم أشرف قبل ذلك اليوم بلقائه أو مهاتفته.

لم أكن في ذلك اليوم – ولا قبله بقرابة عشرة أعوام – جاهلا بمن هو أحمد حسين الطماوي، حيث تابعت بإعجاب شديد مقالاته الرصينة والمتفردة في مجلة "الهلال" وصحيفة "القاهرة" منذ مطلع الألفية الثالثة، فقد تجاورت بعض مقالاتي مع مقالاته في هذين المنبرين، كنت آنذاك أراوح في مقالاتي بمجلة "الهلال" بين ما هو علمي، وبين ما يتصل بتاريخ الغناء المصري، ولما كانت مقالات الأستاذ الطماوي التي طالعتها قبل مهاتفته الأولى لا تخرج عن مجاليّ التراجم والنقد، مع ميله الواضح للاستعانة بدوريات وكتب غابت أسماؤها حتى عن كبار المثقفين، فإنني دهشت حين دار معظم حديثه الأول معي حول كتابي "معارك فنية"، الذي كان قد صدر قبل خمس سنوات، وتملكني العجب إزاء ما أبداه يومها من إحاطة موسوعية بالغناء والموسيقى وما يتصل بهما من دقائق وفنيات، وعندما انتهت المهاتفة التي امتدت لأكثر من ربع الساعة، داخلني شعور بأنني أعرف الأستاذ الطماوي منذ سنوات، وأن حديثي معه عبر الهاتف قد سبقته أحاديث وأحاديث.

منذ الحديث الأول، توالت الأحاديث الهاتفية مع الأستاذ الطماوي، وقد دارت جميعها حول الأدب والأدباء وما يتصل بهم من قضايا، وكان الحديث يطول ويتشعب إذا ما دار حول عشقنا المشترك لعملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، الذي ما إن يأتي ذكره في الحديث، حتى يتدفق حديثه عنه بكل نادر ومبهر من حكايات وذكريات، حيث تميز الطماوي بحافظة مذهلة، تجعل حديثه متدفقا هادرا لا يشوبه تردد أو تلعثم، إذ يكفي أن أبدأ أنا أو يبدأ هو في حديث عن حدث أو قضية أو فن من الفنون، لتنسال معلوماته الدالة على موسوعية تكوينه الفكري، لم تكن موسوعيته وإحاطته الشاملة بفنون أدبية عدة هي كل ما خرجت به من انطباعات عنه خلال الشهور الخمسة الأولى لتعرفي إليه، تلك الشهور التي أدركت أثناءها أنني قد وجدت صديقا جديدا في زمن عزت فيه الصداقة وكل ما هو جميل وأصيل.

وجاء لقائي الأول به بعد ظهر يوم الاثنين الثاني عشر من ديسمبر 2011 بقاعة الدوريات في دار الكتب المصرية، ذلك اللقاء الذي استكملناه مع صديقنا المشترك الناقد السينمائي محمد عبد الفتاح في أحد مقاهي منطقة ماسبيرو، لينفتح منذ ذلك اللقاء أمام عينيّ عالم الطماوي الإبداعي، لأرصد تجربة إبداعية متفردة، ربما تكون الأخيرة في عصرنا الحديث.

من طما إلى القاهرة

ولد أحمد حسين الطماوي في الثاني من نوفمبر 1943 بمدينة طما في محافظة سوهاج، وطبقا لبعض المصادر – ومنها ابنته الآنسة لبنى – فإن والدته فرضت عليه الإقامة بالمنزل، فلا يغادره إلا إلى المدرسة، خوفا عليه من جرائم الثأر المنتشرة بالإقليم في ذلك العهد، لتبدأ في طما رحلته باكرا مع الأدب، حيث أكب هناك على ما تصل إليه يداه من كتب، كان معظمها من التراث، لينتقل في تلك السنوات المبكرة إلى مرحلة الإبداع في مشواره مع الأدب، حيث شهدت مجلة مدرسة طما الثانوية بواكير قصائده وأزجاله.

انتقل الطماوي بعد اجتيازه امتحان الثانوية العامة إلى القاهرة عام 1961، حيث عمل أولا في بعض المصانع، ثم التحق بعد ذلك بكلية الآداب بجامعة القاهرة، لتنفتح أمامه أولا مخازن مكتبات القاهرة وعلى الأخص دار الكتب، ثم يطرق بعد ذلك أبواب منتديات القاهرة وندواتها الثقافية، والتي كان صالون العقاد في صدارتها، ذلك الصالون الذي دأب العقاد على إقامته صباح كل يوم جمعة بمنزله رقم 13 في شارع سليم الأول المتفرع من شارع إبراهيم اللقاني، والقريب من ميدان روكسى بحي مصر الجديدة، وفي حضرة العقاد تفتحت مدارك الشاب القادم من مجاهل الصعيد على فنون لم يسمع بها، وصُقلت مداركه بما شهد من مناقشات وسجالات، ومما لا شك فيه أن موسوعية العقاد ومطالعاته في فروع شتى من الآداب والعلوم والفنون، كانت حافزا للطماوي على اتباع منهج العقاد، الذي يعده أستاذه ومثله الأعلى، غير أن ما تأثر به من أصوات أدبية، لم يكن وقفا  على العقاد وحده، حيث التقى في ندوة العقاد بأعلام أثروا من تكوينه الفكري ورفدوه بفنون شتى، ومن هؤلاء: الكاتب الشاعر عبد الرحمن صدقي، الذي أثبت الطماوي في كتابه "رواد ومعاصرون" قصة لقائه الأول به نهاية عام 1962 في صالون العقاد، ومن أولئك الأعلام أيضا: علي أدهم ود. محمد صبري السربوني وعبد الرحمن شكري. وقد شهد كازينو تريومف بحي مصر الجديدة لقاءات الطماوي بأولئك الأعلام، من خلال ندوة كان يقيمها هناك الكاتب والناقد على أدهم، الذي أفاد الطماوي منه كثيرا، إذ يعد على أدهم كاتب مقال وتراجم من الطراز الأول، ويمكن القول بأن مجموع كتب على أدهم في أدب المقالة والتاريخ والتراجم: "من أنفس الآثار الأدبية في سجل الثقافة العربية في العصر الحديث" (د. حمدي السكوت "مشرف": قاموس الأدب العربي الحديث)، لقد انعكست إبداعات أولئك الأعلام -ممن تأثر بهم الطماوي – فيما طرق من فنون الأدب، وأكسبت تلك الروافد الثرية كتاباته ألقا باهرا، ميّز كتاباته.

كتب ومعارك

استكمل الطماوي في سبعينيات القرن العشرين الأدوات اللازمة لكاتب من نوعية مجايليه من رواد زهت بهم مصر في مطلع الستينيات، حيث حصل  على ليسانس الآداب في أواخر الستينيات، واستكمل في مكتبات القاهرة – وبالأخص دار الكتب المصرية وسور الأزبكية – ما يبغي من كتب ودوريات وصحف قديمة، لم يعتمد الطماوي على مطالعاته في المصادر القديمة لتلبية حاجته إلى المعرفة، وإنما لخلق مقال جديد من خلال إعادة التكوين والربط والصياغة لذلك المخزون الهائل من التراث، وليبدأ منذ سبعينيات القرن العشرين في نشر مقالاته بالمجلات والصحف، ولست أملك –حتى الآن – سجلا لمقالاته الأولى، وقد تميزت بأسلوب خاص، أمكن له نشر كتابه الأول عام 1985، وهو كتاب "الديوان المجهول" لخليل مطران، ثم توالت كتبه التي تجاوز الخمسة والعشرين كتابا، وآخرها "الشعر الحديث: أصوات وقضايا"، في سلسلة "كتاب الهلال" بالقاهرة، قبل وفاته بتسعة أشهر.

إن نظرة فاحصة إلى عناوين ما أبدع الطماوي من كتب، تقدم الدليل  على موسوعية الرجل، وتحيط القارئ علما بأجواز الفضاءات التي حلق فيها بأفكاره، فإذا ما اتخذ هنا مبدأ تقسيم تلك الكتب طبقا لما تنتمي إليه من فروع الأدب، فإنه يمكن القول إنه قدم في فن التراجم، الكتب التالية: (على أدهم بين الأدب والتاريخ) 1990، (جرجي زيدان) 1992، (محمد صبري) 1993، (محمد لطفي جمعة في موكب الحياة والأدب) 1993، (رواد معاصرون) 2012. وفي مجال الدراسات الشعرية الكتب الآتية: (الديوان المجهول لخليل مطران) 1985، (ديوان وطنيتي لعلى الغاياتي) 2010، (هدية الكروان) 2015، (الشعر الحديث: أصوات وقضايا) 2016. وأما في فرع التاريخ فألف الطماوي كتبا منها: (ما هنالك: من أسرار بلاط السلطان عبد الحميد) 1985، (أفراح ملوك ورؤساء مصر) 2007، (سارة العقاد أو أليس داغر) 2012، وتجيء أخيرا المجموعة التالية من الكتب التي تصنف في فروع النقد والدراسات الاجتماعية والتاريخ: (فصول من الصحافة الأدبية) 1989، (قبس من وحي التراث) 1991، (إبراهيم المويلحي: الشرق والغرب) 2013، فإذا ما أضيف لتلك المجموعة من الكتب مئات المقالات، التي نشرت في كبريات المجلات والصحف، مثل "الهلال" و"المجلة" و"الثقافة الجديدة" و"القاهرة"، لأدرك القارئ الأبعاد المترامية للمشروع الثقافي الذي أوقف الطماوي حياته عليه.

لم يعرف الأدب العربي الحديث خلال العقود الأربعة الأخيرة كاتبا فصيح العبارة، مسترسل المعاني، ولا أديبا واسع الأفق، متعدد المرامي، ولا متحدثا متدفق الأفكار، ناصع البيان كأحمد الطماوي، إن سحر بيانه ككاتب، تقف دليلا عليه كتبه ومقالاته المتعددة، غير أن صدى بيانه كمتحدث، قد انطفأ بوفاته، لأن أحدا من أهل الإذاعة أو التليفزيون لم يعن بتسجيل حوار أو مناظرة معه، ولبيان قيمة كتابات الطماوي وتفردها، سوف أكتفي هنا ببعض ما جاء في مقالة شيخ الأدباء: وديع فلسطين عن كتاب "سارة العقاد أو أليس داغر"، حيث قال في مقال نشر في مجلة "الهلال" في مارس 2012 عن منهج الطماوي في الكتاب: "ظلت شخصية أليس داغر (الاسم الحقيقي لبطلة رواية "سارة" للعقاد) غامضة إلى أن تصدى لها أحد كبار النباشين في بطون الكتب والصحف القديمة، وهو أحمد حسين الطماوي، فجلا ما غمض من أمورها، وأبرز دورها في حياة العقاد، وتقصى آثارها الأدبية التي كانت تنشرها في مجلة (فتاة الشرق)، ولم يترك شاردة ولا واردة في حياة أليس داغر إلا أوردها، ساردا مظانه وبراهينه"، فإذا كان ذلك هو منهج الطماوي في كتابه، فإن قيمة الكتاب كما أثبتها وديع فلسطين في ختام مقاله تلخصت في الكلمات التالية: "وكتاب الطماوي – كما نعهده دائما – يمثل وثيقة أدبية بالتواريخ التي حرص على إثباتها، والأسماء التي أوردها وعرّف بها، والتصويبات التي أجراها على كتابات الأدباء، مما أكسب كتابه حجية ناصعة في كل فصوله".

كان ذلك أيضا ديدن الطماوي في مساجلاته ومعاركه الفكرية، حتى في أحاديثه في المنتديات ولقاءاته بالأصدقاء، ومن أمثلة مساجلاته ومعاركه الفكرية ما جاء في أربعة مقالات تصدرت كتاب "رواد معاصرون"، وحملت جميعا هذا العنوان "مع أحمد شوقي ونقاده"، تحدث الطماوي في أول مقالين عن معارك أدبية دارت بين أحمد شوقي ونقاد من عصره، وحوى المقال الثالث هجوما من طبيب يدعى د. مصطفي الرفاعي، لينبري الطماوي في المقال الرابع لتفنيد كل ما كاله الرفاعي من نقد، حتى لتعد المقالات الأربعة – التي نشرت أولا بصحيفة "القاهرة" خلال عام 2007 – درسا بليغا في ماهية المعارك الأدبية وما يتصل بها من سجال فكري، ولقد شارك الطماوي بالحديث في كثير من المواقع والمناسبات، ومن تلك المواقع الندوات الثقافية التي تردد عليها منذ قدومه إلى القاهرة حتى شهور قليلة قبل وفاته، ولعل أشهر ما اشترك فيه بالحديث أو المحاضرة هو احتفالية "خمسون عاما من الحضور المتجدد"، بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيل العقاد، بمسرح قصر ثقافة أسوان بين 23 و26 مارس 2014، في تلك الاحتفالية اختطف الطماوي الأضواء من كل حضور الاحتفالية من الباحثين والمتحدثين، وطار بمستمعيه في أسوان إلى منزل العقاد بالقاهرة، الذي صحبني إليه ومعنا الناقد السينمائي محمد عبد الفتاح في أحد لقاءاتنا، فجعلنا نحلق عبر السنين، لنرى العقاد – بعين الخيال – يرقب مجيء أليس داغر أو سارة من نافذة المسكن، فإنه صنع أكثر من ذلك مع جمهور احتفالية أسوان، حتى غدا يومها – وكما تحدث إلي بذلك بعد عودته إلى القاهرة – نجم الاحتفالية بلا منازع.

التكريم الحقيقي

في أيامنا، يتصارع الصغار على الجوائز والمناصب، وحده أحمد حسين الطماوي من نأى بنفسه وقلمه عن ذلك، فلم يحفل في حياته بشيء سوى الأدب، حتى إنه طلب إحالته للمعاش من عمله بالمصانع الحربية، مبكرا قبل بلوغه الستين، كي يتفرغ لمشروعه الثقافي وينجو بنفسه وإبداعاته عن شلل المثقفين وصراعاتهم، فلما لقي وجه ربه بعد شهور قليلة من المعاناة مع مضاعفات مرض السكر، يوم الجمعة 16 ديسمبر 2016، لم يذكره من وسائل الإعلام، التي لا تتذكر أحدا غير الفنانين واللاعبين ورجال السلطة، سوى صحيفتي "القاهرة" و"اليوم السابع". واليوم وحين أكتب عنه في "الهلال" التي زهت بمقالاته طوال عقود ثلاثة، فإنني لا أدعو هنا –  على سبيل المثال - إلى ندوة لتأبينه، لأن ما هو جدير به من تأبين، يتمثل في إعداد بعض الرسائل الجامعية حول خصائص أسلوبه المميز وسبر أغوار مشروعه الثقافي، فذلك هو التكريم الحقيقي لكاتب ينتمي بحق لجيل العمالقة من كتاب عصر التنوير، رحم الله أحمد حسين الطماوي وأجزل مثوبته جزاء ما قدم للأدب والقيم الرفيعة من إبداعات لن تغيب من بعده.