الأربعاء 22 مايو 2024

اليقظة الذهنية والتنوع الثقافي في مواجهة التطرف من منظور إعادة الهندسة الثقافية


د. رشا الفوال

مقالات1-5-2024 | 12:56

د. رشا الفوال

التطور التاريخي لقضية التنوع الثقافي يُحتم علينا تجاوز الحدود الضيقة بين العلوم الإنسانية لنتمكن من إدراك الثقافة في علاقتها بمفهوم الحضارة، وأهمية المقاربة بين الفردانية والجمعنة في تشكيل الهوية الثقافية، والحرص على ممارسة التفكير الناقد من أجل إدراك دور التنوع الثقافي في ظل الجمهورية الجديدة.

الإبداع كخطاب والهوية الثقافية

 يستطيع الإبداع أن يوسع خارطة المتلقي الإدراكية والنفسية عن العالم الخارجي، من خلال ربط الآداب والفنون بالهُوية الثقافية، إذ ينبهنا إلى أهمية الظواهر النفسية التي قد نكون غافلين عنها، فالموسيقى وفنون الأداء والخطابات الأدبية تُعد أنساقًا ثقافية عاكسة لمجموعة من السياقات الجغرافية والاجتماعية، أو بمعنًى آخر إن الإبداعات الفكرية والفنية لم يصنعها الأدباء والعلماء بقدر ما صنعتها الثقافة والأوضاع الاجتماعية السائدة، كما أن فاعلية الأنشطة الإبداعية تتحقق عبر استحضارنا الصريح للتنوع الثقافي كمصدر خلاق للإبداع، ومن ثم إبراز عناصر الهُوية، فكلما كان فهمنا دقيقًا كان حكمنا صادقًا، كما أن النسق الثقافي لا يقف عند حد، بل يعبُر كل الحدود والفواصل.

هذا وتتمثل إشكالية الوضع الثقافي المصري الراهن في محاولة الإجابة عن عدة تساؤلات منها:

إلى أى مدى تمكنت المؤسسات الثقافية من الاستفادة من التنوع الثقافي كمصدر خلاق للإبداع؟ وكيف يتم توظيف اليقظة الذهنية في مواجهة التطرف؟ وهل نمتلك القدرة على استجلاء الوعي بأزمة الهُوية وسياقات توظيف التنوع الثقافي في ظل الجمهورية الجديدة وما تقتضيه تحولات العصر الرقمي؟

ولأن التساؤلات محرضة أساسًا على إعمال العقل؛ فالذوبان في الماضي_ الذي يساوي الكسل العقلي_ يُعد خيانة لأعظم ما في الماضي من الفتوح والكشوف الغالية هربًا في الزمان، والذوبان في الآخر الذي يساوي اللجوء الحضاري إلى الغير هربًا من المكان أثمرا لنا الازدواجية (الثقافية/ المعرفية) التي نحياها، وكأن اللجوء في الزمان يكتمل باللجوء من المكان؛ فنتحول في الحالين إلى أمة لاجئة خارج الجغرافيا والتاريخ معًا.

أغلب الظن أن سعينا إلى فهم ظاهرة التآكل الثقافي وإخفاق عدد من المؤسسات الثقافية في تأدية عملها بحزم لا يستقيم دون انفتاح على المرجعيات المعرفية المتعددة تجاوزًا لثنائية المتن والهامش؛ ذلك أن الهُوية لها وجه سيكولوجي داخلي ووجه اجتماعي خارجي.

والحديث عن إعادة الهندسة الثقافية يواجهنا بإشكالية التعريف؛ فعالِم الاجتماع الأمريكي: رالف لنتون Ralph Linton يُعرف الثقافة في كتابة: الأنثربولوجيا وأزمة العالم الحديث بأنها "من أهم الأدوات التي يتعامل بها الباحث لتعيين المجموعة المنظمة من العادات والأفكار والمواقف التي يشترك فيها أعضاء أى مجتمع".

 وتعرفها عالمة الأنثربولوجيا الإنجليزية: روث بندكت Ruth Benedict  بأنها "ذلك الكل المركب الذي يشمل العادات الاجتماعية التي يكتسبها الإنسان" وتمثل مجموع التقاليد والمعتقدات المتوارثة، الثقافة إذن هى المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما، وتشمل_أى الثقافة_ كل ما يصور تجارب الإنسان شعرًا ونثرًا ولونًا ونغمة وشكلًا وصورة؛ ربما لأنها هى كل ما من شأنه إخراج أحوال الناس من برجها الذاتي إلى ساحة الإدراك والتذوق الفني، هذا وتعود جذور كلمة Culture إلى لفظين لاتينيين هما: Culture التي تعني حرث الأرض وزراعتها، ولفظ Colere الذي يحمل مجموعة من المعاني كالتهذيب والحماية والتقدير إلى درجة العبادة. وقد احتفظت الكلمة بهذه المعاني العلمية في القرون الوسطى، وفي عصر النهضة اقتصر مفهوم Culture على مدلوله الفني والأدبي الذي تمثل في الدراسات التي تناولت التربية والإبداع، ثم تمت ترجمة مفهوم Culture إلى اللغة العربية كمقابل لمفردة الثقافة التي تُشتق في قواميس اللغة العربية من لفظ: ثقف التي تعني: سرعة التعلم، فثقفت الشىء أى حذفته وظفرت به،  ورجل مثقف: أى حاذق، فهم، فطن.

ويقال تثقيف الرماح: أى تسويتها، بهذا فأصل الفعل (ثقف) مرتبط بالصفات العقلية والقوة الإدراكية التي تشتمل على المهارات والمعارف والوعي والقدرة على تقويم الاعوجاج. الثقافة أيضًا كلمة استخدمها المحدثون، وذُكرت في المعجم الوسيط بأنها تعني العلوم والمعارف والفنون التي يتطلب الحذق فيها.

من أجل إعادة الهندسة الثقافية

 الثقافة جزء من الحضارة؛ لأن الحضارة تختص بالجوانب الروحية والعقلية والأدبية، معنى ذلك أن مفهوم الثقافة تتعدد عناصره وتتنوع وتتباين درجات مدلولاته؛ لأنها _أى الثقافة_ تتحرك في أُطر متمايزة ومستويات حضارية متباينة، وعوالم تشكلت بفعل ظروف سياسية واجتماعية وتاريخية.

فإذا كانت الهُوية بمفهومها اللغوي تدل على الذات، فالهُوية هى حقيقة الإنسان المتضمنة صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره وتجعل له ذاتًا مستقلة، مع ملاحظة أن إعادة الهندسة الثقافية لا تلغي هُوية المبدع وبصمته الدالة على فردانيته؛ من ناحية، ونعتبرها _أى الثقافة_ فاعلية مجتمعية لها تأثيراتها العظيمة في حياة أفراد المجتمع، من خلال ذلك تنقسم الثقافة الفاعلة في مصر إلى فئتين:

الفئة الأولى تتمثل في الثقافات الموروثة؛ الهُوية هنا هى القسمات الثابتة من العناصر التراثية التي نرى تأثيرها في تحديد الأطر المرجعية للمبدعين. هنا تواجهنا إشارة الإنذار الأولى؛ فإذا كانت مقومات الهُوية الثقافية نعني بها الخصائص الانفعالية والعقلية والسلوكية التي تشيع بين عدد كبير من الأفراد؛ فالعولمة الثقافية تكمن آثارها في صياغة ثقافة عالمية لها معاييرها التي تسعى إلى قطع صلة الإنسان المعاصر بتراثه والتأكيد على الفردية من خلال تهميش رقابة الدول على وسائل التواصل الاجتماعي وسلب الخصوصية الثقافية. يدفعنا ذلك للحديث عن مفردات العالم الواقعي الموازية لمفردات العالم الإفتراضي، وكيف أن الموجات الحالية من الرقمنة وثورة الذكاء الاصطناعي تأخذنا إلى ثقافة رقمية، فإذا كانت العولمة على المستوى التاريخي تعد استعمارًا ثقافيًا؛ لأنها تهدف إلى طمس الشخصية وإخضاعها وهيمنة الثقافة أحادية القطب؛ فالعولمة الثقافية تفرض على المستوى الروحي للأفراد استراتيجية محددة تهدف إلى التركيز على الجوانب المادية والجسدية فقط، معنى ذلك أن التحولات الثقافية تكون بالغة الشدة كلما ارتبط موضوعها بالقيم المجتمعية، وأن العولمة الثقافية التي أدت إلى أن يعيش الإنسان المعاصر بهوية مزدوجة. قد تصل به إلى التطرف والعدوانية التي تخدم غرائز الموت من خلال تدمير الذات ومخالفة معايير السلوك والقيم المجتمعية المتفق عليها

الفئة الثانية تتمثل في الثقافات المكتسبة من خلال العمليات التربوية والتعليمية والساسية_ وهى ثقافات تصل لأهدافها من خلال ثنائية "الترغيب/ الترهيب"، هنا تأخذنا إشارة الإنذار الثانية إلى الأرق المعولم الدال على ارتباط تطور الرأسمالية بالتكنولوجيا.

لكن ما نرغب في التأكيد عليه من خلال هذا المقال الثقافات المكتسبة بالخيار الإنساني الحر القائم على الوعي، هنا إشارة الإنذار الثالثة حيث أن مسيرة الإخفاق الثقافي بدأت من غياب الحوار واحتجاب الحرية والعقلانية. ومن أجل أن تتجاوز الثقافة معناها السطحي الذي يحصرها في محاولات الاستقبال والتماثل والتماهي مع ما يتم بثه من قِبَّل المؤسسات الثقافية. عليها أن تنطلق باعتبارها حالة من المشاركة المجتمعية القائمة على الانفتاح على الخبرات الجديدة وبذل الجهود لترسيخ القيم كواجبات أخلاقية تقتضيها المرحلة السياسية الحالية.

هنا أيضًا يمكننا الحكم على طبيعة الرابط الاجتماعي من خلال عامل الزمن، شدة الانفعال، الحميمية، الخدمات المتبادلة بين أفراد المجتمع. فإذا كان الرابط الاجتماعي العاطفي من أجل الحماية والرعاية وتلبية الاحتياجات، فهو أيضًا من أجل الاعتراف بالإنسان وبوجوده، مع ملاحظة أن  فردانية الإنسان قد تؤدي إلى تفكك الرابطة الاجتماعية فيما يمكن تسميته بالهشاشة المجتمعية، يتم ذلك في ظل تطرف الأفكار وتطبيق فكرة استبعاد الآخر القائمة على الوصم والوقوع في فخ الصراع واللاشخصية والاغتراب المؤدي إلى العزلة.

معنى ذلك أن لليقظة الذهنية في مواجهة التطرف دورها الكبير بسبب جماهيريتها أولًا، وقدرتها على شحذ الهمم والنظر إلى الأفراد كمراكز إشعاع فكري وفني ثانيًا، هذا ومن اليسير أن تتمكن أجهزة الدولة من تفعيل آلية اليقظة الذهنية من خلال النقاط التالية:

 إذا افترضنا أن الثقافة يكتسبها الإنسان بشكل تلقائي، ثم من خلالها يُرسم نمط تفكيره وسلوكياته وتُحدد ماهيته ومنظومة قيمه واهتماماته؛ فالعولمة الثقافية أدت إلى تعدد شبكات الاتصال والمعلومات وبالتالي محاولة تخفيف الارتباط بين الظواهر الثقافية ومواقعها الجغرافية، على مؤسسات الدولة إذن زيادة عدد الندوات التثقيفية واستضافة الأسماء اللامعة محليًا ودوليًا في الفنون والآداب والعلوم، مع السعي إلى انتقال هذه الندوات من مواقعها إلى مواقع جديدة يصبح فيها المواطن جزءًا من الفاعلية، يتابع ويناقش ويشتبك بإبداعه ورؤيته لقضايا المجتمع.

 ولأن ثقافة الإنسان بسلطتها بؤرة يقظته الذهنية، علينا السعي من أجل تحويل قاعات المكتبات بالمدارس والجامعات إلى حلقات تناقَش من خلالها القضايا الثقافية والمجتمعية والتعليمية والسياسية، هذا مع ضرورة إرساء حالة من التماهي مع أجواء التسامح وقبول الآخر.

إذا افترضنا الطابع الكوني للتفكير في إعادة الهندسة الثقافية؛ لوجدنا أن الحديث عن كونية المعرفة يفرض علينا محاولة فهم الذات من خلال ما أنتجه الآخر؛ ربما لذلك تُلح علينا فكرة أن تضم كل مؤسسة تعليمية ناديًا للسينما مؤهل لاستقبال تساؤلات الطلاب بشكل لائق ومرِن، حيث يتم تحليل جماليات الأفلام المعروضة ومناقشة قضاياها وتحليل خطابها لاستخلاص أفكار تتم مناقشتها في أجواء من حرية التعبير والتفكير الناقد. فالمبدع هو السلطة الوحيدة غير الزائلة في هذا العالم؛ لأن ما يضيفه إلى الضمير الإنساني يُزهر مع الزمان.

ولأن أزمة المعنى يصاحبها بالضرورة الإحساس باللايقين، على مؤسسات الدولة المنوط بها إعادة الهندسة الثقافية إتاحة فرص التعبير الحر الكاملة للمواطن (المتورط في الإحساس بأزمة الانزعاج ما بعد الحداثي) كذات فاعلة، بعيدًا عن الإملاء الثقافي والإخضاع والمراقبة، ينبع هذا من اعتبار الانزعاج ما بعد الحداثي معادل موضوعي لأزمة هُوية الذات حيث النزعة الاستهلاكية التي تعني أن كينونة الإنسان متصلة بإشباع الحاجات الفسيولوجية فقط. وتفكيك السياق الأصلي للأحداث؛ لتستمر صورة الذات القلقة، وتستمر حالة التردد والشك.

إذا افترضنا أن البنية الذهنية للمعرفة (النص الثقافي) لها قاعدة تسمى (النص الاجتماعي العام)؛ علينا مجابهة الانقسام الذي أصاب وعى النخبة _وتجلياته التي نراها في الانتماء المراوغ_ على حساب المعرفة؛ فهؤلاء هم الذين تفرغوا إلى إنتاج الجانب الأكبر من الوعى الزائف. مع ملاحظة أن هذه الأزمات الدالة على التعارض بين الشكل والمضمون كان لها_ومازال_ تجسيداتها في الشِعر والنقد والمسرح والرواية والفنون.

هذا ويشير: ميشال فوكو Michel Foucault في معرض حديثه عن البُنىَّ المعرفية وطيات الخطاب إلى أن موضوع الحفر الأركيولوجي (تصورنا لماهية الثقافة) يسعى إلى وضع تاريخ الأنساق الفكرية والثقافية برمتها تحت مظلة النقد والتفكيك والمساءلة؛ فإذا كان الإرث الثقافي يسوده تنافرات عديدة بين فعل الإبداع_الذي يرتكز على كشف المسكوت عنه_ وبين المحظورات، فاليقظة الذهنية في مواجهة التطرف تستوجب البحث في صورة الإنسان المصري المعاصر، من أجل الوقوف على حدود استجاباته للتقنيات الثقافية الخارجية القائمة على التحكم والإخضاع، ومن أجل تمكينه من إبداع تقنيات ثقافية جديدة تراهن على حرية التعبير.