الثلاثاء 18 يونيو 2024

مصر.. التي ولدت قبل التاريخ

مقالات7-6-2024 | 10:32

من معالم حياتي أنني عشت بدايات طفولتي في مسرح، هو أحد أقدم مسارح مصر، حيث أنشئ سنة 1928 برأس البر، فتأثرت كثيرا بأدب وثقافة ودقة وتقاليد المسرح.

وتأثرت بالكهرباء والنور في ذلك البلد الذي لم تدخله الكهرباء إلا في سنة 1960. ووقتها كان يوسف وهبي يمثل على هذا المسرح المسمى "سينما تياترو رويال" روائع الأدب العالمي ،من "كرسي الاعتراف" إلى "أولاد الفقراء" وصولا إلى "الاستعراض العظيم" وعايشت عظماء الفنانين من أمثال راهبة الفن أمينة رزق وعميد الكوميديا نجيب الريحاني.

وسمعت محمد عبدالوهاب يغني سنة 1946 والمئات يركبون المراكب على شط النيل كي يسمعون صوته، بينما الطيران الحربي الألماني يهدد بورسعيد. ولهذا وفي إحدى الليالي غنى عبد الوهاب "في الليل لما خلى" في ظلام دامس.

ثم بلغنا حفلات عبدالعزيز محمود، وكارم محمود، وعبدالغني السيد، وإبراهيم حمودة وعباس البليدي، وصولا إلى نجاة الصغيرة ومحرم فؤاد، وغيرهم ممن غنوا الشعر وباللغة العربية الجميلة، فأضافوا لثقافتنا الكثير.

وكانت رأس البر هي مصيف العائلات والخاصة وكان من المعتاد أن نرى مصطفى النحاس باشا ومحمد حسين هيكل باشا، ومحمد التابعي وأسمهان وأم كلثوم، يتريضون بالسير في شارع النيل، أو على البحر.

ومن تقاليد رأس البر وقتها أن الشاطئ كان يقتصر على السيدات من الصباح الباكر وحتى الساعة الثامنة. وعندها يسمح للرجال بالنزول إلى البحر.

وفي الأربعينيات أسس والدي ومجموعة من الخيرين "جمعية رعاية المساجد" التي بنت في الأرض الفضاء خلف مسرحنا جامعا كبيرا.

واستفاد والدي من صداقته بوزير الأوقاف فطلب منه إيفاد أحد كبار الوعاظ كل جمعة ليؤم الصلاة. وكانو جميعا من خيرة رجال الدين، حتى أنني ما زلت أذكر بعض مواعظهم. والأهم أن الواعظ كان يلقي "درس العصر" لسيدات رأس البر في مسرحنا الذي كانت السيدات يتوافدن عليه بالمئات، في مظاهرة للاستماع للدرس حيث يجلس الشيخ على المسرح وتصطف السيدات في الصالة أمامه.

وكم من المرات سمعت والدتي "فاطمة هانم" وشقيقاتها وصديقاتها يستشهدن ببعض المواعظ اللاتي استمعن لها.

وفي الخمسينيات صدر قانون جديد لتراخيص دور السينما والمسرح أطلقت عليه تسمية "قانون ترخيص دور السينما والمسرح والمحلات المقلقة للراحة".

واشترط القانون الجديد عدم بناء دور سينما أو مسرح بالقرب من الجوامع ودور العبادة. وكان معنى ذلك أننا بنينا الجامع سنة 1948 لكي نهدم المسرح الذي بُني سنة 1928.

واستغرق ذلك جهودا شاقة لنقنع "أهل الذكر" بأن المسارح ليست من عمل الشيطان. واستعدنا في ذلك قول رسول الله لسيدنا أبا بكر الصديق بأن للناس أعيادا فيها يغنون ويمرحون دون حرج.

كما أن دور السينما الصيفية تعمل في حالة الإظلام فقط وبعد صلاة العشاء حيث تكون الجوامع قد أغلقت بنهاية كل الصلوات.

في منتصف الخمسينيات درست في جامعة الإسكندرية، المدينة التاريخية العريقة ذات الثقافات المتعددة حيث الجاليتين اليونانية والإيطالية تشكلان جانبا مهما من السكان بجانب الأرمن المصريين.

وسكنت وزميل لي في السنة الأولى في "بنسيون نجم" بمحطة الرمل، وكانت تملكه يهودية مصرية هي السيدة "أوجيني عساف نجم" وعاملتنا كالأم بمعنى الكلمة.

وكنا نمضي سهرة نهاية الأسبوع في إحدى دور السينما السكندرية الفاخرة والمتمركزة في شارع صفية زغلول. ونتبادل الحديث في الأيام التالية حول ما شاهدنا.

فلما سألت زميل لنا بالكلية عن أي فيلم رآه في نهاية الأسبوع، إذا بوجهه ينقلب، ويقول لي بازدراء: "أنــا لا أدخل السينما، فهي حرام".

وهو الأمر الذي هالني وأحزنني كثيرا. فالسينما هي مجتمعي وأسرتي، بل ومهنتي في ذلك الوقت.

لم يدرك الكثيرون من وقتها أن من نعم الله على المسلمين أن هداهم إلى دين لا كهنوت فيه ويحاسب فيه كل مسلم باجتهاده ونواياه في القلب ، ولما سأل مسلم الرسول، صلى الله عليه وسلم، في أمر يخص إيمانه، أجابه الرسول بقوله: "استفت قلبك" فالأعمال في الإسلام بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.

ويحكى أن شابا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: أليس الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ والصلاة؛ والزكاة؛ والصوم؛ والسعي إلى بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا؟ فأجابه النبي (ص) بالإيجاب. فقال الشاب: والله لن أفعل غير ذلك ولن أكلف نفسي بعبء آخر.

وعلق الرسول (صلى الله علليه وسلم): أفلح إن صدق. 

فاللهم ثبتنا على الدين ولا تدخل بيننا من لا يخافك ولا يرحمنا من حشر أنفه فيما لا شأن له فيه من شئون ديننا ودنيانا.

وبالتالي فأنا اجتهدت في الصلاة وتلاوة القرآن والصوم والزكاة وحججت مرتين، وزرت مرات لا أستطيع أن أحصيها. ولم أجد نفسي بحاجة أبدا للاستماع لهذا الكم من التدخل في مسائل الدين والدنيا ممن يحشرون أنفسهم بحق وبدون حق. 

وكان لي شرف الحوار مع فضيلة شيخ الأزهر الحالي ومن سبقه ومع فضيلة المفتي على جمعة.

وفي كل مرة يطمئن قلبي بالزيارة، ومن أجمل ما أعتز به في هذا الشأن معاصرتي في البرازيل للبعثات الإسلامية التي يوفدها الأزهر الشريف لإحياء ليالي شهر رمضان المعظم.

وفوجئت وقتها بمسلمين في البرازيل يقولون إنهم لم يستمعوا طوال حياتهم إلى تلاوة "قرآن حي" من مقرئ، فكانوا يتوافدون على جامع "سان باولو" بالآلاف لصلاة التراويح والاستماع لتلاوة الذكر الحكيم.

ومن ذلك الوقت أمضيت أجمل ليالي رمضان على أفضل ما يكون بين صلوات التهجد والقيام وتلاوات القرآن، بقدر لا نمارسه في بلداننا الإسلامية التي صار شهر العبادات أقرب إلى شهر "المسلسلات والفوازير". 

أما تجربتي في إفريقيا في خدمة الدعوة الإسلامية فهي محل اعتزازي الكامل. ففي الكاميرون يعيش أربعة ملايين مسلم ومثلهم من الكاثوليك وفيهم قلة من الأورثوذكس. والأربعة ملايين الثالثة عبدة أصنام ،وفي هؤلاء نجاهد.

وقد أكرمنا الأزهر الشريف بفيض متزايد من مبعوثيه لتعليم الشريعة الإسلامية واللغة العربية، وأتاح لنا -في أول سنة- أربع منح للدراسة في الأزهر، ارتفعت إلى عشرين منحة في السنة الرابعة.

وبلغت من النجاح أن صار أغنياء المسلمين يبعثون بأبنائهم للدراسة على نفقتهم بالأزهر حتى بلغ مجموعهم 250 طالبا.

وينظر المسلمون لسفير مصر الأزهر باحترام وتقدير. وعندما غبت عن صلاة الجمعة مرة بسبب الاضطرابات بين بعض القبائل، اتصل بي وزير الخارجية منزعجا لأن وجود سفير مصر بين المصلين هو عامل للاستقرار وفض المنازعات.

فذهبت للجامع في الجمعة التالية وخطبت في الناس قائلا: "أليس الإسلام هو شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ والصلاة؛ والزكاة؛ والصوم؛ والسعى إلى بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا؟". وأجاب المصلون بالإيجاب فاستطردت: "لقد قابلت فضيلة شيخ الأزهر الشريف  مؤخرا وأوصاني بأن أبلغكم بأن من يطلب من المسلم أي شيء يزيد عن هذه الأركان الأربعة فهو خصيمه ولن يدعو له ولن يستغفر له".

وأدهشني أن كل فرد في الجامع قام ليسلم علي. وفهمت أن الكل يسعي ليسلم على اليد التي سلمت على فضيلة شيخ الأزهر.

كان هذا هو الإسلام الذي تعلمته ومارسته، ثم علمته للآخرين ودعوتهم إليه. وفي هذا كنا نحبب الإسلام للأطفال فنقيم لهم مسابقات تلاوة القرآن ونكافئهم بملابس العيد، وشارك في ذلك سفراء الدول العربية الثمانية الموجودين وقتها بالكاميرون.

وكدت أبكي من الانفعال عندما سألت طفلا: "ماذا تحفظ من القرآن يا يونس؟" وكانت إجابته الرائعة: "أحفظ من البقرة إلى الناس". وفي هذا رأيت مسلمين من "تشاد" يأتون ليعلموا الأطفال القرآن وصحيح الدين.

فساعدناهم ،وما شاء الله على الكاميروني المسلم "طه حسين" الذي ساعدته على استكمال دراسة الحقوق ، فجاءتني "مظاهرة" من أبناء بلدته يشكروني. ثم بعث يبشرني بتخرجه بعد أن انتهت مهمتي في الكاميرون.

يعكر صفو هذه الذكريات الطيبة عن الإسلام والمسلمين ممارسات البعض ممن يمنحون أنفسهم الحق في الحكم على إسلامنا وممارساتنا.

فإذا بأحدهم يقتل رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي، وآخر يقتل رئيس الوزراء أحمد ماهر، وقاتل ثالث يحاول قتل حامل نوبل "نجيب محفوظ" لأنه كافر.

ولما سُئل إن كان قد قرأ رواياته فاعترف أنه لم يقرأها ولكنه "سمع" أنه عاب في الإسلام في إحدى رواياته.

وبلغت المأساة ذروتها من زميلي مستشار السفارة الذي علمت من سفراء دول عربية أنه لا يخفى عداءه لرئيس مصر وقتها ويعتبره كافرا ولا يستحق أن ندعو لانتخابه رئيسا لمنظمة الوحدة الإفريقية سنة 1993.

ولما واجهته لم ينكر ، فسألته كيف يبرر خيانته للأمانة، رغم حصوله على مرتبه للدفاع عن بلده ورئيسها بينما يهاجمهمــا. فقال ببساطة: "إن أموال الكفرة حلال على المؤمنين".

فلم أتردد لحظة في التوصية بمنعه من السفر للخارج وتمثيل بلده حفاظا عليه وعلى أمانة وشرف المهنة، سامحه الله وغفر له. 

فإذا بالحياة السياسية في مصر تتطور "لتهديـــنا" حكومة من مثل هؤلاء الناس، لا يدركون ما هو الوطن ولا قيمة حدوده التي استشهد من أجلها الآلاف.

فعاثوا في الأرض فسادا، ونكلوا بعباد الله دون وجه حق ، وظهرت بوادر مأساة تجلت عندما قال لي أحدهم إن قضية غزة وعودتها لحضن فلسطين ليست هي المشكلة. لأن الهدف الأهــم هو أن تصبح غزة "إمارة إسلامية".

وبدأنا نشهد الاستعداد يجري لتنازلات عن الأراضي المصرية مقابل تسويات في المنطقة ، وبلغ الاستهتار بالقانون وبالعدالة أن صدر عفو رئاسى عن كبير من الإسلاميين المحبوسين، وأعضاء الجماعة الإسلامية، وحركة الجهاد الإسلامى المشاركين في اغتيال الرئيس أنور السادات سنة 1981.

وكاد الزمان والأمر أن ينفلت، فتطلع الناس لجيشهم درع الأمة، واستجاب الجيش فبطش بالكارهين لأنفسهم ، ورد مصر للمصريين وسلك كل الطرق الوطنية القانونية لإعادة الأمور لنصابها.

وفزنا جميعا بمصر المحروسة ننعم فيها ونتطلع لمستقبل يليق بنا وبأولادنا أولاد مصر العظيمة.