إن الفنون التشكيلية جزء من التشكيل البصرى دائم التجدد للمجال العام وهو التجسيد البصري لصرخة الحق شديدة الإنسانية بلا تمييز بين عرق أو لون أو ثقافة. إن الفن المصري منذ القدم يعبر عن الخير والحق والجمال ويقاوم الشر بإعلاء قيم الجمال والفن كقيمة إنسانية كبرى يرقى متجاوزاً كل التحيزات الضيقة بلغته الكونية وأصالته. وفى جوهر الفن المصري القديم تكمن فلسفة الحياة الإيجابية حيث ينتصر الجمال على الشر وفرصتنا الوحيدة هى إنماء الخير في العالم ليطغى على القبح والإساءة، إن الفنان المصري القديم كان يحتفي بالحياة وبالجمال وبالتفاصيل الدقيقة المبهجة لينتصر على الموت والظلم وأعوان الفناء.. حتى في أعماق العمارة الجنائزية حيث يسود الفناء ورائحة الموت يولد هناك كل هذا الكم من البهجة، والألوان الصاخبة والنباتات والحيوانات التي تضج بالحياة والبشر الذين يضعون أفضل زيناتهم ويمرحون ويأكلون ويشربون ويرقصون على أنغام الموسيقى. إنه الفن فى مقاومة العدم، وكما قال أنطونيو نيغري: لقد اكتملت حريتنا لأنها صارت في حجم تعاستنا لذلك صار الخيال لدينا قادراً على مواجهة ذلك الخواء الذي يهدد العالم.
إن الفن هو طبيعتنا وهو عملنا وهو الجماعة الوحيدة التي نوجد من أجلها. إن إنتاج الجمال قادر على بناء العالم إذ لا يمكن لأي فن إلا أن يكون بنَّاءً، لم يعد حلم تغيير العالم ممكناً فحسب بل صار لزاماً علينا بناء العالم لأننا نحن من هدمه أيضاً. ونحن إذ نطل في جولتنا هذا الشهر على عالم الفن التشكيلي المصري الرحيب، وفي تلك الجولة نستعرض بعض الومضات المهمة والثرية في هذا العالم، نقرأ من خلالها ملامح تنبئ عن صحوة الوعي الإنساني ونهضة إبداعية تسري طاقاتها وتمتد عبر الوادي في القاهرة والإسكندرية وترتحل ليتردد صوت الفنان التشكيلي المصري في الجناح المصري ببينالي فينيسيا الدولي للفنون في دورته هذا العام.
إعادة تمثيل الطقوس وترانيم الحرية تتردد في سماء فينيسيا 2024
الفنان وائل شوقي وإعادة تقديم الثورة العرابية كفعل رمزي من أفعال المقاومة لقبح العالم بالجناح المصري في بينالي فينيسيا الدولي 2024:
ذلك العرض الذي قدمه وائل شوقي بالاستعانة بكاتب سيناريو متخصص وهو الكاتب إسلام سلامة كان بمثابة فعل رمزي ينطق بلغة تشكيلية مسرحية مصورة تستفيد بالوسائط التشكيلية المختلفة كفن الفيديو وفنون التجهيز في الفراغ والتصوير والنحت والعروض الأدائية التشكيلية، كما كانت بمثابة فعل من أفعال التناص التاريخي كما يقول التاريخانيون الجدد فالرمز إذن هو الفكرة في قالب محسوس ومجسد وكل عملية رمزية ترمي إلى تغيير أمر ما إلى شيء مختلف، فعلاً كان أو قولاً، ليصبح علامة حقيقية أكثر علواً وأكثر رحابة ومتعالية عن الإنسان أيضاً، ومن هنا تظهر أهمية الترميز في الطقس؛ لأن إحدى وظائف الطقوس المهمة هي التخزين المعرفي، ويقدم وائل شوقي الجناح المصري في بينالي فينيسيا عن طريق الإخراج المسرحي لعرض مكون من 400 مؤدٍ تم تصويرها في مسرح مكشوف بمدينة الإسكندرية.
إن عمل الفنان وائل شوقي المسمى دراما 1882 يبدو كنوع من تداول وإعادة إنتاج المعرفة الحافظة للهوية، إذ يوجد ترابط وثيق ومنظم بين "الاتصال الطقسي" من جانب وبين الهوية من جانب آخر، فالطقوس هي القنوات أو الشرايين التي يجري فيها المعنى الحافظ والمؤَمِّن للهوية. والرموز قد تتشابه في ثقافات مختلفة وقد فسرت تلك الظاهرة بأمرين: الأول هو وجود مصدر واحد انتشرت منه تلك الرموز كما هو الحال في مصر التي اعتبرت قلب ثقافة العالم القديم ومنها انتشرت الكثير من العناصر الثقافية خارج حدودها، أما الأمر الآخر فينبع من استعداد فطري في الإنسان؛ فالتشابه والتماثل للرموز عبر الزمان والمكان سواء في الأساطير كما شأن التجربة اليومية للحالمين، والمجهولة من جانبهم يبين وجود حالات مشتركة بين الناس، لا واعية وجماعية تعبر عن نوع من الاستعداد الدائم لإنتاج التصورات الأسطورية نفسها، وهي ليست تصورات متوارثة متنقلة عن طريق التقليد، ولكن حالات فطرية للإنسان منتجة لتصورات متشابهة. حيث استطاع الفنان وائل شوقي تشكيل روح المكان في المشهد الثقافي: cultural land escape في عمليات مركبة لتشكيل مشهد تاريخي قام بتكريسه كطقس خالد من طقوس الحرية. نحن حين نفكر في الكيفية التي يتمكن بها المشهد الثقافي من تسجيل التغيير على مر الزمن لأن الثقافات تتطور وتترك آثارها المميزة التي تتراكم في شكل (رق ممسوح) (البالمسيست) وقد اشتق هذا المصطلح من لوح الكتابة الذي كان يستعمل في القرون الوسطى وهو يحيل إلى حيث يمكن محو الكلام المنقوش الأصلي وكتابة فوقه مرة بعد مرة، فيما لم تمح الكتابات السابقة تماماً ومع مرور الزمن كانت النتيجة في شكل مركب -رق ممسوح يمثل مجموع كل الكتابات المتكررة وهكذا يمكننا رؤية وجه الشبه مع ثقافة تنقش نفسها على المنطقة لتوحي بالمشهد كمجموع من المحو والإضافة والشذوذ والإسهاب عبر الزمن وكما عبر عن ذلك ساور لا يمكننا تشكيل فكرة عن المشهد إلا بلغة علاقاته الزمانية، وكذا علاقاته الفضائية فهو عملية مستمرة من التطور أو من الانحلال والاستبدال. من هذا المنطلق تتجلى لنا تجربة وائل شوقي الناجحة في بينالي فينيسيا الدولي للفنون التشكيلية، والذي تتضح فيه ملامح التعبير الفني الصادق المرتبط بالهوية المصرية وتلك الملامح الصادقة في رأيي هي سبب نجاح وائل شوقي وكذلك كانت من أهم العوامل التي أدت للصدى الإعلامي الواسع الذي تلقاه. كما أن ذلك الارتباط بالهوية المصرية عن طريق إعادة إنتاج التاريخ تؤكد لنا مقولة أن الصور لا تموت بل تتجدد وتتحول من هيئة إلى أخرى عبر الزمن وتظل الصور حاملات للتعبير وحافظات للهوية المصرية. فتحية لقطاع الفنون التشكيلية لنجاح الاختيار والإعداد والدراسة الواعية والمحترمة لتمثيل مصر في محفل بهذه الأهمية كبينالي فينيسيا.
انطلاق فعاليات جائزة نوار لفن الرسم بالجامعة المصرية الروسية 2024
والتي جاءت تحت عنوان الإبداع والمقاومة قضية فلسطين وصحوة الوعي، إن جائزة نوار لفن الرسم تأتي في دورتها السادسة هذا العام والتي تقام بكلية الفنون الجميلة بالجامعة المصرية الروسية وهي تؤكد من جديد أهمية فن الرسم كأساس في تكوين الشخصية الإبداعية لأي فنان وكذلك كوسيط تعبيري مهم في كل تجليات الفنون التشكيلية كالتصوير والنحت والجرافيك بل وحتى فن التجهيز في الفراغ. إن الفن هو عملية مستمرة من الخلق المتجدد للحرية والمقاومة هو التعبير عن الحق والخير والجمال في مواجهة قبح العالم. ليس الفن سوى التواصل الصادق بين الفنان والمجتمع. وهو التعبير بجسارة في مواجهة الزيف والتواطؤ المخزي. وقد تجلى الهم الفلسطيني في المنتج الثقافي المصري وفي الفن التشكيلي في تجليات عديدة وعلى مدى زمني واسع يمتد مع امتداد الجرح ويبقى مع بقاء الألم وكلما ارتفع الهدير ودقت نواقيس الغضب كلما جاوب الفنان المصري ونكأ الجراح سعياً للمعرفة والمقاومة في سبيل الحرية.
فكانت الذاكرة العربية تحترق وتتألم مع كل طغيان شهدته الساحة الفلسطينية منذ عقود قهر طويلة من القرن الماضي منذ عام النكبة ثم مذبحة دير ياسين إلى مذبحة صابرا وشاتيلا 18/9/1982، والتي قتل فيها نحو 3500 مدنيا فلسطينيا ثم مذبحة عيون قارة 1990، ثم مذبحة المسجد الأقصى في أكتوبر 1990، ومذبحة الحرم الإبراهيمي في فبراير 1994، وفي أبريل عام 1996 وقعت مذبحة قانا في جنوب لبنان ثم مذبحة مخيم جنين في مارس وأبريل 2002، وحتى العدوان الغاشم على قطاع غزة، تلك المآسي الدامية التي أثرت على المجتمع العربي وعبر عنها الفنانون التشكيليون المصريون في إحدى صور التمسك بالهوية القومية العربية، عن طريق تنظيم معارض وفعاليات ثقافية تناهض العدوان الإسرائيلي، وتعرض لفكرة المقاومة وتشكل آلية للترابط والتكتل في (النحن) العربية في مواجهة الهيمنة والنظام العالمي الجديد، فنجد كثيراً من الفنانين المصريين والعرب يمثلون هذا الاتجاه: مثل الفنان أحمد نوار والفنان عبدالرحمن النشار وفاروق شحاتة وغيرهم من الأجيال المعاصرة للقضية.
النسخة الثانية من ملتقى التمكين بالفن
التي أقيمت هذا العام بالمتحف القومي للحضارة المصرية، في التاسع عشر من مايو 2024 وحتى الثاني والعشرين من مايو 2024، حيث تلتقي 144 فنانة من أربعين دولة حيث تمتد أنشطة الملتقى بين العروض التشكيلية لنماذج من الفنانات وأعمالهن التشكيلية الآسرة حيث الاحتفاء بتمكين المرأة في المجتمع عن طريق الفن وكانت ضيفة شرف الملتقى هي الفنانة المصرية الكبيرة رباب نمر كانت منهن الفنانة المصرية أسماء النواوي والتي كان استلهام موضوع الملتقى من خلال أعمالها الفنية التي تجسد معاني الحرية والقوة والتمكين للمرأة. والفنانة رندة فخري والفنانات الشابات فاطمة الزهراء وسمر بيومي ومريم حسن، وورشات العمل في التلوين والرسم وبين حلقات المناقشة الثقافية التي تدور محاورها عن موضوع مزج الفن التشكيلي بمفهوم تمكين المرأة، مثل ورشة عمل تحت عنوان لغة الفن الكونية مع الفنانة الرومانية أنكا بوديو كما استضافت الجامعة البريطانية في مصر ورشة عمل بعنوان "احتفاءً بحكمة النساء العربيات" مع الفنانة أميرة الأهل وكاترين فال من ألمانيا وكذلك ورشة عمل حول موضوع فن الأداء التشكيلي لروث فراياس من إسبانيا.
كما أقيمت حلقات للمناقشة مثل حلقة بعنوان "كسر الحواجز وحارسات البوابات في صناعة الفن التشكيلي" أدارتها سارة حماد وتحدثت فيها دينا فهمي من جاليري CLEG" وثريا بجات المدير التنفيذي لسند المرأة، سوسن مراد مدير التحرير بمجلتي البيت ونصف الدنيا، حيث كانت محاور النقاش حول بعض النماذج من حارسات عالم الفنون التشكيلية وتأثير قاعات عرض الفنون وقيمي العروض والنقاد والمؤسسات الفنية على مستقبل الفنانات وحياتهن العملية والتحديات والفرص التي تواجههن. وكان ختام الملتقى بحفل أقيم بالمتحف القومي للحضارة المصرية. حيث تم تقديم صورة ثرية لدور الفن المهم في مد الجسور وربط المعاني الإنسانية وتواصلها والمثل العليا ودعم القضايا المهمة كنوع من المقاومة لما يهدد الحرية والعدالة والإنسانية في عالمنا المعاصر. يقام المهرجان تحت رعاية وزارات الثقافة والهجرة والتضامن الاجتماعي والشباب والرياضة والسياحة والآثار ووزارة البيئة والمجلس القومي للمرأة وهيئة تنشيط السياحة تنطلق فعاليات ملتقي التمكين بالفن، وهو الحدث الفني الأضخم في مصر والمنطقة الذي يسلط الضوء على الأعمال الفنية للمرأة بمشاركة أكثر من 40 دولة يوم السبت الموافق 18 مايو بالمتحف القومي للحضارة المصرية. ويقام المهرجان تحت رعاية وزارات الثقافة والهجرة والتضامن الاجتماعي والشباب والرياضة والسياحة والآثار ووزارة البيئة والمجلس القومي للمرأة وهيئة تنشيط السياحة وعدد من الهيئات الدولية من بينها الاتحاد الأوروبي وهيئة الأمم المتحدة للمرأة ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمركز الثقافي الإيطالي بمصر وعدد من السفارات على رأسها سفارة إسبانيا وأيرلندا وتشيلي.
وصرحت شيرين بدر، المؤسس والرئيس التنفيذي للملتقي: ينظم الملتقي هذا العام العديد من الندوات والمحاضرات حول الفن الحديث وتطويره، إلى جانب ورش فنية تقام على هامش المنتدى يقوم بتقديمها عدد من الفنانات العالميات وتستهدف دمج الفنانين الناشئين من ذوي الهمم في صناعة وتذوق الفن. كما يتميز المنتدى بتمكين المكفوفين من الاطلاع على الأعمال الفنية المعروضة ومعايشتها من خلال نموذج مخصص لهم بجانب كل قطعة فنية معروضة بالمنتدى ليتمكنوا من ملامسة القطع الفنية ومشاركة الإحساس وتجربة العرض والاستمتاع بتفاصيلها الدقيقة والمختلفة. ويهدف الملتقى هذا العام إلى تمكين الفنانات من خلال تسويق أعمالهن وتقديم جوائز اقتناء يقدمها رعاة الحدث. وقد حقق ملتقى التمكين بالفن في دورته الأولى نجاحا باهرا على مستوى المنطقة ودول العالم المختلفة، حيث يعد ملتقى التمكين بالفن هو الأول من نوعه الذي يستهدف تمثيل المرأة من خلال أعمالها الفنية بالإضافة إلى دعم جهود الفنانين المصريين وإتاحة الفرصة للفنانين العالميين للتواصل مع المشهد الفني في مصر والاطلاع على معالم الحضارة المصرية خلال فترة تواجدهم ومشاركتهم في الملتقى.