الأربعاء 26 يونيو 2024

إبداعات الهلال| «كل طائر يعود إلى عشّه» .. قصة قصيرة لـ آلاء أحمد عبدالسلام

آلاء أحمد عبدالسلام

ثقافة17-6-2024 | 13:19

دار الهلال

تنشر بوابة دار الهلال، ضمن باب "إبداعات" قصة قصيرة للأطفال بعنوان "كل طائر يعود إلى عشّه"  للكاتبة آلاء أحمد عبدالسلام، وذلك إيمانا من مؤسسة الهلال العريقة بقيمة الأدب والثقافة ولدعم المواهب الأدبية الشابة وفتح نافذة حرة أمامهم لنشر إبداعاتهم.

قصة كل طائر يعود إلى عشّه

كلُ شيءٍ كان يتغير في روتيني إلا شيء واحد.

هو جلستي اليومية فوق السطح قبيل غروب الشمس بساعة أشاهد أسراب الحمام التي تنطلق معاً بتنظيمٍ غريب لتحوم حول الأبراج بتنسيقٍ أغرب.. تظلُ ساعةً كاملةً تدورُ وتسبح في السماء بحركاتٍ مدروسة متموجة جيئةً وذهاباً، وعيني لا تبرحُ أسرابَ الحمام إلا إلى السحاب.. كانت هذه الساعة الوحيدة التي يصفو فيها عقلي ويصبح كمرآةٍ مصقولة لا غبارَ عليها، لا أفكر في أي شيء ولا أفعل أي شيء سوى المشاهدة.. أحاولُ أن أعودَ إلى طفولتي التي انتزعت مني انتزاعاً فأعيش مفرغاً من كل شيء إلا المرح والحب اللامشروطين لنفسي وللآخرين.. طفولتي تلك ظلت معلقة داخلي فترة طويلة لا تذهب ولا تستقر.

فقط هي موجودة كأنها بذلة أو قميص نسيتُه معلقاً في الدولاب دون أن أستخدمه ودون أن أجرؤ على رميه.. وعجبتُ كيف لم أنتبه لها إلا الآن - تلك الطفولة المنسية - بعد أن أصبحت شيخاً في السبعين هجرته زوجته منذ ما يزيد عن ثلاثين عاماً.. وهجره أطفاله أيضاً الذين لم يعودوا أطفالاً بعد الآن ولم يسموا ما فعلوه هجراناً.. كانت الفرص التي حصلوا عليها بالسفر والعمل في بلاد الخليج أغلى مني في نظرهم ولم أستطع أنا أن أقول شيئاً.. لا فائدة تُرجى من أن تحاولَ إيقاظَ المحبة داخلَ قلوب البشر إن لم يروها هم بأنفسهم فلن يروها مطلقاً.. وعلى الرغم من الأمل الذي راودني حتى آخر لحظة في المطار عند توديع كل منهم سنة بعد أخرى، فلم يستدر أحد منهم ويقرر العودة .. ولم أسمع قراراً بذلك في المكالمات التي أتت غزيرة في البداية وأصبحت منعدمة أو تكاد في آخر الثلاث سنوات هي مدة بعدهم عني..  في النهاية وجدت نفسي وحيداً ولا أدري لماذا هذا هو النشاط الوحيد الذي أفعله.. فقط أن أجلس بسكون على حصيرةٍ فُرش عليها غطاء ووضعت سبرتاية عتيقة وفنجان قهوة انكسرت حافته، أتابع الحمام وهو يروح ويجيء و أستمع لصوتٍ بداخلي يُستدعي من مكانٍ سحيق أحببتُ أن أسميه بيني وبين نفسي "الحكمة الروحية التي تنطمسُ بفعل الزمن وننسى أن نعيد صقلها"

وقد كان هذا النشاط سبباً في تغييري .. إذ أني كففتُ عن البكاءِ ليلاً قبلَ أن أنام وبدلاً من ذلك أصبحتُ أشعر بسلامٍ عميق..  أليست تلك هي النهاية ؟! أو فلنقل تلك هي البداية.. هذا هو تأثير الزمن الذي نتحاشى الاعتراف به مع أنه يرسل لنا الإشارات كل حين.. كلُ شيءٍ زائل.

أتتني تلك الحقيقة حين هجرتني زوجتي متعللةً بأني (رجل ممل لا باشيل ولا باحط) على حد تعبيرها.. رضيتُ بأن أكون فقط موظفًا.

طلقتها ببساطة عندما طلبتْ.. وتركت لي الأطفال حينها وأنا كنت الغبي الوحيد في هذه القصة لاني لم أستقبل منها الرسالة التي حملتها لي ولم أفعل شيئاً.. استمررت في نفس الخطة اللعينة التي رسمتها لي كلماتها فاستحققتُ أيضا هذه النهاية اللعينة التي أنا بها، لم أهتم بأن أصنع لنفسي حياة بعيدة عن أولادي.. لم أتزوج لأني اقتنعت بكلماتها التي سجنتني  ولم أحاول تغيير أي شيء، ولكن لعل السبب أني حينها لم أنظر لسرب الحمام! لم أنتبه له لتأتيني تلك الأفكار العبقرية التي تأتيني الآن، لو كنتُ أستطيع العودة لكانت حياتي تغيرت بشكل كبير.. كنتُ سأحب نفسي بما فيه الكفاية لأحاول تغيير اللعنة التي سيطرت علي.

إن أصعب شيء يمكن أن يقاسيه الإنسان هو أن يعيش بلا معنى، دون الرغبة في معيشة يوم جديد، دون التطلع إلى سعادة حتى لو كانت وهمية.. الوهم الذي يمنحه لنا الأمل أحيانا يمكن أن يدفع فيه الإنسان عمره كاملاَ مقامرا على إمكانية حدوث ما يحلم به.. ولكني وصلت إلى نقطة لم أعد أرغب فيها شيئاً، حتى عودة الأولاد.. حتى عودة أيامي الخوالي..حتى الموت أن ترغب في الموت - صدق أو لا تصدق - خير لك من ألا ترغب في شيء على الإطلاق !ولكن التغيير يحدث شئنا أم أبينا وتلك الجلسة المستمرة التي اتخذتها سلوكاً مستمراً اكتشفت منها أن التغيير الحقيقي هو ما يحدث داخل نفسي..  والتغيير الذي حصل لي أنني لم أعد أنتظر..

شيءٌ في انطفأ.. ليس بمعنى سلبي ولكن بمعنى أني لم أعد أبالي.. تغير تعامل الناس معي كثيراً.. بعدما انقلب حالي من شخص كثير الشكوى الى شخص صامت.. أمر على البقال فآخذ منه طلباتي بهدوء ودون ثرثرة.. ينظر لي في ارتياب..

-أنت كويس يا عم حامد ؟!

أضع يدي على صدري في حركة معناها الشكر ولا أزيد..

انقطعت جلساتي مع رفاقي على القهوة من المسنين الذين يشاركونني نفس ظروفي لاني استبدلتها بجلسات تأملية إضافية.. أردت أن أستوعب المزيد من حكمة الكون التي تُهدى إلي في تلك اللحظات الثمينة.. حتى قال الناس في الحارة أني أخبئ سراً ما وألزموا بعضهم البعض بتتبع أحوالي ليعرفوا ما هو هذا السر..  كل هذا وأنا أراقبني معهم كأني شخص غريب عني.. قال شيخ الجامع أن هذا حال من اقترب مآله إلى الله ففهم الناس أن موتي قد اقترب وفهمت أنا أن عزلتي قد أصبحت واجباً مفروضاً علي.

بعد ذلك جاءتني المكالمة ابني الأكبر نقل الناس له أنباء عزلتي الغريبة فقرر أن يستفسر.. لم أقل له شيئاً.. لم أفسر له لأنه لن يفهم.. كل ما قلته أني رددت جملة شيخ الجامع  "لقد اقترب مآلي إلى الله" .

هنا قال متظاهراً بالضيق:

- بعد الشر عليك يا بابا

بعدها بأسبوع اتصل ابني الأوسط..

لم يقل لي ما قاله ابني الأكبر بل سألني عن قطعة الأرض التي أمتلكها في البلد.. والتي تشكل ثروة صغيرة..

-هل بعتها ؟

لم أرد على سؤاله وأقفلت الخط

بعد يومين اتصل ابني الأصغر:

-بابا أنا محتاج فلوس

هو آخر من سافر منهم ولم يتزوج ويبدو أنه ينفق كل ما يكسب..

-هل تبيع قطعة الأرض من أجلي ؟

لم أرد عليه وقد فهمت أنه يريد أن يستأثر بها دون أخويه.. بعد ذلك انقطعتُ عن الرد عن المكالمات.. وانقطعتُ عن كل شيء إلا نفسي..

والعجيب أني وجدت السعادة في هذا.. أصبحت الابتسامة لا تفارقن ، هدأ نبض قلبي حتى تعجب الطبيب وقرر أن يلغي نوعا أو نوعين من أدويتي..  وفي يوم ما بينما أنا في جلستي فوق السطح أراقب أسراب الحمام قبيل الغروب سمعت طرق الباب الذي أوصدته.. نزلت ففنحت فوجدت أبنائي الثلاثة معا.. لا أعرف كيف اجتمعوا ولا كيف جاؤوا ولا لماذا..

نظروا لي داهشين وقالوا في نفس واحد

-لماذا لا ترد علينا ؟!

نظرتُ لهم بنظرة لا تعني شيئاً ..

الآن عادوا بعدَ أن فقدت الرغبة في عودتهم.. تركتهم كما هم وصعدت مرة أخرى للسطح..  وضعتُ الكنكة على السبرتاية وجلست متربعاً أنظر إلى الحمام يعود أدراجه إلى البرج واحدة واحدة بتمهلٍ واستمتاع..

رشفتُ رشفة من فنجان القهوة باستمتاع وأنا أقول في نفسي:

-حقاً.. كلُ طائرٍ يعودُ إلى عشّه وأنا الآن عدت.

الاكثر قراءة