الجمعة 28 يونيو 2024

بين ثورات مصر المعاصرة

مقالات25-6-2024 | 12:58

أحد عشر عاماً على نجاح ثورة 30 يونيو، هل تكفى لكتابة تاريخها، واسترداد تفاصيل الملحمة المصرية الكبرى التى هزت البناء السياسى والاجتماعى، وعدلت بوصلة المسار الذى أوشكت أن تسلكه حركة التاريخ المصرى، بعد نتائج الانتفاضة الثورية الهائلة التى انفجرت يوم 25 يناير، وما تبعها من نتائج صادمة لكل من شارك فيها، والغالبية العظمى من فئاته وشرائح وطبقات الشعب المصرى ؟!

الإجابة حتما بالنفى، فلم تتوفر بعد محاضر جلسات المجلس العسكرى، ولا محاضر اجتماعات مجلس الوزراء، ولا تقارير الأمن العام ووثائق المخابرات العامة والحربية، وكذلك لم يفرج بعد عن وثائق الوزارات المصرية، خاصة وزارة الخارجية المصرية، وفى نفس الوقت لم تتوافر بعد وثائق مكتب الإرشاد وشهادات كوادر جماعة الإخوان التى عاشت منحة الصعود إلى مركز السلطة، ثم السقوط السريع من القمة إلى قاع السجون والمعتقلات.

ومع ذلك يمكن بالاعتماد على المادة العلمية التى بين أيدينا خاصة اليوميات التى سجلتها إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة، وكتب الذكريات التى نشرت لبعض رموز الثورة وشهود العيان، أن نرصد مقدمات الثورة، ونحدد طبيعتها وموقعها بين الثورات المصرية المعاصرة.

يحلو للبعض المقارنة بين ثورة الشعب المصرى ضد الوالى العثمانى "خورشيد باشا" فى مايو 1805 التى انتهت بطرده من مصر وتعيين الألبانى "محمد على" واليا مكانه، وبين ثورة 23 يوليو التى عزلت الملك فاروق وطردته من مصر يوم 26 يوليو 1952 من ناحية، وبين إكراه الرئيس "حسنى مبارك" على التخلى عن الحكم يوم 11 فبراير 2011 وعزل الرئيس الإخوانى "محمد مرسى" يوم 3 يوليو 2013.

عاشت مصر فى بداية القرن التاسع عشر على سطح صفيح ساخن، نتيجة لسياسات والى جشع، ودولة أطلقت على نفسها "دولة الخلافة"، كان كل همها استنزاف مصر ونهب خيراتها، ولم تفكر فى النهوض بالبلاد، ودفعها إلى عتبات التاريخ الحديث، وتركت الفجوة تتسع بينها وبين أوروبا التى انتقلت وقتئذ من العصور الوسطى المظلمة إلى عصر النهضة والحداثة وسرعان ما انتقلت من مرحلة الرأسمالية التجارية إلى مرحلة الرأسمالية والصناعية بعد الانقلاب الصناعى العظيم.

وفى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين كانت مصر تعانى من سلطة احتلال بدأ من عام 1882 ولم تنجح الحركة الوطنية فى تحقيق حلم الشعب المصرى فى الحرية والاستقلال، وكذلك فشلت ثورة 1919 فى طرده من مصر.

وعانت مصر بعد صعود الملك فاروق لعرشها عام 1936 من الفساد الإدارى والسياسى، حيث انتهك الدستور وعطل مبدأ تداول السلطة، وسيطر الثالوث الرهيب "الفقر والجهل والمرض" على الحياة الاجتماعية، وتباعدت الفوارق الطبقية حتى أصبح المجتمع يوسف بأنه مجتمع النصف فى المائة، هذا بالإضافة لتدخل السفير البريطانى فى إدارة شئون البلاد.

فى الحقيقة تجوز المقارنة، فالمقدمات واحدة، والفاعل الرئيسى فى الثورات الأربع هو الشعب المصرى مدعوما بالجيش، صحيح أن الجيش لم يكن موجوداً فى الثورة الأولى عام 1805، بل كان غيابه وسيطرة فرق المماليك المرتزقة سبباً فى عدم جرأة الزعامة الشعبية والمشايخ على تولى إدارة شئون مصر والصعود إلى كرسى الولاية، واختيارهم لمحمد على ليتولى المسئولية "لك الإمارة ولنا التجارة"، وبهدا الصعود يمكن ملاحظة أن الوالى الجديد أسرع ببناء جيش وأسطول حديث، واعتمد على أبناء الفلاحين.

كانت الثورة الثانية ثورة الضباط الوطنية، أيدها الشعب وشاركهم فرحة التخلص من الملك يوم 26 يوليو 1952، وتحقيق الاستقلال بعقد اتفاقية الجلاء، وإنحازت الثورة إلى الفقراء والمعدمين وسعت لتخفيف حدة الفوارق الطبقية، بعد إصدار قانون الإصلاح الزراعى، وإلغاء الرتب والألقاب والنياشين، وكان بناء الجيش الوطنى القوى أهم إنجازات الجمهورية الأولى.

لكن سرعان ما تبخرت معظم هذه الإنجازات بعد رحيل جمال عبدالناصر، وبعد انحراف أنور السادات وحسنى مبارك عن مبادىء الثورة التى استمدوا منها شرعيتهم، حيث عادت الفوارق الطبقية بعد تهميش الطبقة الوسطى، وتطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادى الذى وصفه الكاتب الكبير "أحمد بهاء الدين" بأنه "انفتاح سداح مداح" فضلا عن الخصخصة وبيع القطاع العام واحتكار الحزب الوطنى والطبقة الجديدة للثروة والسلطة، والاتجاه إلى توريث الحكم.

وبدأ الأمر وكأنه الجمهورية الثانية عادت بمصر إلى نقطة البداية، لذلك شهدت مصر يوم 25 يناير 2011 ثورة غير مكتملة، انتهت بسيطرة جماعة الإخوان ولولا تدخل الجيش وحكمة المجلس العسكرى لعاشت مصر فى فوضى عارمة، ولتمكن أعدائها من تحقيق بقية أهداف ما أطلقوا عليه "ثورات الربيع العربى".

ومن رحم دراما 25 يناير 2011 ولدت الثورة الرابعة ثورة الملايين، ثورة شعب حماها الجيش، شعب تعلم منذ ثورته الأولى ضد الحاكم "بيبى الثانى" من نحو أربعة آلاف وخمسمائة سنة، خطورة استمرار الفوضى وأهمية تدخل سلطة الدولة المركزية، فضلا عن أن ذكاءه وتدينه الفطرى ساعده على كشف حقيقة جماعة الإخوان، فرفض التعصب الدينى وطرد الجماعة من الحكم.

لذلك ستدخل ثورة 30 يوليو التاريخ من أوسع أبوابه حيث نجحت فى مواجهة جماعة إرهابية مسلحة، تمولها مخابرات عالمية، كانت تخطط لاستغلالها لتحقيق "سايكس بيكو الجديدة" وتقسيم المقسم بتنفيذ خريطة الشرق الأوسط الجديد، حتى تتيح للصهيونية العالمية الهيمنة على المنطقة وحماية المصالح الغربية.