الخميس 29 اغسطس 2024

لماذا يكره المتطرفون أدب نجيب محفوظ؟

مقالات29-8-2024 | 19:28

في مساء الجمعة 14 أكتوبر 1994 وبينما كان أديب نوبل نجيب محفوظ يهم بركوب سيارة صديقه من أمام منزله الكائن بحي العجوزة، لحضور ندوة أدبية أسبوعية، اقترب شاب ينتمي للجماعة الإسلامية، وسدد طعنة نافذة خاطفة في عنق محفوظ، ممتلئًا بشعور بطولي لأنه «ينفذ شرع الله» ويحقق فتوى الشيخ عمر عبدالرحمن بإباحة دم محفوظ، رغم أنه لم يقرأ له أيًا من رواياته، ولا تلك التي دار حولها جدل وفاز الأديب عنها بالجائزة العالمية، ونعني «أولاد حارتنا»!.

كانت واقعة اغتيال محفوظ، عملية مشتركة بين عدد من شباب الجماعة الإسلامية المتطرفة من منطقة عين شمس، واتهم فيها 16 من شباب الجماعة وبرأت المحكمة العسكرية ساحة ثلاثة منهم، واعترف المتهم الأول "محمد ناجى " فني كهربائى وأحد منفذي محاولة الاغتيال، بأنه قد تلقى تكليفًا من أحد قيادات الجماعة بقتل محفوظ لأنه "مرتد" بحسب فتوى الشيخ عمر عبدالرحمن، وبالفعل خرج المنفذ مع صديقه ورصدوا الرجل المسن محفوظ لـ"ينالوا شرف تنفيذ شرع الله فيه"، وتقدّم نحوه وأخرج مطواة قرن الغزال من تحت ملابسه وطعنه فى رقبته طعنة قاتلة".

ولما اطلعت على ملف القضية راودني سؤال: هل الجاني الحقيقي هو المحرض صاحب الفتوى، أم المنفذ مغيّب العقل؟ وصدقا قالها محفوظ حين اعتذر بسماحة نفسه المعروفة للجناة، لأنه لم يستطع أن يصل إليهم في مستنقعهم بأدبه وأفكاره، وتركهم ومن على شاكلتهم في هذا البئر المظلم.

رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ تعد واحدة من أكثر الأعمال الأدبية إثارة للجدل في العالم العربي منذ نشرها، الرواية تُعتبر تجسيدًا للعديد من مواضيع القضايا الفلسفية والاجتماعية والدينية، وبها إسقاط سياسي بعيد المدى، وقد أثارت ردود فعل متباينة تتراوح بين الثناء والنقد الحاد، خاصة من قبل الجماعات الدينية المتطرفة، وبعض رجال الدين المرموقين آنذاك، وسنحاول هنا تحليل الخطاب الأيديولوجي المتعلق بموقف المتطرفين من هذه الرواية.

الرموز الدينية والتأويلات الفاسدة

لم يقرأ معظم قواعد الجماعة الإسلامية وقياداتهم دلالات النص الروائي الذي كتبه محفوظ متأثرا بواقع اجتماعي معين ساد في ستينيات القرن الماضي، ومن ثم حاكموا محفوظ بالمتن الظاهر وليس بما يكمن خلفه من معانٍ، فلم يشغل رأس أحدهم التقاط الرموز الدينية وركزوا في كونها تسيء للأنبياء والذات الإلهية.

بدأ محفوظ في نشر "أولاد حارتنا" مسلسلة في جريدة الأهرام في 21 سبتمبر 1955 وتوقفت في ذات العام لاعتراضات هيئات دينية بدعوى "التطاول على الذات الإلهية"، ومع طبيعة محفوظ المسالمة رفض نشر الرواية في بيروت ثمان سنوات، ورغم ذلك انطلقت حملة شرسة تتهم محفوظ بالكفر والإلحاد عبر كل السنوات حتى تعرَّض على إِثْرهَا لمُحاوَلةِ اغتيال بعد ما يقرب من نصف قرن تقريبًا في نهاية عام 1994م، أثَّرت على أعصابِ الرقبة، مما حدّ من قدرته على الكتابة.

 الرواية تكتنز فكرة صراع التراث والحاضر، الدين والحياة، صراع العلم والجهل، ولما قتل محفوظ "الجبلاوي" بطل الرواية ظن من قرأوه بأنه ينكر وجود الله، وهنا وقعت الطامة.

ويبدو أن محمد حسنين هيكل استشعر خطر الرواية منذ بداية الاطلاع عليها ونشرها علي حلقات وهنا بدأت أجهزة الرقيب تعترض،  لكن هيكل أنهى نشر الرواية ومن هنا كانت المعركة، لقد كان أحد الدوافع التي حدت به إلى أن يكتب، بعد أسبوع واحد من بدء نشر "أولاد حارتنا"، مقالًا قصيرًا فى الصفحة السادسة بالأهرام بعنوان "حرية التعبير"، أظهر من خلالها دفاعه الحار عن حرية الأدباء والكُتّاب، وزاد هيكل جهده في "المعركة" الناشبة بإتاحة مساحات داخل صفحات "الأهرام" لمقالات ورسائل القراء تتحدث عن مشكلات المجتمع وتنتقد النظام، بلطف.

تهمة الإلحاد والزندقة

صاحبت رواية أولاد حارتنا حملة تتهم محفوظ بالزندقة والإلحاد وتناقض أفكار صاحبها مع العقيدة الإسلامية، وربما كان مبعث هذه الحملة مشاعر أصحابها التي تخشى من تأثير الرواية على الجيل الصاعد وتشجيعهم على التمرد على السلطات الدينية والتقاليد الاجتماعية.

كما انعكست ثقافة التطرف من رفض أصحابها لفكرة حرية التعبير الأدبي، ولو لاحظنا سنجد أن دوافع المتطرفين ظلت كما هي

الحفاظ على السلطة الدينية: تعتبر مواقف المتطرفين جزءًا من محاولاتهم للحفاظ على هيمنتهم وسلطتهم في المجتمع من خلال السيطرة على الخطاب الديني ومنع أي تحدٍ لهذه السلطة.

الترهيب والتخويف: تستخدم الجماعات المتطرفة الترهيب والتخويف كوسيلة لإسكات الأصوات التي تختلف مع رؤيتهم، وهو ما يتجلى بوضوح في تعاملهم مع "أولاد حارتنا".

تلقي الفتاوى الشاذة

خطورة ما قدمته تجربة الهجوم على نجيب محفوظ كانت في تلقي الفتاوى الدينية باعتبارها أحكامًا شرعية ملزمة لا تخضع لأهواء ولا رغبات الشيوخ والعلماء.

جانب آخر من الحكاية يرويه الروائي سليمان فياض، الذي كان واحدًا من أوائل من كتبوا عن "أولاد حارتنا". كتب فى مجلة الشهر (فبراير 1960) معتبرًا أن الضجة حول الرواية: "لم تكن نقدية، وإنما كانت في البيوت والشوارع والأقاليم، ومنتديات النقاد والأدباء، لكنها لم تخرج من نطاق الكلمة الشفوية إلى نطاق الكلمة المكتوبة بين الأدباء والنقاد في الصحف والمجلات"، وهو ما يرجعه فياض إلى سببين: أن الرواية لم تصدر في كتاب بعد، فضلًا عن انعدام الثقة في أن تكون قد نشرت بنصها الكامل في "الأهرام" كما كتبها نجيب محفوظ.

 استشعار خطر الرواية كان من محفوظ نفسه فلم يسع الرجل لنشرها في القاهرة وعندما ألح عليه البعض بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988م قال بأنه يريد أن تنشر بمقدمة أزهرية حتى يفهم المقصود من الرواية ووضع اسمين: الشيخ محمد الغزالي والدكتور أحمد كمال أبوالمجد وحال الموت بين الشيخ محمد الغزالي فكانت المقدمة بقلم أبوالمجد.

الاغتيال بسبب الفتوى

فشلت عملية اغتيال نجيب محفوظ، والتي قادها شاب سطحي الفهم ضحل الثقافة والوعي ولم يعرف حتى اقتيد إلى حبل المشنقة أن الغرض من التحريض كان هدفه سياسي وليس دينيا، كان مقبل اغتياله الإفراج عن قيادات الجماعة والسماح لهم بنشاطهم القديم، حجة معظم مدبري العمليات الإرهابية، ونجا محفوظ من الموت بأعجوبة، لكن الحملة استمرت على محفوظ بعد أسابيع من خروجه من المستشفى، وقبل أن يتعافى تمامًا، وجد نفسه متهمًا ومطلوبًا في القضية (رقم 1787 لعام 1995 جنايات المنصورة)، وكان أحد المحامين قد أقام دعوى ضد محفوظ يتهمه فيها بازدراء الأديان، وإضافة اسم جديد إلى أسماء الله الحسنى وهو "الجبلاوي"،  نفس المضمون والمعنى القديم في فهم النص الأدبي وهي تهم تستوجب الحبس والغرامة، بل والتفريق بينه وبين زوجته قياسًا على ما حدث لنصر أبوزيد.

كانت هذه هي المرة الأولى التي تذهب فيها "أولاد حارتنا" إلى المحكمة، رغم كل الجدل الذي أحدثته فقد ظل جدلًا مكتوبًا في مقالات أو بيانات، أو اتفاقات بعدم النشر داخل مصر.

ترافع عن محفوظ طوال الجلسات محاميه الشخصى أحمد السيد عوضين، الذي نشر تفاصيل المحاكمة والمرافعة في كتابه "محاكمة أولاد حارتنا". الغريب أن المحكمة لم تبرِئ نجيب محفوظ، لكنها قضت، بعد خمس جلسات على امتداد الفترة من 23 مايو وحتى 30 نوفمبر 1995، بعدم قبول الدعوى لانتفاء شرطى المصلحة والصفة وألزمت المُدعي بالمصروفات. عدم براءة محفوظ يفسره محاميه بأن "القانون يوجب على المحكمة ألا تتصدى للحكم في موضوع أية دعوى إلا بعد أن يقضي في الدفوع الشكلية، أو بعبارة أخرى أن الحكم لا يعرض للموضوع إلا بالنسبة لدعوى مقبولة شكلًا، فإذا شاب الشكل عيبًا يجعل الدعوى غير مقبولة. توقف القضاء عند ذلك وحكم بعدم قبول الدعوى لثبوت ذلك النقص الشكلي في شروط قبولها، وعلى رأسها انتفاء شرط المصلحة بالنسبة للمُدعي!”.

المعنى والدلالة والنص

أخطر ما في نظرة المتطرفين ودعاة ما يسمى "الإسلام السياسي" في عصرنا أنهم يفهمون النصوص الشرعية وفق هواهم، وما يعتقدون أنه الحق، وقد كان همّ محفوظ في "أولاد حارتنا" الوصول إلى "مصرع الطغيان، ومشرق النور والعجائب" مع إحالة لقصة الخلق الأول للإنسان. وقد حاول أن يختبر ذلك في "اللص والكلاب" التي كانت إعادة كتابة لـ "أولاد حارتنا". هي قصة واحد من أبناء الحارة، باحث عن العدالة، مستخدمًا نبوته الخاص منفردًا للوصول إلى العدالة. ولكن دون أن يقدم بديلًا فيكون مصيره الفشل.

أعمال محفوظ التي تلت "أولاد حارتنا" لم تكن سوى حكايات أخرى عن الحارة. أو حكايات عن أبنائها، لكن في رحلة بحثهم عن "النور". متأخرًا اعترف محفوظ بذلك، قبل أيام من افتتاح مكتبة الإسكندرية سُئل: هل تتوقع أن تضم المكتبة الكتب الممنوعة؟ ضحك وأجاب: "على أيامنا كان فيه كتب ممنوعة، يعنى أنا مكنتش عارف أقرأ كتاب "الاشتراكية" لسلامة موسى، وكان موجود فى دار الكتب، ولكن استعارته ممنوعة حتى داخل المكتبة نفسها". فسأله صحفي: ألم تفكر أن تحصل على الكتاب من سلامة موسي نفسه وقد ربطتك به علاقة صداقة؟ أجاب: “لا، لأن سلامة موسى عبر فى مجلة "المجلة الجديدة" عن الأفكار الموجودة فى الكتاب، لكن بأسلوب آخر"، ربما تعلم محفوظ أن يعبّر عما أراد بشكل لا يثير هذا الجدل الرهيب، فكانت "اللص والكلاب" صفعته لمن تآمروا على "أولاد حارتنا"، وهو ما أدركته الرقابة وكادت أن تمنعها، كما سبق لمحفوظ استخدام الرمز باقتدار في رواياته من عينة "ميرامار" و"بداية ونهاية" للإشارة لحكم عبدالناصر.

تحليل خطاب المتطرفين تجاه "أولاد حارتنا" يكشف عن مدى تعقيد العلاقة بين المعنى والدلالة والنص، علاقة الاشتباك بين الدين والسياسة في المجتمعات العربية، وهنا يُظهر هذا الخطاب محاولات السيطرة على الفكر والثقافة من خلال استخدام الدين كأداة للترهيب والإقصاء. من المهم هنا تشجيع التفكير النقدي واحترام حرية التعبير مع الحفاظ على الحوار البناء لتجنب التحريض والعنف.