هكذا اسمه قبل إضافة الواو المحببة إليه، لاحقا، وهكذا دونه صاحب العبقريات طيب الذكر «عباس محمود العقاد»، فى نص بديع كتبه ضمن موسوعته العبقرية (رجال عرفتهم) صدر عام 1963 قبل رحيله بعامين (رحل 14 مارس 1964) وكأنه يسدد ديونه الأدبية تجاه أعلام مصر ونجبائها بتخليدهم.. من يكتب عنه العقاد نال حظوة العبقرية..
المساحة لا تسع كامل النص، تكفي إشارات ملهمات..
"ولا أزال أذكر صورة جرجي زيدان رجل بسيط المظهر بعيدا من كل تكلف في زيه وجلسته وحديثه: يتكلم في الأدب والبلاغة والأحاديث العامة بأناة العالم المحقق، ولكن بسهولة المتحدث المفيد.. كأنه يقول ما يقوله للتعليم دون أن يبدو عليه مظهر المدرس في حصة التدريس، ولا أذكر أنني رأيت من أبناء عصره كاتبا بمثل شهرته ومكانته وبمثل هذه البساطة في المظهر والحركة والحديث.
وأحسن ما حسن عندي من سمت الرجل، ومن بساطته في حديثه، وبساطته في كتابته– أنه لم يتخذ من قواعد العلم كتافا لعقله يحجز عليه ويحرجه إحراج الموسوس الذي يكرر الواقعة مرة بعد مرة ليستوثق من صحتها وضبطها من جميع نواحيها وأطرافها، ثم يرى أنها عن العلم وكل ما عداها فليس من العلم في شيء.
وكذلك لم يتخذ من قواعد العلم كساء مزركشا يخشى عليه بالملابس إن تنكسر قصة فيه إذا طاوع عقله في الحركة بعض المطاوعة، ولم يتخشب مع الكساء المزركش، على سنة الوقار أو على سنة الجمود..
فقد كان على اطلاع واسع في العلوم التجريبية كاطلاعه على بحوث التاريخ والاجتماع، ولكنه كان في سماحة الفكر وسهولة النظر بحيث يحس كما يفهم أن العقل قد يكون "علميا" وهو يخوض في كلام لم يقره العلم ولم يقرر نقيضه كذلك.
ولهذا كان جرجي زيدان يبيح لفكره أن ينظر في "علم الفراسة الحديث" وليس هو من العلوم التي فرغت التجربة من قوانينها كما فرغت –مثلا– من قوانين الحركة.
وكان يبيح لفكره أن ينظر في أصول اللغات وأصول الكلمات وأصول القواعد اللغوية دون أن يكون للعلم حكم قاطع في كل أصل من تلك الأصول.
فإن لم يكن ما يقوله علما مصبوبا في قالبه الأخير، فهو –بلا شك– مادة علمية يجب أن تتهيأ لقالبها على شكل من الأشكال، ويمتنع علما أن تدرك بغير التفات إليها. فإن عمل العلم في تشكيل المادة قبل ثباتها على شكل من الأشكال أوجب من صب القوالب على الشكل الأخير.. وأوجب من ذلك ألا يكون "الشكل الأخير" هذا هو كلمة الختام، وهو الحكم الذي لا يقبل النقض والتنقيح.
وقد كتب جرجي زيدان في كل مسألة من مسائل عصره الاجتماعية والفلسفية والأدبية، فكان في كل منها بسيطا تلك البساطة التي عهدناها منه وهو يتكلم عن أسلوب البكري أو عن كتاب فلسفة الجمال، أو عن فلسفة التفاؤل والتشاؤم، ولكنه قال فيها جميعا رأيه الذي لم يناقضه العلم ولم يأت بما هو أثبت منه على اختلاف النظر في الأمور.
ولسنا نحسب أن تناول الدراسات المختلفة بمثل هذه البساطة مسموح به لكل صاحب قلم مشتغل بالبحث والتفكير.
إنما يسمح به –في غير حاجة إلى الرخصة من أحد– للعقل الذي يستبد بساطته من مصدر واحد: وهو مصدر القوة التي هي أكبر من قيود البحث ومراسم الدراسة، وهي في طمأنينتها إلى قدرتها على سبك القوالب وصهر ألماظة التي تملأها، تعالج المادة في دور التشكيل كما تعالجها في قالبها الأخير.