السبت 7 سبتمبر 2024

الهلال والأعداد الخمسة الذهبية


شوقى بدر يوسف كاتب مصري

مقالات7-9-2024 | 00:47

شوقى بدر يوسف


 فى الأول من سبتمبر عام 1892 وفى مطبعة متواضعة فى دكان صغير بشارع الفجالة  بقلب القاهرة صدر العدد الأول من مجلة الهلال العريقة كمجلة علمية تاريخية صحية أدبية بحسب ما هو مدوّن على غلافها الخارجى كما وضعه مؤسسها ورئيس تحريرها جرجى زيدان، الذى منحها هذا الاسم (الهلال) تيمنا بطالعه الميمون فى أول كل شهر، كانت قيمة الاشتراك السنوى للمجلة فى ذلك الوقت خمسين قرشا مصريا، وكانت أبواب أعدادها الأولى تنحصر فى هذه العناوين المحددة «أشهر الحوادث وأعظم الرجال», «الروايات»، «تاريخ الشهر»، «المنتخبات من الأخبار»، «التقريظ والانتقاد»، وتعتبر هذه الأبواب هى أشهر الموضوعات التى كان يهتم بها قراء هذه المرحلة.

حمل هذا العدد فى افتتاحيته الأولى ما حدده مؤسس المجلة كنسق ودستور يجب أن تسير عليه، ومنذ هذا التاريخ والمجلة تسير فى طريقها المرسوم لها تتدرج فى مدارج الكمال والتطور والحضور، حتى أصبحت بمرور الزمن هى عمدة المجلات الأدبية والثقافية الصادرة فى العالم العربى وأبرزها، راكمت فى أعدادها المتواترة الصدور الكثير والكثير من القضايا الثقافية والأدبية والتاريخية، واستكتبت الأعلام من صانعى الثقافة العربية من كل مكان حتى اصبحت كعبة الأدب والثقافة فى العالم العربى بجانب العديد من الدوريات التى استمرت معها فى هذا المجال فترات طويلة من الزمن.

وقد أصدرت المجلة فى مسيرتها الطويلة خمسة أعداد لها نسق خاص فى الإصدار أطلق عليها الأعداد الذهبية بحسب لون أغلفتها التى حملت اللون الذهبى، وبحسب ما يحمله أصحاب هذه الأعداد الصادرة عنهم من قيمة أدبية وثقافية كبيرة. صدرت هذه الأعداد لخمسة من أبرز أعلام الأدب والفكر والثقافة فى مصر والعالم العربى، فى مرحلة الستينيات من القرن الماضى أى بعد مرور حوالى سبعين عاما على صدور الهلال، وهم بحسب تواريخ الإصدار، العدد الأول كان لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين وصدر فى فبراير 1966، الثانى كان للمفكر الكبير عباس محمود العقاد، صدر فى أبريل 1967، الثالث كان لرائد المسرح العربى توفيق الحكيم، صدر فى فبراير 1968، الرابع كان لأمير الشعراء أحمد شوقى، صدر فى نوفمبر 1968، الخامس كان لأديب نوبل نجيب محفوظ وصدر فى فبراير 1970. وتمثل هذه الأعداد الخمسة لأصحابها الميدالية الذهبية الخالصة لمفكرى وأدباء هذا الزمن الذى ظهروا فيه، والذى يطلق عليه الآن (الزمن الجميل) وكان هؤلاء الأعلام الأفذاذ هم حملة المشاعل الثقافية والأدبية الذين أضاءوا الوجه المشرق للمشهد الثقافى والأدبى آنذاك بجانب العديد من الرموز الأخرى الذى حملت معهم مشاعل الفكر والأدب وجملت باقى مظاهر الحياة الثقافية والأدبية السائدة فى ذلك الوقت، وقد رأس تحرير المجلة فى الأعداد الأربعة الأولى الأستاذ كامل زهيرى أما العدد الخاص بنجيب محفوظ فقد رأس تحريره الأستاذ رجاء النقاش، وكان رئيس مجلس إدارة الهلال خلال تلك الفترة هو الأستاذ أحمد بهاء الدين. وقد تضمنت الأعداد الذهبية الخمسة عددا كبيرا من الصور التذكارية أرخت لمراحل التطور الزمنية فى حياة هؤلاء الأدباء منذ يفاعتهم وحتى وصولهم إلى أرقى مراتب الحضور الثقافى والأدبى فى المشهد الثقافى العربى المعاصر.

 العدد الذهبى للدكتور طه حسين: صدر هذا العدد فى شهر فبراير 1966، وفى باب "كلمات عاشت" وهو باب استهلالى كان يزين أعداد المجلة فى تلك المرحلة قال فيه طه حسين "أنا قلق دائما، مقلق دائما، ساخط دائما، مثير للسخط من حولى"، "لا أدب إلا أدب اللغة الفصحى، والذين يستخدمون العامية والتعابير العامية ليسوا واقعيين، وإنما هم عاجزون"، "ليس من الضرورى أن ينحط الأدب ليصبح شعبيا، وليس من الضرورى أن يبقى الشعب حيث هو حاملا، غافلا، يشقى بالخمول والجمود"، "إنى لا أحب الديمقراطية المحافظة ولا المعتدلة، ولا أقنع بالاشتراكية الفاترة"، "الصحافة الآن لا تقود الشعب، وإنما تجرى وراءه". طه حسين

يبدأ هذا العدد الذهبى بمقالة الدكتورة سهير القلماوى بعنوان "أستاذى طه حسين" استعادت فيه ذكرياتها حول ظروف التحاقها بكلية الآداب جامعة القاهرة بعد أن رفض طلبها للالتحاق بكلية العلوم أو الطب، وبعد زيارة قصيرة برفقة خالها لمنزل الدكتور طه الذى قال لها أنذاك أنا أقبلك فى كلية الآداب وفى قسم اللغة العربيةـ ستجدين بغيتك فى التشريح فى شعر جرير والفرزدق، وقد كان. 

وكتب عبدالرحمن صدقى عن معجزة "الأيام" بدءا من زمن الدراسة بالخارج مرورا بأزمة الشعر الجاهلى ومعركة عمادة الآداب والقيادة الأدبية، وغيرها مما يرتبط بأيام طه حسين، ثم يكتب محمود تيمور إلى طه حسين، وتكتب صوفى عبد الله عن المرأة فى أدبه، وكيف كانت صورة المرأة من نتاج وجدان هذا الأديب ثمرة طبيعية فيها كل خصائص حياته الخصبة متنوعة الآفاق فكريا واجتماعيا أشد ما يكون التنوع. ثم يكتب الدكتور شوقى ضيف عن "طه حسين والدراسات الأدبية"، وما كان من ظهور طه حسين كحدث مهم فى مجال الدراسات الأدبية، حين أخرجها من طور قديم إلى طور حديث تغيرت فيه هذه الدراسات فى الشكل والمضمون تغيرا تاما، بحيث أصبحت لا تقل خصوبة ولا إمتاعا عن مثيلاتها فى الآداب الأخرى، وكانت رؤيته الذاتية مما كان يسمعه فى المساء من المستشرقين وعلى رأسهم كارلو نللينو، وما يسمعه فى الصباح من الشيخ سيد المرصفى مما جعله يختار لنفسه طريقة جديدة فى فهم الآداب العريية ونقلها إلى تلاميذه بطريقته الخاصة مما أكسبه نشاطا وتميزا كان له صدى عميق فى آفاق الحركة الأدبية والجامعة على السواء. وتحت عنوان "إلى صفحات مجهولة من حياة العميد" قال فيها أنور الجندى ": لا ريب أن أعظم حدث فى تاريخ حياة "طه حسين" هو سفره إلى أوربا، غير أن هناك حدثين هامين فى حياته قبل ذلك، هما دخوله الأزهر عام 1902، وانتسابه إلى الجامعة المصرية القديمة عام 1908، وقد ذكر لى أن اتصاله بالجامعة كان مقدمة لسفره إلى أوربا عام 1914، غير أنه أعيد فى العام التالى لاضطراب فى ميزانية الجامعة، وكانت تلك أزمته الكبرى حتى سافر مرة أخرى فى شتاء عام 1915، وظل فى أوربا حتى عاد بعد أن أتم دراسته فى خريف 1919. ثم تناول ريمون فرنسيس طه حسين والأدب الفرنسى، وكتب شكرى عياد عن طه حسين والثقافة اليونانية، وكتب محمود أمين العالم عن طه حسين مفكرا، وإبراهيم الإبيارى طه حسين المؤرخ الإسلامى، ورجاء النقاش عن طه حسين والأحزاب السياسية، وكتب أحمد كمال زكى مقالة بعنوان "الشعر الجاهلى.. نظرة أم نظرية؟" قال فيها ":أصالة وذكاء وارتباط بالعلم على قاعدة ديكارتية"، هذا هو الدكتور طه حسين الباحث والرائد الإنسانى فى أدبنا وفكرنا المعاصرين.. غزا ميادين العلم والفن، ليرسى دعائم نهضة قوامها التحرر والتقدم. 

العقاد

العدد الذهبى لـلكاتب الكبير عباس محمود العقاد صدر هذا العدد فى شهر أبريل 1967، وفى باب "كلمات عاشت" قال العقاد:  "لا يكفى أن تكون فى النور لترى، بل ينبغى أن يكون فى النور ما تراه"، "ما الحب؟ ما الحب؟: إلا إنه بدل من الخلود، فما أغلاه من بدل"، "لا توجد نسخة مكررة من أديب يستحق أن يقرأ، لأن الأديب المكرر يستغنى عنه بالنسخة الأصلية"، "الهمس فى الشعر آخر أساليب التعبير عن ضوضاء الصناعة، وثورات الاجتماع". عباس محمود العقاد

بدأ العدد بمقال الشاعر عبد الرحمن صدقى بعنوان "ذكريات فى ذكرى العقاد" تحدث فيها عن العقاد المناضل أو الفارس القديم فى معاركه النقدية التى كان فيها الفارس المثالى القارع للحجة بالحجة، كان دون كيشوت النزال فى الفن والسياسة والأدب، حتى إنه تحدى الملك فؤاد فى حلبة البرلمان بقولته المشهورة ": إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس فى البلاد يخون الدستور ولا يصونه". وبجانب المجال الأدبى فقد جرفه العمل السياسى، وكان مؤيدا لزعيم ثورة 1919 سعد زغلول، غير أنه لم ينضم إلى الوفد ولا إلى أى من الأحزاب القائمة فى ذلك الوقت.

وكتب محمود تيمور "العقاد كما أراه" يقول ": لم يكن عجبى شديدا حينما قرأت ما رواه بعض كتاب الصحافة عن أسرة "العقاد"، من أنهم لما فزعوا إليه، فى ليلته الأخيرة، وقد اشتدت به العلة، ألفوا على وسادته كتابا كان يقرأ فيه، موضوعه: "جيولوجية أفريقيا"، فإن كثيرا ما صادفت (العقاد) فى الصحوات جالسا على مقعده فى هذه المكتبة أو تلك، وبجواره ركام من أحدث ما ورد من الكتب، فيطيب لى أن أقتحم خلوته به، وتصفحه لها، وألقى نظرة عليها. فإذا هى خليط من أمهات المؤلفات فى الأدب أو الفلسفة أو التاريخ، وفى فروع دقيقة من العلوم الاجتماعية أو الإنسانية، وإذا هو يصطفى منها، لا ما يتصل باختصاصه الأدبي والفكرى وحده، بل كل ما هو عميق دقيق فى بحثه، وما هو جديد موثوق به فى موضوعه، على تباين ضروب المعرفة وفنونها جميعا، وما أن يظفر بطلبته منها، حتى يمضى على الطريق بها، متأبطا أياها، سامق الهمة، باسق القامة، عريض المنكبين، مندفع اليدين، تلتمع عيناه حزما واعتزاما، ويقتلع خطاه فى سيره اقتلاعا".

(ص26)  ويتحدث أنور الجندى عن "معارك العقاد الصحفية" فيقول ": كانت الصحافة (يومية وأسبوعية) هى منطق معارك العقاد السياسية والأدبية جميعا، ولا نعرف للعقاد معارك أو مساجلات فى فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى حيث عمل فى الصحافة منذ عام 1907 بالتحرير فى جريدة الدستور (فريد وجدى) ثم فى جريدة المؤيد (على يوسف)  أما عمله الصحفى الذى كان مجال معاركه ومساجلاته فقد بدأ بعد ثورة 1919، إبان النهضة الوطنية والسياسية فى صحيفة البلاغ (عبد القادر حمزة) عام 1923 ثم انتقل إلى صحف كوكب الشرق، المؤيد الجديد، الضياء، مصر، الجهاد، روز اليوسف سنة 1935 وهى آخر الصحف التى حررها مواليا للوفد.

ومن أكبر خصوم العقاد فى معاركه وأشدهم عنفا وصلابة كان مصطفى صادق الرافعى، وكانت معاركهم الأدبية سجالا، كما كانت معاركه الأخرى مع أمين الرافعى، من أقسى المعارك الصحفية وأشدها عنفا، وكانت معركته الشهيرة مع شوقى من جانب واحد بدأها العقاد بمقالاته فى الديوان. وكانت مدرسة الديوان الحديثة المكونة من العقاد وعبد الرحمن شكرى والمازنى قد حاولت أن تحدد موقفها فى الأدب العربى المعاصر بالحملة على المدرسة القديمة فاختص المازنى بنقد حافظ والعقاد بنقد شوقى والرافعى. ثم ما لبثت المعركة أن انتقلت أيضا مع طه حسين ولكنها كانت المساجلة بينهما لينة بعض الشئ، ولم تحتدم بينهما إلا مرة واحدة حول النقد اللاتينى والسكسونى، ومما ذكره طه حسين فى خصومته مع العقاد قوله ": لقد هاجمت العقاد فى غير موطن من مواطن الخصومة، خاصمته فى السياسة وهاجمته فى الأدب ولكن هذه الخصومة لم تغض من مقدار العقاد فى نفسى".

ويكتب د. عبد الحميد يونس عن العقاد شاعرا، ويكتب صلاح عبد الصبور عن شاعرية العقاد، وعن دوواينه العشرة، ثمرة ما يزيد على خمسين عاما من التجربة الشعرية، من أشعارها الرفيع والدانى، والعميق والساذج، والحافل بالموسيقى والخالى منها، اللهم إلا العروض والقافية، وما يحسن أن تعيه الأجيال". (ص72)، ويكتب على أدهم عن مشكلة الشر والألم عند العقاد، ثم يكتب عثمان أمين عن الجانب الفلسفى عند العقاد، ويكتب محمد عبد الغنى حسن عن العقاد مؤرخ الإسلام، ويتناول كامل زهيرى العقاد سياسيا، وتكتب الدكتورة سهير القلماوى عن "سارة أو عبقرية الشك"، وتكتب صوفى عبد الله عن "المرأة عند العقاد". لا شك أن هذا العدد عن العقاد قد شمل كل الأطراف التى من الممكن التجاذب نحوها حول واحد من عمالقة الأدب والفكر فى عالمنا العربى المعاصر.

الحكيم

العدد الذهبى لرائد المسرح العربى توفيق الحكيم صدر هذا العدد فى شهر فبراير 1968، وفى باب "كلمات عاشت" قال الحكيم: "إن أية حياة منحة، وأثمن منحة تعطى مخلوقا هى الحياة"، "إن صاحب الحياة الهنيئة لا يدونّها، وإنما يحياها"، "ما الغرور إلا وجه من وجوه الجهل.. وما أرى الحياة قاسية مغلظة فى قسوتها إلا على الشباب لا لشئ إلا لأنه يجهلها.. وهو فى جهله لا يثق بها.. ويعتقد أنه يعرفها، وإنها فى متناول يده"، "إن عقل المرأة إذا ذبل مات، فقد ذبل عقل الأمة كلها وما!"، "القوة الحقيقية للقلم هى أن يستطيع أن: يقول ما يريد وقتما يريدا أن يقول!!"، "الأدب بغير فن رسول بغير جواد فى رحلة الخلود، والفن بغير أدب مطية سائبة بغير حمل ولا هدف، ولقد كان همى دائما محاول الجمع بين الرسول وجواده.. ولقد رأيت دائما الأدب مع الفن، والفن مع الأدب"، "الأديب يلتزم والأدب لا يلتزم"، "إن الفن واسع ولكن عقول الناس هى الضيقة". 

يبدأ العدد بمقالة الشاعر صلاح عبد الصبور عن "المنابع الشرقية عند توفيق الحكيم"يقول فيها": فى ظنى أن الاختيار المصيرى الذى واجهه توفيق الحكيم هو فى محاولته التوفيق بين العنصر العربى الإسلامى والعنصر الغربى فى ثقافته، وفى إبداعه من بعد، ولعل هذه المحاولة أن تكون من أهم إنجازات توفيق الحكيم، فمما لا شك فيه أن هذه المحاولة كانت هى الشغل الشاغل لشرقنا العربى كله منذ أن دخلت جيوش نابليون مصر، ولا أظن أن المجتمع بأسره استطاع أن ينجز هذا التوفيق الشامل حتى الآن، لأن صفوفا طويلة من المتصدين لقيادته. لا فى المجالات الأدبية فحسب، بل وفى مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والبحث والتكنولوجيا، ما زالت لا تستطيع لضعف بصيرتها التاريخية أن تتلمس أبعاد هذا الاختبار المصيرى، فضلا عن أن تدبر له، وتجد السبيل إلى تجاوزه إلى منحنى بيانى أعلى من منحنياتها السابقة، وهى – قبل ذلك كله – لم تستطع بعد أن تقدر ماضيها حق قدره، بحيث تستخرج منه قيمه الإيجابية، بينما لا يزال فهمها للحضارة الأوروبية خليطا مشتتا من التحيزات والانطباعات. والقارئ المتأمل لبعض أعمال الحكيم الأولى، مثل "زهرة العمر"، هذا الكتاب الدافئ السبيل، أو "عصفور من الشرق" وهو امتداد بشكل ما لـ "زهرة العمر" يستطيع أن يتلمس محاولة التوفيق تلك، وهى تمضى وتتعثر، وتنهض وتهوى، وتتفتت وتلتحم، ولن يعجز القارئ عن إدراك الخيط الثانى فى "زهرة العمر" بعد رؤية الخيط العاطفى، وهو خيط البحث عن الأسلوب". (ص 47)

وعن تعادلية الحكيم يكتب زكى نجيب محمود فيقول: "كثيرا ما يكون الأديب والناقد رجلين، يفحص أحدهما عمل الآخر، وقليلا ما يجتمع الأديب والناقد فى رجل واحد، يكون اليوم أديبا ثم يصبح فى غده ناقدا لأدبه، مستخرجا منه أصوله ومبادئه"، وقد كان توفيق الحكيم بكتابه "التعادلية" واحدا من هؤلاء القلة، التى التقى فيها خلق الأديب وتحليل الناقد، فقد جاءته – فيما يروى لنا – رسالة من قارئ جاد، يسأله فيها عن مذهبه فى الحياة والفن، مستخلصا من كتبه، ليرى صاحب هذه الرسالة إن كان قد أصاب أو أخطأ فى استخلاص ذلك المذهب لنفسه، ذلك أن ذلك السائل قد انتهى بعد قراءته لكتب الحكيم إلى رأى، هو أن تلك الكتب فى مجموعها تحاول تفسير (الإنسان) فى وضعه العام من الكون بزمانه ومكانه، وفى وضعه الخاص من المجتمع بأجياله وبيئاته، فانتهز أديبنا الحكيم فرصة سؤال السائل، وهم بالإجابة ليعدها للنشر، لأنها ربما جاءت فى صورة محددة يمكن وصفها بأنها مذهبه فى الحياة والفن، فكان هذا الكتاب الذى بين أيدينا  "التعادلية".

قرأت الكتاب، فخيل إلى وأنا ماض بين صفحاته، أننى إنما استمع إلى فيلسوف من فلاسفة اليونان الأقدمين، يتكلم العربية ويرتدى ثياب أوروبا العصرية، لكن الفكر واللغة والثياب لم يكن بينها – مع ذلك – تنافر، بل جاءت كلمها فى وحدة منسقة تنسيق اختلاف وجوهها، فأديبنا الحكيم فى "تعادليته"، ينظر إلى الكون وإلى الإنسان، النظرة نفسها التى نظر بها فلاسفة اليونان، وهى نظرة تحاول جمع الأضداد فى وحدة، وهل تستطيع أن تقرأ نظرات الحكيم فى هذه المحاولة، فلا يرد على خاطرك قول هرقليطس – مثلا – بأن حقيقة الكون أضداد تتعادل "النهار والليل"، و"الشتاء والصيف"، و"الحرب والسلم"، و"الشبع والجوع"، و"البارد والحار"، و"الرطب واليابس"، و"اليقظة والنوم"، و"الحياة والموت"؟ أو هل تستطيع أن تقرأ تعادلية الحكيم، ثم لا تذكر قول أنبادقليس فى المحبة والكراهية، فى التجاذب والتنافر، اللذين يعلل بهما هذه الحركة الدائبة فى الكون من اتصال وانفصال يسببان كون اِلأشياء وفسادها؟ أو هل تستطيع أن تقرأ تعادلية الحكيم دون أن يمثل أمام بصرك مبدأ "الوسط الذهبى" الذى يتوسط المتطرفات ليكون هو الفضيلة والحكمة؟ وهكذا أخذت اصداء الفلاسفة اليونان الأقدمين تتردد فى سمعى كلما مضيت بين صفحات التعادلية". (ص18) وتكتب سهير القلماوى عن "الأسطورة فى أدب توفيق الحكيم" فتقول ": إن الأسطورة والتاريخ وخيال الظل وكل هذه الخلفيات التى تتجرد أو تحتمل التجريد هى الخلفيات الأساسية فى أدب توفيق الحكيم".

ولعل الأسطورة هى أبرز هذه الخلفيات لأنه حتى عندما يستعمل الحكيم التاريخ مثلا فى "السلطان الحائر"، أو أسلوب خيال الظل فى "الطعام لكل فم"، أو الفولكلور فى "يا طالع الشجرة" يضطر إلى "تسطير" هذا التاريخ، أى تناوله وكأنما هو أسطورة، يأخذ ملامحه العامة من بعيد، وقائعه ليست هى موضوع المسرحية، إن مغزى هذه الوقائع وآثارها ونتائجها هى التى تلائم فكر المؤلف وأدائه". (ص27) ويكتب الشاعر عبد الرحمن صدقى عن "الأنثى الخالدة" شهرزاد من "حكايات ألف ليلة وليلة" فى صورتها الراهنة، سقوط بغداد، وزوال دولة الخلافة العربية.

ويكتب الدكتور على الراعى عن مسرحيات توفيق الحكيم الفكرية فيقول ": قبل أن نفحص "مسرحيات الأفكار" التى كتبها توفيق الحكيم، واصطلح على تسميتها بأسم "المسرح الذهنى" وهى تسمية جائرة على فن الحكيم، ومضلله لقرائه ورواد فنه، وله هو شخصيا  - كما سنتبين فيما بعد – قبل أن نفعل هذا، علينا أن نناقش أولا مسألة هامة وهى: لماذا كتب توفيق الحكيم

مسرحيات الأفكار أصلا؟ أهو نفوره الشخصى من عملية التجسيد، ورغبته فى التعامل مع القضايا لا مع الأشخاص؟ أهى رغبته فى أن يكتب أدبا يقرأ ويحفظ لا مجرد مسرح يمثل وينسى؟ أم هو اقتناعه بأن ما يطرق من موضوعات لا يمكن أن يجسد إطلاقا، أولا يمكن أن يجسد بالوسائل المسرحية المتاحة لنا الآن؟ أم ترى توفيق الحكيم قد كتب مسرحية الأفكار، لأنه لا يستطيع أن يكتب غيرها؟ أى كتب للمطبعة، لأنه لا يستطيع أن يكتب للخشبة؟ كل هذه الأسئلة أثارها الحكيم نفسه، كما آثارها أصدقاء الحكيم وخصومه على السواء". (ص13) وكتب العقاد عن توفيق الحكيم تحت عنوان "ملامح شخصية"، وطه حسين تحت عنوان "مصيف سالانش بجبال الألب عام 1936"، وحسين فوزى "كيف عدت إلى الأدب"، ويكتب توفيق الحكيم "الطالب توفيق الحكيم"، ويكتب أحمد بهاء الدين "زيارة لمكتبة توفيق الحكيم"، ويكتب فؤاد دواره حول مسرحيات لم تنشر للحكيم وهى المسرحيات القديمة التى كتبها لفرقة عكاشة حوالى سنة 1923 والتى لم ينشرها لسذاحتها واقتباس غالبيتها عن مسرحيات أجنبية، وهى تمثل فى الحقيقة نقطة البدء السليمة لفهم مسرحه. ويكتب سعد أردش بعنوان "تجربتى مع مسرح الحكيم" متحدثا عن الذهنية التى اتجه إليها الحكيم مؤسسا لمسرحنا الحديث، باعتباره رأس الحربة فى الصراع الذى وقع مسرحه ضحية له منذ البداية. ثم يكتب كامل زهيرى رئيس تحرير الهلال فى ذلك الوقت تحت عنوان "توفيق الحكيم والسياسة قائلا ": استوعب توفيق الحكيم ماضى مصر وتصور مستقبلها فكتب "عودة الروح" وتخيل بعين الخيال عن عاصفة مباركة قبل أن يتزلزل النظام القديم فى مصر، وهذه النبوءة بالمستقبل، وهذا الاستيعاب للماضى هما اللذان يميزان الفنان حين يكتب فى السياسة عن الفكر، فالفنان هو الجسر بين الماضى والمستقبل، لأن الفنان نبى متواضع، أما المفكر هو يركز النظر – أغلب الأمر – على الحاضر فقط، وهذا هو الفارق بين الفكر الاشتراكى بين فورييه وسان سيمون، وهو نفس الفارق أيضا بين البير كامو الفنان وسارتر المفكر(ص156).
أمير الشعراء

العدد الذهبى لأمير الشعراء أحمد شوقى صدر هذا العدد فى نوفمبر 1968، وفى باب "كلمات عاشت" قال أحمد شوقى: أو لم يكن من الغبن على الشعر والأمة العربية أن يحيا المتنبى مثلا حياته العاتية التى بلغ فيها أقصى الشباب، ثم يموت على نحو مائتى صحيفة من الشعر، تسعة أعشارها لممدوحيه والعشر الباقى للحكمة والوصف للناس؟!، وهنا يسأل سائل: وما بالك تنهى عن خلق وتأتى بمثله!! فأجيب: أنى قرعت أبواب الشعر، وأنا أعلم من حقيقته ما نعلمه اليوم، ولا أجد أمامى فى دوواين للموتى من الشعراء، لا مظهر للشعر فيها، وقصائد للأحياء يحذون فيه حذو القدماء، والقوم فى مصر لا يعرفون من الشعر إلا ما كان مدحا فى مقام عال..". أحمد شوقى من مقدمة الطبعة الأولى من "الشوقيات"
ويقول الابن حسين شوقى فى كتابه "أبى شوقى": لم يطرق أبى الهجاء إلا نادرا جدا، لأنه يراه غير خليق بالشعر الرفيع..
وأخيرا أفاض الشاعر إبراهيم ناجى بهذه الأبيات على قبر شوقى حين قال:

فاذهب كما ذهب الربيع على
قد شيعته مدامع الزهـــــــــــــــر
وأهدأ كما هدأ النسيم قضـى
فى هدأة الأضــــواء والشعـر
ما كنت إلا أمـــــــــــــة ذهبت
والعبقرية أمة الأمــــــــــــــــــــــم
أو شعلة أبصارنا خلبــــــــت
ومنارة نصبت على علـــــــــــم

يبدأ عدد شوقى بمقدمة لديوان "الشوقيات" بقلمه، وفيها يلقى الضوء على حياته وآرائه فى مطالعها، ويقول فيها: ما زال لواء الشعر معقودا لأمراء العرب وأشرافهم، وما برح نظمه حبيا إلى علمائهم وحكمائهم، يمارسونه حق المراس، ويبنون كل بيت منه على أمتن أساس، موقنين لجلائه، حافظين خلاله، مدنين إلى الإذعان خياله. قاله امرؤ القيس واصفا حاكيا، وضاحكا وباكيا، وناسبا وغزلا، وجدا وهازلا، وجمع شمله بحيث تعد المنظومة الواحدة له أثرا فى البيان مستقلا، وبنيانا قائما برأسه. ونظمه أبو فراس فخرا عاليا، ونسيبا غاليا، وحكمة باهرة، وأمثالا سائرة، لكنه لم يقله فوضى ولا قرب فى نظمه الخلط فإن قصيدته المشهورة التى يقول فى مطلعها:

أراك عصى الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهى عليك ولا أمر

ليست إلا عقدا توحد سلكه وتشابهت جواهره ودق نظامه، تعاونت فيه ملكة العربى وسليقة الشاعر على حسن الحكاية، فإذا فرغت من قراءتها فكأنك قد قرأت أحسن رواية، وعلما، وكونها أشبه شئ بالشعر فى شعور الأنفس هما سر بقائها متلوة إلى الأبد.

وكان أبو العلاء يصوغ الحقائق فى شعره ويرعى تجارب الحياة فى منظومه ويشرح حالات النفس ويكاد ينال سريرتها، ومن تأمل قوله فى قصيدة:
فلا هطلت على ولا  بأرضــــــــــــى
سحائب ليس تنتظم البــــــــــــــــلادا
     وقابل بين هذا البيت، وبين قول أبى فراس:
معللتى بالوصل والموت دونــــــــه
إذا مت ظمأنا فلا  نزل القطـــــــر

ثم أنظر إلى الأول كيف شرع سنة الإيثار وبالغ فى إظهار رقة النفس بالنفس، وانعطاف الجنس نحو الجنس، وإلى الثانى كيف وضع مبدأ الإثرة وغالى بالنفس ورأى لها الاختصاص بالمنفعة فى هذه الدنيا، تعيش فيها جافية ثم تخرج منها فى آسية. علم أن شعراء العرب حكماء لم تقرب منهم الحقائق الكبر، ولم يفتهم تقرير المبادئ الاجتماعية العالية، وأنهم أقدر الأمم على تقريبها من الأذهان، وإظهارها فى أجلى وأجمل صور البيان.

ثم تتناول الدكتورة سهير القلماوى موضوع المرأة والحب فى مسرحيات شوقى، بعدها تأتى الكاميرا لتعقد لنا عددا كبيرا من الصور تمثل أمير الشعراء وهو فى زينته الحياتية مع محبيه وأهله وأصدقائه وزملائه من الشعراء الكبار والموسيقيين خاصة صورته مع الموسيقى الشاب محمد عبد الوهاب، ثم تستأنف المقالات أدوارها مع محمد صبرى السربونى على هامش الشوقيات المجهولة، ثم شوقى وحافظ ومطران، ونظرة فى مسرح شوقى، ويكتب صلاح عبد الصبور عن كليوباترا بين شكسبير وشوقى، ويكتب محمد عبد الغنى حسن عن الطبيعة فى شعر شوقى، ويجئ دور الفن على يد بدر الدين أبو غازى والآثار الفرعونية فى شعر شوقى، ويكتب كمال النجمى عن الشوقيات الصغيرة. ويتحول العدد إلى بانوراما واسعة كبيرة نعيش فيها فى كرمة ابن هانئ مع شعر شوقى ومسرحه الشعرى الذى كان قبل أن يتناوله شوقى خاضعا للاقتباس والترجمة، وحين كتبه شوقى أرسى فى هذا الفن إرساء حقيقيا فى التربة الأدبية المعاصرة، وكان ميلاد المسرحية الشعرية على يد شوقى يكاد يقترن زمنيا بميلاد المسرحية النثرية الناضجة على يد توفيق الحكيم الذى بدأ مسرحه فى مطلع شبابه على عكس شوقى الذى بدأ مسرحه الشعرى فى أخريات عمره. 
أديب نوبل العدد الذهبى الخاص بأديب نوبل نجيب محفوظ صدر هذا العدد فى فبراير 1970 ويستهل الأستاذ رجاء النقاش رئيس التحرير مقدمة العدد بهذا التساؤل: لماذا نجيب محفوظ؟

 قدمت الهلال فى السنوات الأخيرة أربعة أعداد خاصة عن أربع شخصيات تعتبر كل منها ركنا أساسيا فى الحركة الأدبية والفكرية العربية المعاصرة.. وهذه الشخصيات هى: طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وأحمد شوقى.. واليوم تقدم الهلال هذا العدد الخاص عن نجيب محفوظ.. فلماذا نجيب بالذات؟.. يبدو لى إنك يا عزيزى القارئ لن تسأل هذا السؤال، فنجيب محفوظ نال تقدير القراء قبل أن ينال تقدير النقاد وقبل أن ينال تقدير الصحافة.. إن أول من اكتشف نجيب محفوظ هم قراؤه الذين أحبوه، وتعلقوا بما فيه من صدق وعمق وأصالة فنية عالية، وهم الذين وضعوه إلى جانب طه حسين والعقاد والحكيم فى الصف الأول من رواد أدبنا وأعلامه. إن نجيب محفوظ أصبح "بديهة أدبية" لا مجال للاختلاف عليها أو إنكار دورها البارز فى حياتنا الأدبية المعاصرة.. مهما كان هناك من اختلاف فى تقييم هذا الدور".

رئيس التحرير يستهل الدكتور على الراعى العدد بدراسة عن الثائر الفرد عند نجيب محفوظ فى رواية الشحاذ، حيث تتردد نغمة "ماذا يفعل بنا الزمن فى جنبات المواقف التى استحدثتها ثورة يوليو. على لسان عمر الحمزاوى الثائر الذى يجد نفسه فجأة بلا عمل ليس لأن الرجعية أطبقت على ثورته بلأ لأن الثورة تحققت دون تدخل منه، ثم يتناول محمود أمين العالم تأملاته فى "خمارة القط الأسود"، و"تحت المظلة" فى مرحلة جديدة فى عالم نجيب محفوظ، حيث إن الفارس الجديد عند نجيب محفوظ ليس مجرد نموذج بشرى جديد فى عالمه القصصى بل هو نبض بشرى من نوع جديد، حدث بشرى جديد، مرحلة بشرية جديدة من الشوق والحكمة، مرحلة الإرادة والفعل والتحقق، على أن هذا الفارس الجديد. (ص18) ويتناول إبراهيم عامر نجيب محفوظ سياسيا من ثورة 1919 إلى يونيو 1967 بطريقة فنية وعلى لسان إحدى أبطال السكرية وهى سوسن حماد فتاة ذات فكر تقدمى وابنة عامل مطبعة بمجلة "الإنسان الجديد" وجهت حديثها لأحمد إبراهيم شوكت قائلة ": المقالة صريحة ومباشرة لذلك فهى خطيرة، أما القصة فذات حيل لا حصر لها، إنها فن ماكر". (ص26) وقد تبنى نجيب محفوظ هذه الرؤية وأصبح هو الدستور الذى صار عليه فى كتاباته بعد ذلك. وفى تحقيق صحفى من نوع خاص أجراه ضياء الدين بيبرس أطلق عليه "محاكمة نجيب محفوظ" من لدن عشرة نقاد وعشر قضايا، شارك فيه كل من أنيس منصور، د. رشاد رشدى، أحمد رشدى صالح، د. فاطمة موسى، فؤاد دواره، د. لطيفة الزيات، د. لويس عوض، الشاعر الفلسطينى معين بسيسو، د.مصطفى سويف.

كما تناولت الدكتورة لطيفة الزيات الشكل الروائى عند نجيب محفوظ من "اللص والكلاب" إلى "ميرمار" بقولها: فرضت "اللص والكلاب" العديد من الأسئلة على الناقد بمجرد ظهورها، وقد وجد الناقد نفسه إزاء شكل جديد لتعبير، يتبناه الكاتب لأول مرة، وتأتى عليه أن يتوقف عند هذا الشكل الجديد بالدراسة والتحليل والتعليق، وأن يربط بينه وبين المعنى العام للرواية، وأن يوضح إلى أى مدى يجسم هذا الشكل المعنى العام ويخدمه ويدعمّه، وكأن عليه فوق هذا وذاك أن يتساءل عن مدى الأهمية التى يمثلها للكاتب، هذا الشكل الجديد، أهو مجرد ضروة فنية عابرة تفرضها مادة معينة عابرة، أم هو شئ أكثر من هذا؟ أهو مجرد منطلق لوسيلة جديدة من وسائل التعبير أم هو التجسيم الدرامى لرؤية جديدة للحقيقة، وقد تكاملت فى هذا الشكل، وكان من المستحيل إذ ذاك – وقبل أن تستكمل المرحلة الفنية التى بدأت مع اللص والكلاب أبعادها التوصل إلى إجابة شافية على هذه الأسئلة.وفى النهاية توصلت الدكتور لطيفة إزاء الكلام عن رحلة نجيب محفوظ عندما اكتملت فى هذا الاتجاه أو كادت، وهو قد تخفف ما بين "اللص والكلاب"، و"ميرامار" عن الكثير، والإطار الروائى الذى اتسع طيلة هذه الرحلة قد بدأ يضيق، وهو يبحث الآن جادا عن إطار جديد، تفرضه رؤية للأشياء قد تغيرت فى مسار الرحلة وتجددت، حيث تجددت  رؤية الأشياء وعانت اهتزازا عنيفا مع أحداث يونيو1967 (ص63/75) ويكتب رفيق صباه الدكتور أدهم رجب أستاذ ورئيس قسم الطفيليات بكلية طب القصر العينى ذكريات الصبا مع نجيب محفوظ، ويكتب فؤاد دواره عن الوجدان القومى فى أدب نجيب محفوظ من خلال الرواية الاجتماعية والثلاثية، كما يتحدث عن الثلاثية أيضا الأب المستشرق الفرنسى جاك جومييه فى حوار أجراه سمير عوض، ويكتب صبرى حافظ عن نجيب محفوظ بين الدين والفلسفة خاصة وأن نجيب محفوظ كان قد بدأ حياته الأدبية كاتبا للمقالات الفكرية والفلسفية بعد تخرجه من قسم الفلسفة بكلية الآاب عام 1934 وأن معظم القضايا التى تناولها فى أعماله الروائية كانت تعرض وجهة نظره من الناحية الفلسفية. وحول سينما نجيب محفوظ يكتب هاشم النحاس المتخصص فى سينما نجيب محفوظ عن دور نجيب محفوظ فى السينما المصرية، من خلال رواياته التى تحولت إلى أفلام أو السيناريوهات التى شارك فى كتبتها لأعمال سينمائيةـ وتناول عبد الرحمن أبو عوف الزمن الروائى عند نجيب محفوظ من خلال مؤشرات الحياة والموت الحاضرة فى العديد من أعماله الروائية، وكتب أحمد أبو كف عن المرأة والجنس فى أعمال نجيب محفوظ وتناوله لهذا العالم الذى عبر عنه نجيب محفوظ تعبيرا فى كثير من رواياته محللا الدوافع والمؤشرات الباعثة على تعامل الطبقة الوسطى التى تموج حياتها بالكثير من المتناقضات، وأخيرا يسرد العدد بعض أحاديث نجيب محفوظ الصحفية عن الدين والاشتراكية وحرية النقد، والحياة وما فيها، والانتصار على الموت، وغير ذلك من القضايا الإنسانية التى تحيط بالمجتمع والناس. 

لقد كانت هذه البانوراما التى شكلت شريحة لها خصوصيتها فى التناول قامت بها الهلال فى أوقات محددة لخمسة من أبرز وأهم الأدباء والمفكرين العرب بصدور هذه الأعداد الذهبية التى راكمت فيها حياتهم وإبداعهم وصورهم وتاريخهم وكل ما يمت لهم بصلة فى الفكر والإبداع جعلت من هذه الدورية التى سابقت الزمن بأزمان طويلة ومازالت هى سباقة كما العهد بها دائما.