السبت 5 اكتوبر 2024

6 أكتوبر والمفاجأة العربية

د. محمد حسن الزيات

ثقافة5-10-2024 | 14:19

د. محمد حسن الزيات

في عام 1972 زرت مركز أبحاث الفضاء في مدينة هوستن بولاية تكساس الأمريكية لأشهد كيف تدور الاتصالات فيه بين أرضنا هذه التي نعيش عليها وبين تلك الأقمار المنطلقة في الفضاء بتوجيه من البشر، فلما انتهت زيارتي قدم لي مدير المركز هدية هي مجموعة من الصور التقطتها عدسات القمر الصناعي لمنطقة قناة السويس وشبه جزيرة سيناء.

ومهما يكن الدافع لتقديم تلك الهدية – وما أحسب أن كان لذلك دافع غير المجاملة – فقد جعلت أطيل النظر فيها واحدة واحدة، أتأمل وضوحها ودقتها، وأفكر في مدى التقدم العلمي الذي حققته الولايات المتحدة، وحقق مثله الاتحاد السوفييتي، في هذا الجيل، ثم سألت نفسي: هل بقيت للدول أسرار؟ هل يمكن أن يخفى الكثير من أمور أي منطقة من المناطق على من يستطيعون الحصول على مثل هذه الصور ويسخرون آلات هذا العصر الإلكتروني لتهضم آلاف المعلومات التي يغذونها بها ولتستخرج منها – في ثواني معدودة – ما يطلب من نتائج؟..

ومع ذلك فقد كان أول صوت سمعته وأنا في نيويورك أي اليوم السادس من أكتوبر 1973 هو صوت وزير خارجية الولايات المتحدة، يسأل أصحيح ما أبلغته به إسرائيل من أن جيوش مصر وسوريا موشكة أن تتحرك لتجليها بالقوة عن الأرض التي طال احتلالها في كل منهما منذ 1967، فكيف دبرنا هذا التحرك الضخم – في عصر الأقمار الصناعية – مفاجأة للإسرائيليين؟ ما هي العناصر التي أدخلوها خطأ في حساباتهم، أو ما هي العناصر التي أسقطوها من تلك الحسابات فلم يكن لآلاتهم ولا لمحلليهم أن ينذروهم بما كان سيقع قبل وقوعه بوقت كاف؟

هذا سؤال لا يلقيه المؤرخ الحريص على تسجيل الحقائق فقط، بل يلقيه كذلك السياسي الذي يهمه أن يعرف مواطن القوة ليستزيد لبلاده منها ومزالق الضعف ليتقي الوقوع فيها.

إن البحث عن هذه العناصر اجتهاد، وهذا ما أحاوله الآن بعد انقضاء أعوام ثلاثة على أحداث أكتوبر 1973، إنني أتأمل مجرى تلك الأحداث فأتبين عناصر أربعة يبدو لي أن إسرائيل أهملت وأخطأت حسابها فأخذتها قفزة الجيشين المصري والسوري في السادس من أكتوبر أخذ الفجاءة.

أول هذه العناصر استقلال إرادتنا السياسية أن الصهيونية تتحرك - منذ نشأتها – على أساس أنه لا توجد في العالم سياسة فعالة سوى سياسة القوة، ولذلك حرصت دائماً على أن ترتبط بأقوى القوى العالمية لتخدمها وتستخدمها، وفي عصرنا الحديث لم يكن لها مناص من الارتباط بالحلفاء في حربهم ضد ألمانيا، واستغلت هذا الارتباط لتستصدر من الأمم المتحدة، بعد انتهاء الحرب مباشرة، قرار تقسيم فلسطين بتأييد الحلفاء أي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، ولكن النزاع بين هاتين الدولتين لم يلبث أن نشب، وموقف إسرائيل الحيادي بينهما لم يطل، فقد قررت الصهيونية أن القوة الأكبر والأقدر على مساعدتها هي الولايات المتحدة الأمريكية فانحازت لها ولكي تستأثر بتأييدها وتستكثر منه بذلت أقصى الجهد لتصوير خصومها العرب أعداء للولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، حلفاء – أو حتى عملاء – لخصومها السوفييت، ولكن سنوات الحرب الباردة انقضت وجاء صيف عام 1972 فدخلت أمريكا وروسيا في مرحلة جديدة هي مرحلة الانفراج السياسي (أو ما نسميه بالوفاق) ومع كراهية الصهيونية لهذا التطور في العلاقات، فإنها استهدفت الاستفادة منه بعد وقوعه، وأدارت سياستها على أساس أن هذا الانفراج بين الدول الكبرى يجب أن تتبعه فترة من التراخي في النزاع الناشب بينها وبين العرب، بحيث لا تستخدم القوة في تحرير أرض العرب المحتلة، أو لكسب حقوق الفلسطينيين، واطمأنت إسرائيل إلى أن هذا "التراخي" سيقع حتماً سواء  قبله العرب أم لم يقبلوه، إذ أن الدولتين العظميين – وهما حريصتان على عدم تصدع سياسة الانفراج – لن يأذنا لمصر ولا لسوريا ولا لغيرهما بأي حركة تعرض هذه السياسة للخطر، وأنه حتى إن عجزتا عن كبح جماح العرب ستعرفان خططهم ولن تخفى عن الولايات المتحدة التي ستحذر إسرائيل منها في الوقت المناسب.

أقنعت إسرائيل إذن نفسها بأن مصر وسوريا لا يمكن أن يستقلا باتخاذ قرار عسكري أو سياسي، فكان اتخاذنا قرار أكتوبر مفاجأة لم تتوقعها ولم تدخلها في حساباتها.

وإذا كنا قد أنذرنا المرة بعد المرة بأننا مضطرون لإجلاء الاحتلال الإسرائيلي فقد أسقطت إسرائيل هذه الإنذارات من حسابها لاعتقادها أن أقوالنا دائماً أكثر من أعمالنا، ولأننا حتى لو صدقت نوايانا عاجزون عن التحرك بغير إذن، وقطعاً بغير علم الاتحاد السوفييتي، الذي اعتقدت أن حرصه على علاقاته الجديدة بالولايات المتحدة سيدفعه إلى منع أي حركة يمكن أن تهدد علاقات الوفاق الدولي الجديد.

وثاني هذه العناصر نشأ عن اقتناع إسرائيل بتفوقها العسكري الساحق على العرب الذين يعيشون حياة التخلف فيما حولها.

والإشارة إلى هذا العنصر الثاني من عناصر المفاجأة يدعو إلى الحديث عن الإنجازات العسكرية العربية في أكتوبر 1973، وهو حديث له رجاله، وله مكانه، وليس هو هذا المكان، ولكني أشير فقط إلى أن الإسرائيليين طال حديثهم عن عجز العرب عن أي تخطيط أو تنسيق وبالتالي عن أي حركة عسكرية فعالة جعلوا ذلك أساس دعاية أصبحت من القوة بحيث آمنوا بها هم أنفسهم.

كانت إسرائيل تزدهى بما جمعت من أسلحة وما بلغه جنودها من مقدرة، وكانت ترى الجندي المصري، والعربي عامة، وقد زج به في حروب ماضية فترى أنه لم يحسن فيها كراً ولا فراً، وكانت تنظر فيما لديها من أسلحة إلكترونية معقدة فترى أن الجندي العربي سيكون في مواجهتها أكثر جهلاً وذعراً، وقد دفعها ذلك كله إلى حدود الغرور، ومن كان يسمع مندوب إسرائيل يعلن بعجرفته أن بلاده "لن تخضع بغير إرادتها، وأن من العبث أن تلجأ مصر إلى الهيئات الدولية أو أن تتحدث عن قانون الدول أو ميثاق الأمم المتحدة، وعليها – إن رأت أن هناك مشكلة تتطلب حلاً – أن تنشد هذا الحل بملاقاة إسرائيل في أرض المنطقة وليس بمجابهتها في مجلس الأمن" من كان يسمع ذلك كان يدرك أن إسرائيل قد وقعت فريسة لدعايتها، وما أظن مندوبها قد ألقى بالاً إلى مغزى الرد القصير الذي رددت به عليه عندما أعلن ذلك عندما قلت "إننا قد أخذنا علماً بهذه النصيحة".

الذي يهمنا هنا هو أن غرور إسرائيل وازدراءها العسكري للعرب كان هو العنصر الثاني من عناصر المفاجأة – التي أوقعت بها الهزيمة في أكتوبر 1973.

العنصر الثالث من عناصر المفاجأة كان سببه ما استقر في يقين إسرائيل من أن العرب لن تجتمع لهم كلمة أو تنتظم لهم جبهة.

لقد شهدوا تفرق العرب وتنازعهم، وشاركوا في بث "النظريات" التي تجعل هذا التفرق والتنازع ضرورة محتومة.

تحدثوا عن الصراع القديم بين حضارة الفرات وحضارة النيل، بين أهل البدو وأهل الحضر، بين أهل السهل وأهل الجبل، بين أهل الحاجة وأهل الغنى، وشهدوا كيف تستثار النعرات الطائفية علناً وسراً، لتذهب ريح العرب وتتبدد قواهم، لذلك كان العنصر الثالث من عناصر مفاجأة أكتوبر هو وحده كلمة العرب وتكاتفهم لا في الميدان السياسي وحده بل في الميدان الاقتصادي أيضاً.

في صيف عام 1972 حرصت مصر على أن يحضر وزير خارجية السعودية المرحوم السيد عمر السقاف جلسات مجلس الأمن لأننا كنا نريد أن تفهم إسرائيل أن العرب متضامنون في كل ميدان.

ولكن إسرائيل كانت مطمئنة إلى أن التضامن العربي، سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً، هو سراب لا يجوز أن تدخل احتمالات تحققه في تقدير المحللين الجادين أو في حساب الحاسبات.

والعنصر الرابع والأخير من عناصر المفاجأة هو تهيئة العرب للجو الدولي الملائم لتحركهم.

ليس من الممكن ولا من المطلوب أن نتحدث الآن عن هذا الإعداد السياسي بما يستحقه من التفصيل، ولكننا سنشير باختصار إلى أربع مناطق حاولت مصر أن تثير الرأي العام فيها كسباً لمساندتها وتأييدها.

لقد مكنت الدول الاستعمارية لإسرائيل في بعض الدول الإفريقية التي كانت تحتلها قبل الجلاء عنها، كما أن إسرائيل استطاعت إقناع دول أخرى بأنها – مثلها – دولة نامية وشبعها – مثل الشعوب الإفريقية – طالما احتمل سيطرة المسيطرين واستغلال المستغلين.

وقد بذلت إسرائيل أكبر الجهود، وما زالت تبذلها لتحرم العرب من تأييد إخوانهم في منظمة الوحدة الإفريقية.

ولذلك فقد كان من الممكن أن يضيق صدر مصر عندما قررت المنظمة قبل حرب 73 أن تبعث بعثة من رؤسائها إلى كل من مصر وإسرائيل، ولكن مصر – ورئيسها – استقبلت بعثة "الحكماء" هذه، وقدمت إليها كل معونة طلبتها، واستقبلتهم إسرائيل، وأعلنتهم أنها لا تريد أن تحصل على قدم واحد من صحاري العرب، وأنها مستعدة للجلاء التام عن كل أرض احتلتها إن هي ضمنت سلامها وأمنها، ولما طالب وزراء الخارجية الإفريقيون وزير خارجية إسرائيل بأن يعلن ذلك في الأمم المتحدة تراجع ثم رفض فتحقق لمن كان يحسن الظن بإسرائيل من زعماء إفريقيا أنها تستهدف السيطرة والتوسع ووقفت إفريقيا معنا صفاً متسانداً، وأوفدت من وزراء خارجيتها من تحدث باسمها جميعاً مسانداً حق العرب، مطالباً بإزالة العدوان وإعادة الحق إلى أهله.

وشاركت الدول العربية الإفريقية في هذا المجهود ولكسب تأييد الرأي العام الإفريقي كل بقدر ما استطاع.

وقبل الحرب أيضاً لم تدخر مصر ولم يدخر رئيسها جهداً في تكوين رأي عام مشترك لدول عدم الانحياز، عندما اجتمعت في الجزائر، لإدراك الموقف غير المحتمل الناشئ عن العدوان الإسرائيلي المستمر على أرضنا، وشاركت الدول العربية الأعضاء في المؤتمر في هذا المجهود وكانت النتيجة أن فوضت دول عدم الانحياز جميعها من يتحدث باسمها مطالباً بإزالة العدوان وإعادة الحق إلى أهله.

ومنذ زمن طويل والصهيونية تبذل في غرب القارة الأوروبية جهودها لإقناع شعوبها أنها شريكة لهم في الحضارة الغربية، حريصة مثلهم على صيانتها والذود عنها، وشعبها – كشعوبهم – متعطش للسلام بعد أن أنهكته الحروب، وكان لزعماء إسرائيل زملاء وصلوا إلى مراكز الحكم في بلادهم، اقتنعوا بمقالة زملائهم الإسرائيليين أنهم مثلهم طلاب للإصلاح الاجتماعي وللتقدم، وكذلك كان للمجهود الذي بذلته مصر في هذه الدول الأوروبية الغربية أثر – لم يظهر في تفهمها لتحركنا في أكتوبر 73 فقط – بل ظهر بعد ذلك في مواقف عملياً لها خطرها وأهميتها، ولم تهمل مصر الصين ولا دول الكتلة الشرقية، ولم تهمل مؤتمر القمة الأمريكي الروسي عندما انعقد في يوليو 73 (وإن كانت هذه قصة لم يحن الوقت لحكايتها) وأخيراً خاطبت مصر الرأي العام العالمي كله ممثلاً بأعضاء مجلس الأمن، والذي يرجع إلى محاضر مجلس الأمن في يوليو 73 – قبل وثبة أكتوبر بمائة يوم تقريباً – سيقرأ ختام كلمة مصر ما يلي:

"إنه من الواضح أن السلطات الإسرائيلية  تؤمن أنه كلما تصاعد تحديها للمجتمع الدولي اقترب اليوم الذي ييأس هذا المجتمع من معارضة سياستها فيرضخ لإرادتها"

"إنه من الواضح أن السلطات الإسرائيلية تعتقد أنه بضغط احتلالها لأراضينا ستحصل على ما تريد الحصول عليه من تنازلات إلى أن تحقق في نهاية الأمر، حلمها الاستعماري وهو السيطرة على منطقتنا"
"ونحن نقول لإسرائيل ببساطة أن ضغطها لن يحقق أهدافها"

"ونحن نقول للمجتمع الدولي – الذي يمثله هذا المجلس – أننا سنقاوم الاحتلال المفروض علينا"

"ثم نضع بعد ذلك أمام المجلس سؤالاً نختم به خطابنا ونطلب رداً عليه، هذا السؤال هو: هل سنتلقى في مقاومتنا (للاحتلال الإسرائيلي) المعونة من المجتمع الدولي طبقاً لمبدأ مسئولية الأمن الجماعية، أم سنضطر للمقاومة وحدنا وبأنفسنا"؟

"نحن ننتظر جواب المجلس – بعد طول تدارسه لهذه المشكلة – وسيكون كل صوت من أصوات أعضائه، إما دعوة لتحقيق السلام وفقاً لما يقضي به النظام الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وإما صوت تنتصر به سياسة العنف وما يترتب عليها حتماً من العنف المضاد".

هذا هو السؤال الذي طرحته مصر قبل قيامها بحركتها في السادس من أكتوبر بأكثر من مائة يوم.

وقد استطاعت مصر أن تعود إلى مجلس الأمن في أكتوبر لتشير إلى أن سياسة العنف الإسرائيلى قد استدعت عملا من أعمال العنف المضاد، هو من أعمال الدفاع عن النفس التي ينص عليها الميثاق الذي تبنته كل الشعوب.

وبهذا الإعداد السياسي للمعركة، سمع العالم وزير خارجية فرنسا "ميشيل جوبير" يرد على الصحفي المغرض الذي سأله رأيه في "عدوان" مصر وسوريا على إسرائيل في السادس من أكتوبر فيقول "صاحب بيت يريد أن يجلي مقتحماً اقتحم بيته! أين العدوان؟"

هذه عناصر أربعة فاجأت إسرائيل في حرب السادس من أكتوبر، لا نسردها لنهنئ أنفسنا بما كان، بل لنهنئ أنفسنا لما سيكون.

إن خصمنا قد درس – وسيظل يدرس – أسباب هزيمته ليتجنبها، وأسباب انتصارنا ليمنع تكراره، ونحن أيضاً، علينا أن نقوم بهذه الدراسة بأمانة لنتمسك بعناصر النصر ونتجنب مزالق الهزيمة.

خصمنا سيناور ليسلبنا الإرادة السياسية المستقلة وعلينا أن نفسد مناوراته.

سيظل يعمل على تحقيق التفوق العسكري والمعنوي لجنوده وحرمان جنودنا منهما وعلينا أن نحاول إفساد عمله.

 سيستمر سعيه لتمزيق صفوف العرب وتفريق كلمتهم ونحن شركاء له في الإثم ما لم نحبط سعيه ونرد عن أنفسنا كيده.

سيزيد نشاطه – وقد تزايد – لينتزع التأييد الدولي الذي تحقق لنا – في مجالات العالم المختلفة – ولا بد من مقابلتنا لهذا النشاط بمثله.

إن سياسة العنف سياسة مقضى عليها بالفشل وهذا هو الذي يجب أن يفهمه خصومنا ليكون يأسهم من الاستمرار في العنف إعفاء لنا من واجب المقاومة وتمهيداً للطريق الذي يؤدي بشعوبنا إلى السلام والرخاء.