بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.
هذا هو الفصل السادس من مذكرات مؤسس الهلال، وقد وقف في الفصل الماضي عند الحديث على نجاحه في امتحان القبول بكلية الطب بالمدرسة الكلية ببيروت "الجامعة الأمريكية الآن"، وكيف تم له هذا النجاح على الرغم من العقبات التي كانت أمامه، ثم تغلب عليها بالصبر والثبات والاجتهاد حتى حقق أمنيته، وأصبح طالبا بهذه الكلية، وفي هذا الفصل يتحدث عن حياته الدراسية بهذه الكلية.
الفصل السادس: عند الامتحان
وكان المستر بورتر أستاذ اللاتينية في الكلية قد شغل عن تدريسها في ذلك العام، فخلفه المعلم فارس نمر، وكنت قبل التحاقي بالكلية قد زرته في بيته مع بعض أصدقائي، ثم لم أتصل به بعد ذلك إلا في درس اللاتينية، وكنت في أول الأمر أجد صعوبة كبرى في درس هذه اللغة، لأني لم أكن متمكنا من قواعد اللغتين العربية والانجليزية، ولأن أكثر طلبة الطب كانوا يدرسونها كارهين لاعتقادهم أنها ليست ذات قيمة تستحق التعب في سبيلها، على أنني بعد أشهر من دراستها سهل عليّ فهمها وصرت أجد لذة في درسها، وآنست من المعلم ارتياحا لتقدمي فيها
أما علم النبات فكنا ندرسه على يد الدكتور بوسط، وهو من المبرزين فيه وقد لذت لي دراسة النبات، خصوصا فسيولوجيته وتشريحه، لما فيهما من نظام وحكمة، فأقبلت عليها، وتقدمت فيها تقدما ملحوظا وعلى الرغم مما عرف عن الدكتور بوسط من سعة العلم والبراعة والنشاط، كان حاد المزاج سريع الغضب، وفيه ميل إلى الانتقام، ولذلك كان سوء الظن متبادلا بينه وبين الطلبة، وكان ثقل سمعه يزيد في سوء ظنه بالطلبة، فإذا رأى شفتي أحدهم تتحركان ولم يسمع ما يقول، ظن أنه يتحدث عنه بالسوء!
ولما اقترب موعد امتحان آخر العام، أخذ الطلبة يتأهبون له، وقد تعود أكثرهم الامتحانات وآلفوها منذ كانوا في المدرسة العلمية، في حين كانت هذه أول مرة أواجه فيها امتحانا عاما في مدرسة ومع ذلك كانوا كما عرفت ذلك فيما بعد - يتحدثون فيما بينهم أثناء غيابي مؤكدين أني - وزميلي الكفروني - سنحصل على شهادة الامتياز في هذا الامتحان - وبعد انتهاء الامتحان، وخروج الزملاء منه، أسفت لما علمته من تقصير بعضهم، وفيما نحن نتحدث في ذلك، أقبل علينا المعلم فارس، ولم يكن من عادته أن يحدثني خارج الدرس، فأدهشني أنه اتجه نحوي، وصافحني بحرارة قائلا وهو يهز يدي:
- اهنئك يا زيدان، أن إجاباتك في الامتحان بديعة!
وقد أخجلني ذلك الإطراء كثيرا، ولم يسعني إلا أن غيرت مجرى الحديث قائلا له
- أرجو ألا يكون أحد من الرفاق مقصرا
ولكنه لم يرد بشيء، ومضى في طريقه، وعرفت بعدئذ أن الدرجة التي حصلت عليها في ذلك الامتحان كانت عشرة من عشرة، وأن الحصول على مثلها في اللغة اللاتينية أمر نادر الوقوع!.