«وما زال اللبنانيون حيث هاجروا يحملون هذا الشغف بالثقافة العربية..»
لو عُدنا إلى القرن الثامنَ عشرَ نتقصّى عن الشعر في لبنان لوجدنا قصائدَ باردةً خالية من العاطفة والمعنى، إما لمبالغتِها في التقليد، وإما لغرابة أشكالها. والحقُّ أنّه نشأ في لبنان في ذاك القرن شعر غريب الأشكال أَطلَق عليه الدارسون اسمَ الشعرِ الهندسي، وكان أشبهَ بألاعيب يتباهى فيها الشعراء بقدراتهم على الابتكار. وكانت هذه الأشكال المبتكرة أقربَ إلى المتاهة منها إلى الشعر. ومع بداية القرن التاسع عشر، غاب الشعر الهندسي، وظهر لونٌ آخر شديدُ الاحتفاء بالمهارة اللغوية، وتمثّل بقصائدَ تُقرأ طردا وعكسا، أو يتعاقب فيها الحرفان المهمل والمنقوط، أو شَطرٌ مهمل وآخرُ منقوط، وغير ذلك مما يذكّرنا بمقامات أبى القاسم الحريري.
ولكن ما كاد ينتصفُ القرنُ التاسعَ عشرَ حتى بدأتْ نتائجُ الانفتاحِ على الغرب بالظهور. فقد أدّى انتشارُ المدارس العصرية التي أنشأَتْها الإرساليات المسيحية الأجنبية إلى تعلّم أبناء البلاد لغاتِ أوروبا وآدابَها، فانطلقت حركةُ ترجمةٍ واسعة تركّزت على الأدب الفرنسي خصوصا، وانطلقت في أعقابها حركةُ تأليف متأثرةٌ بها، مضمونا لا شكلا، لأن شعراء تلك المرحلة حافظوا على وحدة الوزن والقافية، ولكنهم جدّدوا في موضوعات الشعر، وبنوا القصيدة على موضوع واحد، واختاروا ألفاظا فصيحة متداولة، وأخذوا بالروح الرومنسية التي لاءمت حالتهم الاجتماعية القلقة. ونذكر من شعراء تلك المرحلة الياس فياض ونقولا فياض وبشارة الخوري الملقّب بالأخطل الصغير.
ولما انتهت الحرب العالمية الأولى خضع لبنان للانتداب الفرنسي الذي شجّع على نشر آدابه، فاطّلع اللبنانيون على المذاهبِ الشعرية الأوروبية كلِّها دفعة واحدة، من كلاسيكية جمالية، ورومانسية منشغلة بالذات الناقمة والثائرة، وبرناسية تغازل الكلمة والبناء الشعري، ورمزية تحمّل اللفظ قوة ايحائية. وأدّى تعدّدُ المذاهب الشعرية إلى تداخلها في أسلوب الشاعر الواحد، وإذا بالقصيدةِ خليطٌ من المذاهب. وهذا ما يفسّر حضورَ الرومنسية في شعر الرمزيين، وحضورَ الرمزية في شعر الواقعيين. لهذا لم يتمثّل الشعراءُ في مرحلة ما بين الحربين بمذهب أدبي بعينه، بل اصطنع كلٌّ منهم توليفةً متناغمة من المبادئ الشعرية تَبَعا لشخصيته وميوله. فإذا أخذنا هذا الأمرَ بالاعتبار أمكننا القول، انطلاقا من المذهب الغالبِ في التوليفات الشعرية، إنّ إلياس أبو شبكة كان أكثرَ الشعراء اللبنانيين تعبيرا عن المذهب الرومنسي، وأمين نخله هو الأكثر تعبيرا عن المذهب البرناسي أو مذهب الفن للفن، وسعيد عقل هو الأكثر تعبيرا عن المذهب الرمزي.
بُعَيد الحرب العالمية الثانية تسارع صدورُ المجلات الأدبية والفكرية التي عكست الاتجاهاتِ الفكريةَ المختلفة التي بدأت تغزو المجتمعَ اللبناني. فظهرت مجلةُ “الطريق” و”الدهور” و”الطليعة” و”الثقافة الوطنية” التي كانت كلُّها منابرَ لنشر الفكر الماركسي، ثم “الآداب” التي كانت مَنبرا لنشر الفكر الوجودي، و”الأديب” و”الحكمة” و”المكشوف” التي كانت مجلاتٍ أدبيةً لا فكرية.
أما المجلةُ التي لعبت الدورَ الكبير في تغيير مسارِ الشعر ومفاهيمِه فهي مجلة “شعر”. فبعدما كان اهتمامُ الشاعر بين الحربين منصبّا على نظمِ القصائد التي تحاكي، من حيثُ قواعدُ البناء، مفاهيمَ الشعر الفرنسي، جاءت مجلةُ “شعر” لتطرحَ مفاهيمَ جديدة مستمدةً من الثقافة الأمريكية والإنكليزية، ومن قضايا العصر، ومن الروح التغييرية التي راجت في الخمسينيات، ولِتعلنَ ثورتَها ضدَّ كلِّ الموروث الشعري، وتربُطَ الشاعر بقضايا زمانه، وتدفعَه نحو أفقٍ أعمقَ وأشمل.
ومع أن مؤسّسَها يوسف الخال رسمَ لها مبادئَ نظريةً في عددٍ من افتتاحياته، إلا أنّ شعراء المجلة ساروا وفق قناعاتهم، فالتزم بعضٌ منهم بنظام التفعيلةِ الجديد كأدونيس وفؤاد رفقة، ومضى آخرون يكتبون قصيدةَ النثر كأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا. وقد اتّسعت صفحاتُ المجلة للقصائد الموضوعة والمترجمة، وللمقالاتِ النقدية أيضا. ولم يلبث هؤلاء الشعراء أن شعروا بأنهم أدّوا مهمَّتَهم، فتوقفتِ المجلةُ عن الصدور.
واليومَ، بعد أكثر من خمسين سنة على توقفها، ما زالت مجلةُ “شعر” في قلب المعركة الشعرية وإشكالاتها، وما برح الشعراءُ والنقّاد يعودون إليها وإلى بياناتها والنظرياتِ التي تبنّتها، وما زال صدى ثورتِها مسموعا في التجارب الابداعية التي تتطوّر ثوابتُها ومنطلقاتُها النظرية باستمرار مع وديع سعادة، وعباس بيضون، وبول شاوول، ومحمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، وشربل داغر، وإنطوان أبو زيد، ولوركا سبيتي، وناظم السيد، وكثيرين غيرهم.
غير أن الأدب في لبنان ليس شعرا وحسب، ففي عام 1858 أنشأ خليل الخوري أول جريدة أهلية في بلاد العرب هي “حديقةُ الأخبار”، ونشر فيها – على عادة الصحف الفرنسية في زمانه- روايةً متسلسلة عنوانُها “وَيْ، إذنْ لستُ بإفرنجي”، وهي من أُولى الروايات العربية إنْ لم تكنِ الأولى، ومضمونُها متقدّمٌ على الرواياتِ التي جاءت بعدها، إذْ عالجتْ مسائلَ تبدو اليومَ شديدةَ العصرية كمسألةِ الهوية والعولمة والعلاقة بالغرب.
وفي تلك الحقبة خصوصا رافقتِ الروايةُ الجريدةَ والمجلةَ فدعمت كلٌّ منها الأخرى. وكانت المجلات والجرائد تنشر الرواياتِ متسلسلةً في أعدادها لجذبِ القراء، ثم تجمعُها في كتابٍ تُهديه الى المشتركين فيها في نهاية العام.
ومع بدايةِ القرن العشرين تجاوز التأليفُ هذا الإطارَ الضيّق، فظهرت رواياتٌ كثيرة في العشريةِ الأولى منه، وكان لأقلام النساء موقعُ الصدارة في التأليف.
رافقت ثنائيةُ القريةِ/المدينة في الرواية اللبنانية ثنائيةَ الرجلِ/المرأة. فقد ركّزتِ الروايةُ على موضوعةِ الرجلِ الريفي الصادق الذي ينزلُ إلى المدينة فيقعُ في غواية المرأة فيها. وصورة المرأة المغوية قديمةٌ في أدبنا، وأمثلتُها كثيرة في كتابِ «ألفِ ليلة وليلة»، وقد كان لها انتشارٌ واسعٌ أيضا في الروايات الأوروبية حيث لعبتِ المرأة الشقراءُ دورَ الزوجة الصالحة، بينما مثّلتِ السمراءُ دورَ الأنثى الغامضةِ المغوية. ومثلما فرّقتِ الروايةُ الأوروبية بين الشقراء والسمراءِ، فرّقتْ بينهما الروايةُ اللبنانية، ولكنها عكستِ الأدوار، فربطتِ الشقراءَ بالمدينة والغواية، وربطتِ السمراء بالريفِ، وجعلت المرأةَ الريفية مثال الأصالة والالتزام، ومن ضلّت أو انحرفت، فإنما ذلك نتيجةُ ظلمِ الرجل أو ظلمِ المجتمع. ويُعَد توفيق يوسف عواد من أبرز الكتّاب الذين أظهروا قدرةَ المرأة على الالتزامِ والإقدام. فقد اختار لها في رواية «الرغيف» دورَ المرأة المناضلة. وقد يكون لهذا الدور مرجِع في رواية أمين الريحاني «خارج الحريم». ولكن الريحاني استهدف بروايته تشجيع المرأة على التحرّر الشخصي والاجتماعي، بينما سعى عواد إلى استنهاض أفراد الشعب، رجالاً ونساء، في سبيل قضية التحرّر السياسي العربي.
ولم يحصرِ الروائيون اللبنانيون موضوعاتِهم في الإطار الاجتماعي. فقد اتّجه بعضهم صوبَ تاريخ العرب يختار منه موضوعاتِ رواياته (كجرجي زيدان في معظم رواياته)، أو إلى التاريخ المحلي (كمارون عبود في «الأمير الأحمر»، وفؤاد افرام البستاني في «على عهد الأمير») أو إلى الواقع المعيش (كمارون عبود في رواية «فارس آغا»)، وتنقّل أغزرُهم (كرم ملحم كرم واميل حبشي الأشقر) بين التاريخ المحلي وتاريخ العرب.
وما إنْ فتحَ جيلُ ما بعد الحربِ العالمية الثانية عينيه على الدنيا حتى وجدَ نفسَه أمام عالَمٍ مجنونٍ عابث. فدفعه هذا العبثُ إلى العودة إلى ذاته، والتفكيرِ في مصيره. وأدركَ أنّه وحدَه مسؤولٌ عن نفسه، وأنَّ المسؤوليةَ مرهونةٌ بوجود الحرية، فتحوّلتِ الحريةُ إلى شاغلٍ دائم له. لم تعدِ الروايةُ تنظرُ إلى المجتمع، بل إلى علاقةِ الفردِ بمحيطه. وبدأ المؤلفُ يستكشفُ مطاويَ ذاتِه العميقة، فإذا هي مترعة بالقلقِ على الوجود، مفعمة بالتمرّدِ على القيمِ التي أسّست للحروب. واتخذ التمرّدُ ألواناً كتلك التي عرفها في أوروبا. فظهرتِ الروايةُ الوجودية مع سهيل إدريس، والعبثيةُ مع فؤاد كنعان.
ويمكننا أن نَعُدَّ سهيل إدريس أبرز دعاة المذهب الوجودي في لبنان. فقد تولّت «دارُ الآداب» التي يملِكها نشرَ مؤلفاتِ جان بول سارتر، وألبير كامو، وسيمون دو بوفوار، بالعربية. وحملتْ مجلةُ «الآداب» (الصادرة عنها) لواءَ الدعوةِ إلى الوجودية، وإلى مبدأِ الالتزامِ المتفرع منها. هذا فضلا عن الروايات التي وضعها سهيل إدريس والتي تعبّر عن هذا الاتجاه، ومنها «الحيّ اللاتيني» و«الخندق الغميق» و«أصابعنا التي تحترق».
ولعلّ أبرزَ ما في رواية التمرّدِ الوجودية في لبنان دخولُ المرأةِ إليها من الباب الواسـع. فقد نشرت ليلى بعلبكي روايةَ «أنا أحيا» عام 1958، وهي روايةٌ جريئة حيّة فتيّة تكشف عمقَ الإحساسِ الوجودي لدى شابةٍ لم تكنْ قد بلغتِ الثامنةَ عشرةَ من العمر. وها هي تصرُخ بلسان جيلها، أمام جمهورِ «الندوة اللبنانية»: «كلُّ ما على الأرض لا يمثِّلنا لأنه من صنعِ غيرِنا». وقد فاجأت بعلبكي بهذه الرواية مألوفَ قرّاء الروايات النسوية.
إذْ تقدّمتْ مكشوفةَ الوجه تريد أن ينظرَ الرجل إليها كإنسانٍ لا كأنثى، وتريدُه أن يحاورَها لا أن يُملي عليها ما تفعل، لأن الحوارَ يعني نهايةَ التمييز الجندري. وهذا التمرّدُ الذي بدأتْه ليلى بعلبكي ظهرَ في رواياتٍ نسوية كثيرة، ومنها روايتا منى جبور («فتاة تافهة»، و«الغربان والمسوح البيضاء»).
وقد ساهم الاتجاه الوجودي في نضج الروايةُ اللبنانية، ومنه انطلق أحدُ أهم الأعمال الروائية العربية وأعمقِها، أعني ثلاثيةُ يوسف حبشي الأشقر («أربعةُ أ حمر»، «لا تنبتُ جذور في السماء»، «الظلّ والصدى»). وتدور هذه الثلاثيةُ على موضوعِ الذاتِ في علاقتِها بالحبّ والحرية والإيمان والغفرانِ والمال والعقائدِ والكتابةِ والحربِ والله.
أما الاتجاهُ العبثيّ فأبرزُ أعلامِه فؤاد كنعان الذي يَطيبُ له، مثلُ هنري ميللر، أن يرويَ للناس مخازيَهم وخيباتِهم. فقد واجه كنعانُ الإنسانَ في علاقاته بمؤسسات المجتمع. وتوقّف خصوصاً عند تلك التي يحيطها الناسُ بهالةٍ من الجِدّية والوقار، فصوّرَ أفرادها في مباذلهم، وبيّن التناقضَ بين الظاهر والمستور. واختار شخصياته، بل ضحاياه، غالبا من رجالِ الدين ليكشِف كمْ يُخفي الثوبُ من تفاهات الحياة. ولكنه لم يرمِ إلى إدانة الأفراد، بل أراد أن يدلّل على فشلِ الإنسان في إقامة مجتمع القِيم، وعجزِه عن مقاومةِ الطبيعة في جسده ورغباتِ نفسه. غير أنّ المواجهةَ الحقيقيةَ التي خاضها كنعان هي مواجهةُ الذات، فقد شغلته مأساةُ الإنسان المثقل بعبثِ الوجود والمهدَّد دائما بالموتِ الذي يفرض نفسه كأن لا حقيقة سواه.
ومثلما كانت الحرب العالمية الثانية سبباً للتأمّل في عبَثِ الإنسان، كانتِ الحربُ في لبنان عام 1975 سبباً للخوف على الوجود. لهذا تحوّل الكتّابُ إلى الحرب اللبنانية يكتبون روايتَها، بل يكتبون روايتَهم فيها. فإذا نحن أمامَ نتاجٍ بلغَ من السَعَةِ والجَوْدةِ واختلاف الأساليب مبلغاً كبيراً. ويكفي أنْ نُلقي نظرةً على رواياتِ الحربِ هذه لنكتشفَ كمِ اختلفتْ ذاكرةُ الحربِ عند اللبنانيين باختلاف مواقعِهم الجغرافيةِ والسياسية، وكمْ تشابهتْ أحاسيسُهم وردود أفعالهم بعد ضياع العمرانِ والسلامِ والأحلام. ولا شكّ في أنّ الروايات التي كُتبت تحت وطأة المعاركِ والاقتلاع كانت أشدَّ ميلاً إلى تصوير الحدثِ والانفعال به، بينما تمكنتِ الرواياتُ الأخرى من تمثّل الأحداث وصَهرها في حرارةِ الأعماق حيث الأنا والآخرُ في لبنان وجهان لإنسانٍ واحدِ حاملٍ إرثَ مئات السنين من التناقضات.
كان علي، لأستكمل الحديث عن «لبنان في قلب الثقافة العربية»، أن أكتب أيضا عن القِصّة القصيرة، والمقالة الأدبية، والنصوص المسرحية، والحركة النقدية، وأن أكتب عن مساهمة لبنان في الثقافة العربية من خلال جاليته في مصر التي أسست الصحف والمجلات، ومنها مجلة الهلال، وعزّزت المسرح المصري بما ترجمت له من مسرحيات. وكان عليّ أن أكتب عن مساهمة لبنان في الثقافة العربية من خلال جاليته في أميركا الشمالية التي انكبّت على تحديث النقد والشعر ولغة الأدب وأساليبه، الخ. وما زال اللبنانيون حيث هاجروا يحملون هذا الشغف باللغة العربية وبالثقافة العربية بدليل هذه الحركات الثقافية التي تنشأ وتنمو حيث هاجروا وأقاموا من بلاد العالم.
كان عليّ أن أكتب عن كل ذلك وعن سواه أيضا، غير أن التزامي بالمساحة المخصصة لي يعني احترامي لمساحات الآخرين. وإني لحريصٌ على ذلك.