إنها فلسفة وسحر الخريف، تدعو للتأمل والتفكير، يجمع بين المتناقضات، الموت والحياة، الذبول والنضج، الصراحة والغموض، يقول محمود درويش في قصيدة الخريف:
أحب الخريف وظل المعاني، ويعجبني
في الخريف غموض خفيف، شفيف المناديل.
ذبول أوراق الشجر والبراعم، ُينبئ بنضج الثمار، إنها رحلة انتقالية عبر الزمن من الاضمحلال إلى الخلق والتجديد، إنه الموت الجميل الباعث على التفاؤل واستقبال الحياة والبعث الجديد، وسبحان من يُخرج الحي من الميت.
يقول الشاعر الإنجليزي وليام بليك في قصيدته "قصيدة الخريف":
يا خريفًا، محملًا بالفاكهة، وملطخًا
بدم العنب، لا تمر، يا سيدي
تحت سقفي المظلل، هناك يمكنك أن تستريح،
وأضبط صوتك البهيج على مزماري الطازج.
يرسم الخريف بتلقائية لوحة فنية رائعة، جمال الطبيعة المتلألئ في كل مكان، أوراق الأشجار الناشفة ذات اللون الذهبي، الطيور والفراشات المهاجرة، السحب الخفيفة وبشائر المطر.
يقول الكاتب والقاص والروائي الأمريكي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد في كتابه جاتسبي العظيم
The Great Gatsby)) :
"تبدأ الحياة من جديد عندما يصبح الطقس باردًا في الخريف".
وقديمًا استعملت اللغة العربية كلمة ربيع بمعنى الخريف وأشارت إلى أنه موسم جمع المحاصيل والثمار.
وكتب البير كامو: الخريف هو ربيع ثانٍ حيث تكون كل ورقة شجر بمثابة زهرة.
وأطلق الشاعر الإنجليزي جون كيتس على الخريف: موسم الضباب والإثمار.
وتقول الأسطورة اليونانية القديمة إن هاديس خطف برسيفوني ابنه ربة الزراعة والحصاد ديميتر وحبسها معه لتكون ملكة العالم السفلى، أخذت أمها تجوب الأرض باحثة عنها، وهى تبكى حزنًا لفراقها، وتسبب غضبها في موت جميع المحاصيل على الأرض، وحدوث مجاعة، تدخل زيوس كبير الألهة من أجل حل هذه الأزمة، حتى وافق هاديس على إعادتها شرط أن تكون معه في وقت معين من العام، فكانت الفترة التي تقضيها برسيفوني مع أمها هي فترة الحصاد والمحاصيل والإزهار والفترة التي تقضيها مع هاديس هي فترة الجفاف والذبول.
ومن الطريف ما ذُكر في مجلة أبحاث الشيخوخة أن الأطفال المولودين في أشهر الخريف يعيشون عمرًا أكبر من أولئك الذين ولدوا خلال بقية أشهر السنة.
متى يبدأ الخريف في مصر؟
الخريف هو الفصل الثالث من الفصول الأربعة على الأرض، ويُعرَّف بأنه الانتقال من الصيف إلى الشتاء، ولأن مصر تقع في نصف الكرة الأرضية الشمالي، لذا يوجد تاريخان منفصلان يمثلان بداية الخريف.
يُحدد الأول من خلال محور الأرض ومدارها حول الشمس، أما الثاني فهو تاريخ ثابت يستخدمه خبراء الأرصاد الجوية حسب التباعد المتسق وطول الفصول.
يُدعى الأول الخريف الفلكي:
ويشير اليوم الأول إلى محور الأرض ومدارها حول الشمس، ويبدأ في 23 سبتمبر وينتهي في 22 ديسمبر.
أما الثاني هو الخريف المناخي:
حيث تُشتق الفصول المناخية من تقسيم السنة إلى أربع فترات، تتكون كل منها من ثلاثة أشهر، وتنقسم هذه الفصول لتتزامن مع التقويم الجريجوري، مما يُسهل المراقبة والتنبؤ المناخي ومقارنة الإحصائيات الموسمية والشهرية. ووفقًا للتقويم المناخي، يكون اليوم الأول من الخريف دائمًا هو 1 سبتمبر؛ وينتهي في 30 نوفمبر.
اعتدالان (الربيع والخريف) وانقلابان (الصيف والشتاء):
يتميز الاعتدال الخريفي بكون الليل والنهار متساويين تقريبًا في الطول وبشكل تدريجي ومتزايد يصبح الليل أطول من النهار، ويستمر على هذا المنوال حتى يأتي الانقلاب الشتوي، ويمثل هذا الوقت من العام الذي تبدأ فيه نصف الكرة الشمالي في الابتعاد عن الشمس، مما يؤدي إلى انخفاض ضوئها المباشر وبالتالي انخفاض درجات الحرارة.
ما سر التغيرات الكيميائية التي تحدث لأوراق الأشجار في الخريف؟
من أكثر علامات الخريف المدهشة التحولات التي تطرأ على أوراق الأشجار، استعدادًا لأيام الشتاء، حيث لا يوجد ضوء كافٍ لحدوث عملية التمثيل الضوئي، نتيجة لقصر ساعات النهار، وقلة الضوء نتيجة تباعد الأرض عن الشمس، تبدأ الأشجار في إغلاق أنظمة إنتاج الغذاء وتقليل كمية الكلوروفيل الذي يعطيها اللون الأخضر، ومع تدهورها تبرز مواد كيميائية أخرى، هي المسؤولة عن اللون الكهرماني النابض بالحياة واللونان الأحمر والأصفر والبني، تلك الألوان التي تظهر في الخريف، وهي أنواع من الفلافونويد والكاروتينات والأنثوسيانين.
وجدير بالذكر أن بعضًا من هذه المواد الكيميائية هي نفس المواد التي تعطي الجزر (بيتا كاروتين) وصفار البيض (لوتين) اللونين البرتقالي والأصفر.
إذن تفقد الأشجار أوراقها في الخريف لأن كمية الضوء الطبيعي التي يمكنها الحصول عليها من الشمس تقل، وهذا يتسبب في فقدان أوراق الأشجار للكلوروفيل، وهو صبغة موجودة في جميع النباتات، ضرورية لعملية التمثيل الضوئي، مما يتسبب في تحول أوراق الأشجار إلى اللون البرتقالي أو الأصفر أو البني، وتغير لون الأوراق الأخضر النابض بالحياة، الذي نراه في الربيع والصيف، ثم تبدأ هذه الأوراق في التساقط من الأشجار وتموت في النهاية، لتصبح الشجرة خاملة طوال الشتاء في انتظار الحرارة المتزايدة وضوء الربيع قبل أن تبدأ في النمو مرة أخرى.
والمعروف أن بعض الأشجار تفقد أوراقها دونًا عن الأخرى، وتسمى الأشجار المتساقطة الأوراق،
ومن أمثلتها: أشجار البلوط والزان والقيقب.
وهناك البعض الآخر من الأشجار التي لا تفقد أوراقها خلال الخريف أو الشتاء، وتسمى الأشجار الصنوبرية، مثل: أشجار الصنوبر والأرز والتنوب.
مهرجان موسم الحصاد
تُعد أشهر الخريف في نصف الكرة الشمالي، هي وقت موسم أو مهرجان الحصاد، تصبح المحاصيل جاهزة لحصادها، مثل التفاح والطماطم والجزر والبنجر والقرع والقمح والذرة وغيرها، وتعتبر فترة انتقالية، يتم الاحتفال بها من خلال الطقوس والمهرجانات منذ العصور القديمة.
كان هناك مثلًا مهرجان سامهاين، وهو مهرجان احتفلَ بهِ الكلتيون القدماء في أيرلندا، يتوافق موعده مع منتصف الاعتدال الخريفي والانقلاب الشتوي، يبداُ عندَ الغسق في ٣١ من أكتوبر ويستمرُ لثلاثة أيام وكان يُحتفل به في القرن التاسع تقديرًا لأيام الخريف القصيرة واستقبال الأشهر الأكثر برودة.
وفي العصر الحديث نقلت الكنيسة الكاثوليكية مهرجان عيد جميع القديسين إلى نفس الوقت، الأول من نوفمبر، وبمرور الوقت، اندمج هذان الاحتفالان في أكثر تقاليد الخريف الحديثة شهرة وشعبية: عيد الهالوين، وأصبحنا نتعرف اليوم على الخريف من خلال صفاته الرئيسية مثل تغير الطقس، وتحول أوراق الأشجار إلى اللون البني وكذلك من خلال الاحتفالات الموسمية مثل عيد الهالوين وعيد الشكر الأمريكي.
وفي الصين يُعد الاعتدال الخريفي مهرجانًا للقمر، ويعرف بمهرجان منتصف الخريف، ويعود تاريخه إلى قبل أكثر من 3000 سنة، يتم الاحتفال به، حيث يحمل الفلاحون المصابيح، ويحرقون البخور، ويضعون قشور فاكهة البوملي على رؤوسهم، ويجمعون الكستناء الطازجة من أشجارها، التي يستخدمونها منذ عدة قرون في الألعاب والمسابقات، يأكلون كعكة القمر، ويقومون بغرس أشجار منتصف الخريف، ويُحتفل به أيضًا في فيتنام وكوريا واليابان، ولكن تختلف طقوس الاحتفال من بلد إلى آخر، أما في ماليزيا وسنغافورة والفلبين يطلق عليه مهرجان المصابيح أو مهرجان كعك القمر.
اكتئاب الخريف :
(Autumn Depression)
هو حالة من الاضطراب العاطفي الموسمي، تحدث مع حلول فصل الخريف، واقتراب فصل الشتاء، يشعر البعض بنوع من الاضطرابات النفسية، والقلق، والتقلبات المزاجية، يؤثر على الحياة اليومية، بما في ذلك المشاعر، والتفكير، والقدرة على ممارسة الأنشطة اليومية المعتادة، ويعزى ذلك إلى قصر ساعات النهار، وطول ساعات الليالي، وزيادة برودة الطقس، لأن ضوء الشمس يساعد على تنظيم مستويات السيروتونين وهو مادة كيميائية مرتبطة بمسارات الدماغ التي تُنظم الحالة المزاجية، ويسمى أيضًا هرمون السعادة، ويتحكم ضوء الشمس في مادة الميلاتونين المعروفة بهرمون الظلام، تفرزه الغدة الصنوبرية في الدماغ استجابة للظلام، وتبلغ ذروته في منتصف الليل، يزيد مستواه في الدم مما يؤدي إلى شعور بعض الأشخاص بالوخم والخمول والإحساس الدائم بالنعاس.
يصاحب اكتئاب الخريف العديد من الأعراض منها القلق، والحزن، والشعور بالتعب الشديد وانخفاض الطاقة، عدم القدرة على التركيز، الرغبة الشديدة في تناول الكربوهيدرات وزيادة الوزن، مشاعر اليأس أو انعدام القيمة، الرغبة الشديدة بالوحدة والعزلة، انخفاض الدافع الجنسي، بالإضافة إلى فقدان الاهتمام بالأنشطة المعتادة، بما في ذلك الانسحاب من الأنشطة الاجتماعية، وكثرة النوم، وصعوبة في الاستيقاظ، وأخيرًا التفكير في الموت أو الانتحار.
أمراض أخرى في فصل الخريف:
بالإضافة إلى اكتئاب الخريف يجب الحذر من نزلات البرد والإنفلونزا، حساسية الأنف، التهابات الملتحمة التي تؤدي إلى تورم العين واحمرارها مع كثرة إفرازاتها، وأيضا حمى القش، حيث يعاني بعض الأشخاص من سيلان الأنف وإحمرار العين وحكة الجلد والإرهاق الدائم.
وفي حين يعتقد بعض الناس أن الخريف نهاية أكثر من كونه بداية، يرى آخرون أنه بداية جديدة، تفسح فيه الأوراق القديمة مكانًا لأخرى أكثر نضرة واخضرارًا، ورغم أن الأشجار تفقد أوراقها، ويشير فيه الحصاد إلى نهاية موسم الحبوب، فإن هذه "النهاية" المزعومة تفسح المجال في الواقع لبدء الدورة من جديد.
يذكر الكاتب والشاعر والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو في مقاله الظلال الخريفية:
"الأوراق المتساقطة في جميع أنحاء الغابة تحمي جذور نباتاتي".
إن تساقط الأوراق وتحللها يساعد في بناء التربة وتقوية النباتات. وبهذا المعنى، فإن الأوراق المتساقطة ليست نهاية، بل استشراف لمستقبل جديد.
أيضًا في الخريف يعتدل الطقس الحار، ويصبح أكثر برودة، وتتجمل الطبيعة بسحر الألوان البديعة، وتنشط السياحة الزراعية الخريفية، تتزين الحقول بالثمار الناضجة، وتُقام المهرجانات المبهجة، وتكثر الأعياد في البلدان المختلفة من العالم.
تقول جورج إليوت وهو الاسم المستعار للشاعرة والروائية والصحفية والمترجمة ماري آن إيفانز:
أليس هذا يوم خريف حقيقيا؟ إنه الحزن الهادئ الذي أحبه والذي يجعل الحياة والطبيعة متناغمتين. تتشاور الطيور بشأن هجراتها، وترتدي الأشجار ألوانًا محمومة أو شاحبة من الاضمحلال، وتبدأ في نثر أوراقها الجافة على الأرض، حتى لا تزعج خطوات المرء هدوء الأرض والهواء، بينما تمنحنا رائحة هي المسكن المثالي للروح المضطربة."