الخريف في الطبيعة والحياة غيره لدى الأدباء والمفكرين.. خريف عادى وطبيعى يمر بنا سنويا وخريف آخر ثقافى وفكرى.
في الحياة ينتظر معظمنا الخريف بفارغ الصبر، لأنه يعنى الخروج من جهنم الصيف؛ تحديدا شهر أغسطس؛ حيث درجات الحرارة مرتفعة؛ بما يهدد المزاج والصحة؛ ولا يجدى معها جهاز تكييف ولا مروحة؛ كما لا يجدى كذلك الذهاب إلى الساحل؛ الشمالى أو الجنوبى.. الرطوبة المرتفعة تزيد الجو لزوجة وتخنق الأنفاس.. لذا فإنه مع شهر أغسطس نعد الأيام والساعات؛ في انتظار الحادى والعشرين من سبتمبر؛ لتنكسر موجات الحر وتتراجع الرطوبة؛ وهكذا نتخلص من كوابيس العرق وأمراض الصيف؛ التي تراجع معظمها الآن بفضل الرعاية الصحية والطبية؛ لم يعد أطفالنا يصابون، كما كنا نحن- بحمو النيل مثلاً وما يرافق ذلك من آلام وأوجاع.
مع الخريف نتخلص من كل ذلك؛ تتراجع الحرارة؛ تهل النسمات، حالة من الاعتدال تبعث على الهدوء والسكينة.
في الريف وفى البيئات الصحراوية؛ الخريف هو رمز الخير والعطاء؛ فى شهر أكتوبر جنى القطن؛ بكل ما يرمز إليه من معانى الثراء من جانب وحل أزمات الفقراء المالية؛ وفضلا عن ذلك هو فال خير لمصانع الحلج والغزل والنسيج والزيوت أيضا، نعرف أن كثير من الزيجات والارتباطات كانت تؤجل إلى موسم جنى القطن والحصاد.. الخريف كذلك موسم نضج الكثير من الفواكه؛ خاصة النخيل والتمور بكافة أنواعها؛ لدا لم يكن غريبا أن تجد التعريف التالى في لسان العرب للخريف.. سمى خريفا لأنه تخرف فيه الثمار، أي تجنى.. ونقرأ كذلك.. الخريف أول ما يبدأ من المطر في إقبال الشتاء، روى عن الإمام الأعظم أبو حنيفة النعان قوله "ليس الخريف في الأصل باسم الفصل وإنما هو اسم مطر القيظ".
بهذا المعنى الخريف هو رمز الخير والنماء؛ نعرف أن المطر في كل الأعوام خير وبركة من السماء، فى المطر حياة.
وفى حياتنا المعاصرة؛ يبدأ العام الدراسى في الخريف؛ نهاية شهر سبتمبر أو مطلع أكتوبر، أحيانا العام الدراسى يعنى العودة إلى النظام والانضباط؛ فضلا عن التحصيل العلمى الذى يتعطل في الصيف؛ باسم الاجازة.. العام الدراسى يعنى بداية الاقبال على الحياة؛ والسعى نحو المستقبل؛ يحق لنا أن نعتبر الصيف من هذه الناحية؛ قريبا من الفوضى وعدم انتظام المواعيد؛ لا فى الاستيقاظ ولا في النوم.. ولا في كثير من الأمور؛ بعكس الخريف؛ الذى يعيد الانضباط إلى حياة الملايين حول العالم من الصبية والشبان.
بدايات العام الدراسى تختلف عن وسطه حيث امتحانات الترم وعن نهايته حيث المناخ التعليمى والعلمى يمتلئ بالتوتر وبالقلق؛ فى البداية إقبال وتفاؤل..العرب اعتبروا الخريف فصل "تخزن فيه الثمار؛ أما اليابانيون فيحتفلون بمقدمه ويعتبرونه مناسبة لتقديم واجب الاحترام لأرواح من سبقوهم.. الصينيون يحتفلون كذلك بالخريف؛ باختصار نحن لسنا بإزاء فصل عابر أو جسر وقنطرة بين الصيف والشتاء.. الزمهرير والجليد..
على المستوى الأدبى والفكرى، الأمر معكوس تماما هناك إنكار وتجاهل للخريف حينا، وحين آخر يصبح مرادفاً للنهايات وللانهيار والاقتراب من الموت أو العدم.. وبينما يصبح الربيع في الشعر والأدب والفكر هو كل شيء ومعنى جميل وسعيد؛ يتخذ الخريف الوصف المناقض تماما..
الشاعر مأمون الشناوى اختص الربيع بقصيدة غناها الفنان فريد الأطرش؛ ذكر فيها الربيع والشتاء؛ لكن لا ذكر للخريف بالمرة وكأن السنة بلا خريف. وفى الشعر العربى يحظى الربيع بالكثير. من الاشادات والإشارات؛ درسنا جميعا ونحن صغار "أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا".. كانت ضمن المقررات الدراسية.
في الرواية تواجهنا رائعة ماركيز "خريف البطريرك" التي ترجمت إلى العربية؛ وصدرت منها عدة طبعات في مختلف الدول العربية؛ هنا الخريف رمز اليأس والعجز، النهاية المتوقعة لذلك المتحكم فى حياة المواطنين، نجيب محفوظ؛ قدم لنا "السمان والخريف" وتحولت إلى فيلم سينمائى ناجح؛ لعب بطولته محمود مرسى وعبد الله غيث؛ الرواية عن نهاية النظام الملكى ومعاناة رجاله في التأقلم والتعايش مع واقع ما بعد ثورة 23 يوليو 1952؛ الخريف هنا رمز للنظام الملكى الذى إنهار وسقط.. ماركيز ومحفوظ نال كل منهما جائزة نوبل في الآداب.
الفيلسوف الراحل د. عبد الرحمن بدوى؛ تناول الفلسفة اليونانية في بداية حياته الفكرية؛ أربعينيات القرن الماضى؛ فوضع كتابين؛ الأولى عن ازدهار وعظمة تلك الفلسفة حيث سقراط وتلميذه افلاطون ثم أرسطو "المعلم الأول"؛ هذا الجزء منحه عنوان "ربيع الفكر اليوناني" .. الكتاب الثانى يرصد تراجع تلك الفلسفة.. وذبولها أو دخول مرحلة الموات؛ أطلق عليه "خريف الفكر اليوناني". هنا الزمن الفكرى والفلسفى ليس فيه سوى الربيع والخريف؛ كل منها في وضع أو مكانة ضد مكانة الآخر..
في السياسة الأمور أشد اتضاحا؛ الصحفى الأشهر في زمنه محمد حسنين هيكل؛ وضع كتابا عن الرئيس الراحل أنور السادات؛ بعد اغتياله؛ الكتاب كان حاداً في انتقاد السادات؛ لنقل هجاء السادات وهذا مفهوم بحكم العلاقة بين الرجلين والتي انقلبت من الصداقة والاقتراب الشديد؛ حتى مطلع سنة 1974؛ ثم تحولت إلى عداء شديد بينهما؛ انتهت بأن وضعه السادات في السجن؛ يوم 5 سبتمبر سنة 1981.
حقق الكتاب وقت صدوره نجاحا تجاريا كبيرا؛ صدرت منه عشرات الطبعات باللغة العربية؛ وضع الكتاب أصلاً باللغة الإنجليزية؛ وكان عنوانه "خريف الغضب" كلنا نعرف أن ذلك الخريف سنة 1981؛ شهد عملية اغتيال السادات يوم السادس من أكتوبر في العرض العسكرى. هنا استعمل هيكل "الخريف" كمؤشر على كل ذلك؛ النهاية المأساوية لرجل عظيم.. الاغتيال.
في القاموس الصحفى؛ سوف نجد "الربيع" دائما يطلق على ما يراه الكاتب إيجابيا ومزدهرا مثلا "ربيع براغ" رمز لمحاولة التمرد سنة 1968 في مدينة براغ على الحزب والنظام الشيوعى؛ رغم أن المحاولة ثم قمعها بشدة وفشلت، فضلا عن أنهت لم تكن فى الربيع.
وحين تولى الرئيس بشار الأسد رئاسة سوريا سنة 2000 خلفا لوالده الرئيس الراحل حافظ الأسد؛ أتخذ بعض الخطوات الإصلاحية وراح يتخلص ممن كان يطلق عليهم رجال "الحرس القديم" الذين عملوا مع والده؛ أطلقت منظمات حقوق الإنسان في العالم وفى منطقتنا على تلك التجربة "ربيع دمشق"؛ ثم أخذت الحياة مسارات أخرى، خاصة بعد سنة ٢٠١١ فى سوريا فنسيت تلك الجماعات موقفها الأول.. وسحبوا تعبير"ربيع دمشق".
وفى سنة 2010 قامت مظاهرات في مؤتمر آرت إلى استقالة الرئيس التونسى زين العابدين بن على في ديسمبر من السنة نفسها؛ ثم انتقلت الأحداث إلى مصر في يناير وفبراير ومنها إلى ليبيا وسوريا واليمن؛ الصحافة والسياسة الغربية اطلقت على تلك الموجة "الربيع العربى"؛ رغم أن التوقيت كان ذروة الشتاء، وإلى الآن رغم النتائج المأساوية لم يسحبوا التسمية، وإذا حدث الانهيار في أي وقت يطلق عليه الخريف.
بعيدا عن الصحافة والسياسة قد يكون الخريف منسيا لدى الكثيرين؛ ها هو ذا عميد الأدب العربى د. طه حسين؛ يخص الصيف بكتابين؛ الأول "من لغو الصيف" الثانى "في الصيف" وكل منهما مجموعة من المقالات؛ لكنه قرر مواجهة حر الصيف وما يجرى فيه بهذين الكتابين؛ لديه كذلك كتاب بديع هو "رحلة الربيع" ؛ الكتاب ليس عن فصل الربيع؛ لكن رحلة علمية إلى أوروبا؛ تصادف أنها كانت في الربيع؛ ومن خلال الرحلة وتناول وقائعها؛ توقف عند الربيع وذكرياته معه؛ خاصة سنوات الإقامة في باريس.. لكن لا شيء عن الخريف؛ يمكن الوقوف عنده..
يمكن للبعض أن يعتبر نجيب محفوظ وكذلك ماركيز أحتفى كل منهما بالخريف؛ حتى وإن كان بالمعنى سلبى من الناحية السياسية؛ لكن التوقف عنده والاشارة إليه؛ واعتباره عنوانا يعكس اهتماما وتقديرا خاصا.
بالنسبة لنجيب محفوظ يمكن أن نؤكد ذلك؛ لم يكن محفوظ يكتب خلال شهور الصيف؛ كان يذهب إلى الإسكندرية سنويا؛ وهكذا لم يكن الصيف فترة استقرار نفسى وذهنى يسمح بالكتابة؛ لكن في الخريف سنويا كان يبدأ برنامجه اليومى للكتابة؛ وقد يستمر ذلك البرنامج حتى الربيع؛ لكن البداية كانت دائما في الخريف. وهو عنده؛ كما يتضح في الرواية؛ بداية الحياة.
أحداث ثورة 1952 جرت في ذروة الصيف؛ تحرك الضباط الأحرار ليلة 23 يوليو ثم تنازل الملك فاروق عن العرش ومغادرة البلاد يوم 26 يوليو؛ قانون الإصلاح الزراعى الأولى في 9 سبتمبر من السنة نفسها؛ كل الوقائع في الصيف؛ لكن الرواية حملت عنوان الخريف..فقد استعاد بطل الرواية "عيسى الدباغ" نفسه وحياته من الضياع في الخريف .
نفس الأمر قد ينطبق على عميد الأدب العربى د.طه حسين؛ كان يقضى الصيف في أوروبا ويعود مطلع الخريف إلى مصر؛ شهر أكتوبر غالبا؛ ويبدأ في إملاء كتبه؛ كان عادة يؤرخ في نهاية كل كتاب للغة.. الشهور التي أملى على سكرتيره الكتاب خلالها؛ سوف نلاحظ في عدد غير قليل منها وليس كلها أنه كان يبدأ في الخريف؛ دعنا الآن من كتاباته للصحف؛ فهى مرتبطة بتوقيت طباعة المجلة أو الصحيفة؛ لذا كان يكتب المقالات طوال السنة؛ حتى وهو في الإجازة خارج البلاد.
عودة مجدداً إلى الواقع والتاريخ؛ فإن الخريف هو موسم الحصاد؛ ليس في المحاصيل والمنتجات الزراعية فقط؛ لكنه كان كذلك في أمور أخرى؛ أعمها على الاطلاق أننا حققنا انتصار أكتوبر العظيم سنة 1973؛ في الخريف؛ عبرنا القناة.. حطمنا خط بارليف.. ازلنا الساتر الترابى وكسرنا نظرية الأمن الإسرائيلي وجيشها الذى قيل إنه لا يقهر في التخطيط للحرب وجد المخططون أن الصيف ليس مواتيا للهجوم؛ لأسباب عديدة أهمها ما يتعلق بحركة المياه في القناة المد والجزر بها؛ الخريفى كان الأنسب لعملية الهجوم لا الصيف ولا الشتاء كانا ملائمين.
في الخريف كذلك؛ شهر أكتوبر سنة 1988؛ فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب؛ أول وآخر من نالها بين الأدباء العرب حتى الآن؛ وكأنه هو كان دائما على موعد مع الخريف.. بداية الكتابة سنويا والتكريم الدولى كذلك.