الأربعاء 13 نوفمبر 2024

مقالات

تحديات الترجمة في مصر

  • 6-11-2024 | 18:02
طباعة

هناك العديد من التحديات الماثلة أمام عالم الترجمة وأهلِها، لذك نتحدث هنا حديثَ المتفكر مع قرائه، لا الموجِّه لهم.

أما التحديات فأولها في ما أرى جودة التعليم؛ إذ لا تكاد تخلو جامعة عامة ولا خاصة ولا أهلية ولا أجنبية من هذا التخصص، أما مخرجات العملية التعليمية فمتباينة، بل لا أبالغ إن قلت: متباينةً أشدَّ التباين. وذلك لعواملَ من بينها التفاوتُ في الإمكانات والمقومات، واتباعُ معاييرِ الجودة وضوابطِها من عدمه، وجودةُ إدارةِ المؤسسة التعليمية، ووجودُ معاملَ متخصصة، إلى غير ذلك مما لا يخفى.

وكي لا تكون هذه الأكتوبة محضَ اجتماعٍ للتباكي أو التشاكي، فسأسوق مقترحًا أو أكثرَ لتذليل كل تحدٍ أقف عليه. والمقترحُ لتذليل هذا التحدي هو وجود معيار ضابط جامع، لا على المستوى المؤسسي فحسب، بل على المستوى الوطني كذلك، مقترنًا بآليات التمكين والمتابعة اللازمة.

أما التحدي الثاني فوثيق الصلة بالتحدي الأول، فكم من مؤسسة تُقدِّم مساقاتٍ أو برامجَ في مجال الترجمة لكن يعوزها التدريب.. والتدريب بعضه شفهي وبعضه تحريري، والشفهي مراتب وأنواع وألوان، ولهذا ارتباطُه بوجودِ المتخصصين في هيئة التدريس إلى جانب توافر الإمكانات والمقومات. والحل المقترح لتذليل هذا التحدي هو النهج العلمي المتمثل في تدريب المدربين قبل المتدربين حيثما لزم ومتى وجب، علاوة على توفير البيئة التدريبية المناسبة وتخصيص الساعات الوافية لها.

وأما التحدي الثالث فمتعلق بالأعداد؛ إذ إن الإسراف في أعداد المقبولين في برامج تعليم الألسن أو الترجمة قد عاد بالضُّر على الجميع، على المؤسسة والدارس والأستاذ، ثم على الوطن الذي يرتجي تخريج مؤهَلين ذوي تخصصات نافعة، لا تحويلَ الكليات إلى أرحامٍ دافعة! والحل المقترح هاهنا هو ضبط أعداد المقبولين في تلك البرامج وفق ضوابطَ علمية عالمية لا مجال فيها للتعلل بمجموع مكتسَب، أو غنيمة تُرتَقَب، أو تنافس يُجْتَلَب.

وأما التحدي الرابع فيتمثل في انتشارِ أماكنَ متخصصةٍ وغير متخصصةٍ، مرخصة وغير مرخصة، على مستوى التعليم والتدريب والتأهيل في مجال الألسن والترجمة، بل إن بعضها يقوم على شأنه طلابٌ لمَّا يتخرجوا، أو أدعياءُ لمّا يتدربوا، أو طلابُ مالٍ لم يتورعوا. والحل المقترح لذلك وجودُ ضوابطَ صارمةٍ على المستوى الوطني لافتتاح تلك المنافذ، وتقييد استصدار الأختام والاعتمادات إلا للمستحقين ذوي الأوضاع القانونية السليمة؛ مع النأي بمجالات الألسن والترجمة عن الدراسة لسنتين فحسب – أو ما نسميه التعليمَ المتوسط.

وأما التحدي الخامس فيتمثل في تباين مستوى الدارسين المجتمعين للدرس في غرف الدراسة، وفي هذا تأخير للمتقدم وتقديم للمتأخر، وإرهاق للمعلم، وإرباك للمتعلِّم، وتضييع لوقت لا يعود. والحل المقترح هو التوسع في اختبارات القبول الصارمة المعايير، التي لا تراعي إلا الضوابطَ العلميةَ المحضة. غير أن البعض قد يقول: وما ذنب من تخرج في تعليم ثانوي فلم يحصّل الكفاية اللسانية كغيره ممن تهيأت له مسارات تعليمية أقوى؟! والجواب أنه يمكن التوسع في الحل كي يضم مسارًا يؤهل لارتياد كليات الألسن والترجمة منذ المرحلة الثانوية على الأقل... وهو ما يفرض قدرًا من التنسيق بين مؤسسات الدولة المعنية.

وأما التحدي السادس فيتمثل في الفصام الجزئي بين المقررات الدراسية واحتياجات سوق العمل، سواء على مستوى المعرفة البينية (كالدراية القانونية في مجال ترجمة الوثائق القانونية، والدراية الطبية في ترجمة الوثائق الطبية، وهكذا)... والحل المقترح لذلك هو توفير متطلبات التدريب كما سلف بيانه، على أن تتضمن -على سبيل الوجوب لا الاختيار- برمجياتِ الترجمة الحاسوبية، وتدريسَ مبادئَ عامة للمجالات التخصصية كي ما يتخرجَ الطلابُ على دراية بما يؤهلهم للتعامل مع الوثائق المتخصصة.

وأما التحدي السابع فيتمثل في موجة الذكاء الاصطناعي التي لا يمكن لأحد حتى الآن أن يجزم بمآلاتها ولا بآفاقها، غير أن المؤكدَ -مما شهدناه من نتائج الترجمة الآلية- أن هذا المجال آخذ في التوسع والترقي، وهو ما يعني تناقصًا محتملاً في فرص العمل بصفة ترجمان في المستقبل. والحل المقترح هو الشروع في تأهيل التراجم ليصبحوا ذوي خبرات لسانية حاسوبية كي تتسع فرصُهم في تغذية مجامع الذكاء الاصطناعي، فربما كانت "البرمجة اللسانية" مسارًا جديدًا يفتح لطلاب الترجمة آفاقًا وعوالمَ جديدة.

وأما التحدي الثامن فيمكن في عدم تنظيم سوق الترجمة في مصر، وكم يَحَزُ في نفسي ويشق على قلبي أن أجد بلدانًا علَّمْنا شعوبها الطيبةَ كل شيء، فإذا بها تسبقنا في هذا المجال... الحقيقةُ الساطعة أنه ليس كلُ من تخرج بعد دراسة اللغة أو الترجمة مؤهلاً ليكون مترجمًا... فلابُد من مرحلةِ اعتمادٍ رسمية عقب التخرج... والقضاءِ على فوضى ادعاءِ الاعتماد، وفوضى استصدارِ الأختام بلا رقيب ولا حسيب... فضبط هذا المجالِ من شأنه تهيئةُ بيئتِه لتكونَ جاذبةً للعملة الجيدة وطرد العملة الرديئة، واجتذابُ طالبي الخدمة من الداخل والخارج، وزيادةُ حصيلة الدولة من العملة الأجنبية بخدمات التعهيد والعمل الحر، وتحقيقُ ريادةٍ مستحقةٍ في هذا المجال، وتقنينُ أوضاعِ كُثُرٍ لا يجدون إلى ذلك سبيلاً، فضلاً عن انصباب مواد ضخمة للترجمة داخل الدولة بما يتاح معه نقلُ -ولو جانب بسيط- من تقنيات لا سبيل إلى امتلاكها إلا من هذا الباب، ودرءُ أبواب التحكيم المحلي والدولي المترتبة على أخطاء الترجمة، ونفيُ خبَث الترجمة المتمثل إما في ضعف الجودة أو في حالات النصب والاحتيال على المترجمين. ويضاف إلى ما سلف أن الاعتمادَ يعني وجودَ جهةٍ مرجعية جامعة لأهل الاختصاص، وهي أقرب ما تكون وصلاً بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي أو بوزارة العدل، أو بالاشتراك بينهما، نظرًا لاختصاصهما بالتأهيل وبالاعتماد. وبذلك يتسنى القضاءُ على فوضى التسعيرِ التي دفعت بدخلاءَ ومبتدئين إلى سوق الترجمة فباتوا يتقاضون مبالغَ زهيدةً حَرَمَت الكفايات العلمية الحقيقة، أصحابَ الأقلام الذهبية، من طلبِ مقابلٍ عادلٍ عن جهدِ الترجمة الجهيد.

وأما التحدي التاسع فهو النقص الملموس في بعض اللغات الحية الحيوية، لذا وجب على مؤسسات الدولة امتلاكُ قاعدةِ بيانات قوية في هذا الصدد، وافتتاحُ برامجَ جديدة على عجل لرأب الفجوة في هذا المجال... فلا يصح في بلد قيل فيه "الزمن شاب، وانتي شابة!" أن يوجد فيه عجز في أي تخصص... لا عذرَ ولا معذرة! والحل المقترح إجراءُ حصر شامل عاجل، وتنفيذُ الافتتاحات اللازمة بعد توفير المقومات المطلوبة.

وأما التحدي العاشر فيتمثل في أن جمهرةً من خريجي برامج الألسن والترجمة يحترفون مجالاتِ عملٍ عمادُهم فيها اللغة، لكنها بعيدة عن المجالات المعتادة لأمثالهم... ومن ذلك -أقولها عن علم، لا عن رجم بالغيب- السلك الدبلوماسي، وسلك التحكيم الدولي، وسلك العمل المصرفي، وسلك الحوسبة، وسلك الإعلام، وغيرها... فلم لا تتعاون كليات الجامعات فيما بينها لتحقيق هذا العبور بين التخصصات، بأن يوجد مسار دراسي عَجول يتيح لخريج هذا التخصص أن يبلغ مبلغ الإلمام أو الإجادة في مجال عمله الجديد ذي الصفة البينية المازجة بين العلوم؟

تلك عشرة كاملة... ومعها حلولها المقترحة. والغاية قهر التحديات التي تحول دون إطلاق الطاقات الكامنة لهذا الوطن.

وأزيدكم في باب المقترحات بابًا: إذ إنني أحلم بيوم يكون فيه للتراجم جهة اعتماد تختبرهم ثم تجيزهم، على أن يؤدي بعدها المعتمَدون يمين المترجم... وقد مكثت أفكر في اسمٍ لهذا اليمين، فيمين الأطباء -مثلاً- هو يمين أبقراط، ولجُل المهن والوظائف السامية يمين... فكيف لا يكون للمترجم يمين؟ هداني تفكيري بادئ الأمر إلى أن يسمى: يمين "المأمون" بحكم أن تاريخ العرب والعربية عرف أجلَّ عصور الترجمة وأجزلَ العطايا عنها في زمن الخليفة المأمون... لكن سَرعان ما استشعرت وخزة مصرية في قلبي تقول: يا ابنَ أقدمَ أمة في التاريخ... ما بالك نسيت حجرَ رشيد؟ فأسميت القسم في إحدى حفلات التخرج منذ عامين: "قسمُ رشيد". وإني لأرجو أن يجد هذا المقترح طريقًا إلى الإقرار والاعتماد قريبًا.

والأمل يحدونا لتذليل التحديات وقهر المستحيل؛ وكما قال الشاعر:

أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

د. أسامة محمد رسلان – مدرس الألسنة والترجمة، كلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر؛ ومشرف وحدة اللغة الإنجليزية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة