الخريف.. ذوالوجه المخيف المتسبب الأول لأوجاع الطبيعة يعاملها بقسوة فتتساقط أوراق أشجارها مرغمة، وتطيح بها الرياح بعيدا. ولم يرحم الخريف ضعفها ورقة ملمسها وجعلها ورقة جافة باهتة شاردة صامتة إلى أن طحنتها اقدام البشر.. رغم أنها الابنه الشرعية لهذه الأشجار فأصبحت لا تستطيع أن تبوح بأنها كانت يوما ما ورقة خضراء.
من الصعب أن يكون الخريف صديقا لكل البشر، لأنه يفعل بهم مثلما فعل بالطبيعة، فهو موسم المشاعر المتقلبة والتوتر والاكتئاب، ولكن .. مجرد الحديث عن الخريف إنه نهايات الأشياء كأن نقول " خريف العمر " أو "خريف الأشياء" نجده وصفا مضللا وظالما، لأن الخريف انبعاث جديد لجمال الطبيعة، وبكل حمولته التعبيرية الحزينة يعد صديقا ملهما للفنانين فى كل المجالات الإبداعية، منهم على سبيل المثال الفنان التشكيلى الذى يسجل بريشته جماليات الخريف والتغيرات المدهشة في الطبيعة حيثش تترك الأشجار بعضًا من أوراقها في استجابة للتغيرات المناخية، كما يمنح الفنان للخريف الحرية الكاملة أن يفعل بعقله وبقلبه وبفنه كما فعل بالأشجار.
خريف البدايات
فنان هولندى .. يقال أن ولادته جاءت بعد عام من اليوم الذى ولدت فيه أمه طفلا ميتا، وسمى أيضا بنفس اسم الطفل " فينسنت فان جوخ " (30 مارس 1850 ) شعر أنه ليس إلا طفلا بديلا، وظل يقتنص المحبة من أسرته، ورافقه الاكتئاب منذ صغره إلى أن مات منتحرا 29 يوليو 1890. قصة ولادته غير مؤكدة إلإ أنها متدوالة فى العديد من المصادر والمراجع وبعض النقاد أرجعوا بداية اكتئابه لهذه القصة.
ربما لأنه عاش منزويًا حياة بائسة وخيبات الحب والفقر والوحدة والوحشة بدون رفيق للدرب، وفشل في أن يكون له حبيبة وقضى نصف حياته فى أروقة المصحات العقلية.
ومن منطلق أن الفن سلاح مقاومة خلق لنفسه مجالا لتعبير عن ذاته، علم نفسه كيف يرسم، أستطاع أن يستخلص من حياته التعيسة لوحات إبداعية. ودعمه طوال حياته شقيقه الأصغر " ثيودورس " وكان يساعده ماليًا ويشترى له خامات الرسم، ويقدم له النصائح فيمَا يتعلق بفنه، ويخبره بكل جديد فى مجال الفن. وازداد حماس "فان خوخ " لتعلم الفن، فكان يجول بين المدن الأوروبية، للاستفادة من الفنانين التشكيليين، وتعلم فن التشريح واتقن تقنيات مختلفة، وأصبحت لوحاته تتزايد شيئا فشيئا. كان يرسم الفلاحين وعمال المناجم البؤساء مثله، وهذا نتيجة طبيعية لما مر به بحياته، وتمكن من إنتاج أولى لوحاته العظيمة وهي لوحة "أكلوا البطاطا"، التي أثبت بها انه ولد ليكون فنانا .
وفي آخر خمس سنوات من عمره رسم ما يفوق 800 لوحة زيتية انتجها فى حياتة القصيرة. قد يتطلب إنتاجها سنين طويلة، بالإضافة إلى مجموعات كبيرة من اللوحات بالألوان المائية، ورسم 43 بورتريه شخصيا. والعديد من الاسكتشات والرسوم التخطيطية كان يرفقها بالخطابات والرسائل التى كان يكتبها لشقيقه " ثيو ".
الخريف ملهما
انتقل "فان جوخ"1886 للإقامة مع أخيه "ثيو" في باريس، حيث كانت العاصمة الفرنسية في ذلك الوقت مركزا للفن في العالم، ومنبعا لمذهب الانطباعية، التى ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر فى فرنسا، دعا هذا المذهب الفنى لخروج الفنانين من المراسم المغلقة إلى الطبيعة باعتبارها الملهم الأول للإبداع، وأن يرسم الفنان قبل تغير موضع الشمس فى السماء وتسجيل الانطباع الأول للمشهد اعتمادا على نظريات الضوء. وتقابل فان جوخ بفرنسا مع رواد الانطباعية " بول جوجان "، "كلود مانية ". ورسم خلال إقامته بباريس أكثر من مائتي لوحة في سنتين.
لم يكن فان جوخ فنانا عاديا بل كان صاحب رؤية، كانَ العالمُ في نظرهِ مكتظا بالحزنِ ولكنَّه لم يفقد الثقة فى وجود السعادة التى يمكن للإنسان أن يجدها فى أبسط الأشياء. ولأنه عاش في الحقولِ معَ الناس الطيبين البسطاء فوجد بينهم السعادة والبهجة رغم ضيق الحال. وأصبحوا هؤلاء البسطاء أبطال لوحاته، والطبيعة بكل متغيراتها الموسمية بالأخص أجواء الخريف هى أقرب المواسم لتركيبته الشخصية وإلى فنه وألوانه.
كان فان جوخ يتجول فى الطبيعة يستنشق عطر ونسمات الخريف، ويرفع يده إلى أعلى ليمسك بخيوط الخريف التى يعتقد أنها خيوط ممتدة من السماء إلى الأرض. ويجلس ليرسم ويقتنص اللحظة الزمنية من الطبيعة: مثل شروق وغروب الشمس، الليل والقمر والنجوم التى تضىء ظلام السماء، والغيوم والرياح والعواصف، والضباب الذى يخفى عنا رؤية الأشياء .. وغيرها من ملامح وسمات المكان.
بنوعية الموضوعات التى عبر عنها أحدث فان جوخ ثورة فى عالم الفن، وأصبح صاحب مدرسة فنية يستخدم الألوان المتباينة مثل الأصفر والأزرق البرتقالى، وبصمة وخصوصية خاصة فى تقنية الأسلوب الفنى متمثلة فى: ضربات بالفرشاة سريعة محافظا على حالة الانطباع الأول، لدرجة أنه كان ينتهى من اللوحة فى اليوم نفسه ولا يعود للوحة مرة أخرى أو يضع لمسات إضافية بل كان يكتفي بالضّربة العفوية الأولى ليصل إلى مبتغاه. وهذه الضربة العفوية خصص لها نقاد الفن والباحثون العديد من الدراسات للكشف عن الدافع الذى يسكن خلفها.
لم يحاكى فان جوخ الطبيعة كما نراها بل عبر عنها بالبصيرة وليس البصر، وأصبحت المشاهد الطّبيعية صورة صادقة للواقع النفسى. تقنيته أن يعبر باللّون عن الفكرة محافظا على إشعاع الضوء فى مقابل مساحات العتمة. يضع الألوان على هيئة أشكال لولبية متقطعة تنقيطيّة انطباعية، يضعها بكثافة سميكة طبقات. أعطى الأولويّة للقوة التعبيريّة من خلال وضع اهتزازات بين العناصر، والمزج اللونى بين كل عناصر اللوحة وتلاشت الفواصل والحدود وكأن العناصر تخلقت وتوالدت من الألوان، لنرى المشهد بالكامل إيقاعات لونية متداخلة.
لقد أنتج مجموعة من الأعمال لنفس الموضوع وهو الطبيعة إلا أنه فى كل لوحة كأنه يرسم الطبيعة لأول مرة بنفس الشغف والشجن. عشق الزهور على اختلافها تنويعاتها ولكن اختص زهرة "عباد الشمس " بأكثر من لوحة، ورسم لوحات عن الريف، وحقول القمح، والمقهى الليلي معبرا عن رأيه فى فكرة المقهى وقال :" المقهى هو المكان الذي يمكن للمرء أن يدمر فيه نفسه أو يجن أو يرتكب جريمة ".
فكان يكره ثرثرة المقاهى بين البشر.
ولكل عنصر من عناص الطبيعة فلكل لوحاته معنى وقيمة ورمز: عباد الشمس رمز للفرح والبهجة ، والنجوم ترمز للنور القادم من السماء، أشجار "السرو" رمز للصمود والتحمل لأنها مهما أصيبت أوراقها بالجفاف سيأتى المطر وتنمو أوراق من جديد لتبشر بقدوم الربيع.
حملت العديد من لوحاته عنوان الخريف وأغلب اللوحات نجد الشجرة واقفة شامخة قوية مهما سقط أوراقها لا يجرؤ الخريف على اقتلاعها من جذورها منها: " يحيا الخريف " شجرة تقف وحيدة تبدو من ألوانها القاتمة أنها حزينة لما فعله الخريف بأوراقها . ولوحة " زقاق الحور " أو طريق أشجار الحور تعكس اللوحة الحزن والفرح فى مساحة واحدة فهذا هو الخريف المتناقض. نجد باللوحة طريق ممر محدودا يقع فى آخر الممر كوخ بسيط، الجزء العلوى من اللوحة السماء مشرقة بلونها الأزرق الفاتح، وأشجار الحور تقف بجانب بعضها تلقى بظلالها التى أرسلتها لها الشمس. إلا أن أوراق الشجرة بالأعلى أصابها الخريف وسلب منها خضرها ومنحها اللون البنى القاتم. الجزء الأسفل من اللوحة يبدو حزينا بوجود امرأة ترتدى ثوبا أسود وتمشى على الأوراق المتساقطة.
توت الخريف
كان يعانى من حالة توتر نفسى وحكى لشقيقه "ثيو" بأنه وهو يجلس في وحدته يسمع أصواتًا من حوله، وأحيانا يحاكي نفسه وكأن ذاته تنقسم إلى شخصيات كثيرة. وتدهورت حالته النفسية فى سنواته الأخيرة مما اضطر شقيقه "ثيو" نقله لمستشفى الأمراض العقلية .وظل تحت إشراف الأطباء، رغم منعه من الرسم لم يترك ريشته وألوانه وكتابة الرسائل لشقيقه " ثيو" كتب أكثر من 650 رسالة ضمت الرسائل رسومات تعبيرية واسكتشات للوحات نفذها قبل وفاته.
رسم أعظم لوحاته بالمستشفى، والتى تباع اليوم بأعلى سعر بقاعات المزادات العالمية. ومن مسيرة فان جوخ انتبه علماء النفس للعلاقة بين الفنون والمرض النفسى، وأصبح ببعض كليات الفنون قسم " العلاج بالفن" ويختص بتوظيف الفن لتخفيف شدة التوتر النفسى.
اللوحة التي أحبها فان جوخ لوحة " شجرة التوت فى الخريف " رسمها قبل عام من وفاته عندما كان يقيم في المصحة النفسية. رسم الشجرة الموجودة بحديقة المصحة، ليست مجرد تسجيل بصرى مطلق بل جاءت الألوان مضيئة نابضة بالحياة، ضربات فرشاة تعبر عن مشاعره العاطفية وتشير إلى عدم استقراره النفسى والعقلى. وتكمن أهمية لوحة " شجرة التوت فى الخريف " إنه كتب عنها ثلاث مرات فى رسائل لشقيقه " ثيو" وفى إحدى الرسائل وصفها بأنها أفضل لوحاته، وتحدث عن أن الخريف هو موسم كل المفارقات المتناقضة نهاية الأشياء وبداياتها القادمة. وأن رياح الخريف حتى وإن عصفت بأوراق الشجر الذهبية إلا أنها مازالت مسنودة على رفيقتها التى تمكنت من مقاومة هجمة الخريف وظلت بخضرها.
أنا خريف دائم
كان فان جوخ يدرك أنّ طبيعته الانفعالية تستطر على تصرفاته، وتظهر في أعماله، وهو لم يكن قادرًا على ترويض طبعه، وكان يرى أن هذا الانفعال مصدر قوته وربما ميزه. كتب فان جوخ :" يبدو أنى خريف دائم ، أعلم إنني رجل انفعالي، قادر على القيام بأفعال غير مسؤولة ومن دون أن أندم تمامًا عليها، فلم أر يوما أن ندم الخريف على أفعاله بالطبيعة ".
كما اهتم برسم بورتريهات لنفسه صور نفسه فى أوضاع وأمزجة نفسية، حيث كان فى صراع دائم مع الحياة وربما كان يبحث عن إجابات لسؤال الذى يؤرقه وهو من يكون فان جوخ..؟
قال عن نفسه فى رسائله : " من أنا في نظر الكثيرين ؟ نكرة، رجل متطرف ومقزز غريب الأطوار فليكن، وإن كان هذا صحيحا، أنا أريد لأعمالي أن تكون صورة لمشاعر وأحاسيس هذا النّكرة ".
برسالة آخرى: " ياعزيزى ثيو أنا اليوم رسمت صورتى الشخصية ففى كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي: أيها الوجه المكرر، يا وجه فان جوخ القبيح، لماذا لا تتجدد؟ أبصق فى المرآة وأخرج، واليوم قمت بتشكيل وجهى من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون" .
وبخطاب آخر : " ياعزيزى ثيو .. لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر .. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى".
شقيقه " ثيو" كان يرى أن فان جوخ إن لم يكن رساما سوف يكون أديبا كبيرا وكتابا وناقدا فنيا فهو على درجة عالية من الثقافة والمعرفة رغم عزلته بالمصحة النفسية. والكتابة كانت عزاؤه الوحيد فى الأيام التى لا يستطيع أن يرسم .
وفى آخر رسائله قبل انتحاره كتب: "اخى ثيو.. إلى أين تمضى الحياة بى؟ ما الذى يصنعه العقل بنا ؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، أشعر بالملل لولا ريشتى وألوانى، أعيد بها خلق الأشياء من جديد، كل الأشياء ستكون باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن ، ماذا أصنع وأنا فى قلب المأساة، ثمة ألوان وخطوط تسكنى ولا أعرف كيف أظهرها بلوحة .. وداعاً يا ثيو سأغادر نحو الربيع ."