ذكر لنا التاريح أن كل مشروع حضاري، وبناء مجتمع متقدم، ودولة قوية؛ كانت الترجمة من الحضارات والأمم المجاورة أو السابقة ركنا في ذلك المشروع الحضاري؛ فالإغريق نقلوا عن الفراعنة، والمسلمون نقلوا عن اليونانيين والرومان والفرس، وأما الأوروبيون فقد نقلوا عن المسلمين والكلام في ذلك كثير ومتوفر في كتابات علمية رصينة.
وفي عصرنا الحديث؛ عندما أراد محمد على بناء الدولة الحديثة العصرية؛ كانت الترجمة إحدى أهم أدواته في تأهيل العنصر البشري، ونقل التقدم الأوروبي إلى مصر، فعلاوة على اهتمامه بالترجمة في بداية عهده؛ اهتم بإعداد جيل من المصريين بإرسالهم إلى أوروبا للتخصص في العلوم المختلفة وكان رائدهم رفاعة رافع الطهطاوي وكان الضلع الثاني في مشروع محمد على للترجمة ترجمة الكتب التعليمية من اللغات الاوروبية إلى العربية أو التركية، كان طموح محمد على كبيرا في النهوض بالترجمة والتى لم يكن يجاريه أعداد المترجمين في مصر الذين كانت أعمال الترجمة تطغى على القيام بوظائفهم الأساسية، وسرعان ما أنشأ قلم الترجمة ثم مدرسة الألسن 1835 وعهد بإدارتها للطهطاوي واستطاعت المدرسة في عهده تخريج عشرات المترجمين، وقرأت مصر باللغة العربية على أيديهم العديد من الأعمال العلمية الأجنبية المتنوعة المعارف، وقاد هذا الجيل مشروع تحديث مصر ونالت من ثماره الأجيال التالية.
ورغم أن مشروع الترجمة ما بعد محمد على واجهته مصاعب؛ إلا أنه أصبح متواجدا ومتجذرا ومتوارثا يخفت أحيانا ويزدهر أحيانا أخرى مع كل حاكم يدرك قيمة الترجمة في بناء المشروع الحضاري لمصر وظهر ذلك واضحا وجليا في عهد حكام أمثال الخديو إسماعيل والملك فؤاد وجمال عبد الناصر ومن جاء بعدهم.
خلال تلك الفترة ظهرت على الساحة مشروعات تبنتها مؤسسات اهتمت بالترجمة كان من أهمها "لجنة التأليف والترجمة والنشر" و"اللجنة العليا لتشجيع الترجمة والتأليف" والسلاسل المترجمة التى أنشأتها مراقبة الشئون الثقافية في وزارة الإرشاد القومي ومشروعات الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية ولجنة البيان العربي ودار الكاتب العربي، ومشروعات المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية و"مشروع الألف كتاب" و"مشروع الألف كتاب الثاني" بالإضافة إلى جهود هيئات مثل دار الهلال ودار المعارف وهيئة الكتاب ودور النشر الخاصة ثم جاء المشروع القومي للترجمة وأخيرا المركز القومي للترجمة.
كان نتاج عمل تلك المؤسسات جهدا كبيرا، من الأعمال المترجمة، التي تنوعت موضوعاتها واللغات المترجمة منها، طبقا لخطط وضعها المسئولون عنها، وهى ولا شك قدمت للقارئ العربي عامة والمصري خاصة، روافد جديدة للمعرفة وأفادت جماعات متعددة في إشباع حاجاتهم العلمية، وساهمت في أحد جوانبها على إحداث حراك علمي وفكري.
إلا أن تلك المشروعات كانت تعبر عن سياسة من يقوم على إدارتها، ولم يكن هناك تناغم أو تنسيق بين كل الكيانات العاملة في مجال الترجمة؛ فالكثير منهم عمل منفردا ووحيدا وكثير من الأعمال تقاطعت وتكررت والكثير أيضا اهتم بمجالات محددة وترك مجالات أخرى كانت مصر في حاجة إليها؛ والبعض رغم إعلانه شمول مشروعه لكل ما يهم مصر، فإن القائمين على أمر المشروع انحازوا لتخصصاتهم على حساب التخصصات الأخرى، والكل ولا شك عانى من ضعف التمويل المادي، والجميع تركزت أعماله حول النقل من اللغات المشهورة وهجر لغات أخرى كان القارئ بالعربية في حاجة إلى أن ينهل من التقدم الذي أحدثه مجتمعها وعلى جانب آخر لم تهتم تلك الكيانات بنقل الإنتاج الفكري المصري إلى اللغات الأخرى، وظل الأمر على هذا الوضع حتى يومنا هذا.
إن أحد التقدير يوضح أن مصر منذ تسعينيات القرن العشرين قد أنفقت على ميزانيات الترجمة حتى عامنا هذا ما يقرب من مليار جنيه وأن العديد من الأعمال التي تمت ترجمتها ظلت حبيسة المخازن داخل الكيانات التي قامت بالترجمة ولم تصل إلى يد القارئ المصري، كما أن المركز القومي للترجمة الذي لم يقع عليه العبء الأكبر من أعمال الترجمة لم يتمكن منذ تسعينيات القرن العشرين حتى يومنا الحالي ترجمة 4000 كتاب في حين أن دول مثل أسبانيا وإيطاليا وحتى الكيان الصهيوني تترجم سنويا ما يقرب من 20000 كتاب سنويا وهو أمر يدعو إلى القلق والبحث عن حلول.
إن الأمر ونحن نطمح إلى بناء دولة قوية حديثة متقدمة نحتاج إلى إعادة النظر في مؤسسات ومشروعات الترجمة داخل مصر وإعادة صياغتها بما يتلائم مع طموحات وآمال الشعب المصري وبما يجري خارج مصر من تقدم متسارع يقفز بخطوات كبيرة ويوسع الفارق بيننا وبين الكثير من الدول بشكل كبير، وهناك بعض الأفكار التي يمكن أن تضع موضع التنفيذ إذا أردنا أن نتحرك كثيرا إلى الأمام في بناء دولتنا القوية على اسس من العلم والتقدم ومن حيث انتهى الآخرون متخدين الترجمة كإحدى أدوات مشروع التحديث المصري.
استراتيجية لإصلاح مؤسسات الترجمة في مصر:
لعل أهم الجوانب التي يمكن القيام بها لإصلاح مؤسسات ومشروعات الترجمة في مصر يمكن أن تكون على النحو التالي:
نقل تبعية المجلس القومي للترجمة لمجلس الوزراء:
إن نقل تبعية المجلس القومي للترجمة لمجلس الوزراء ليكون بمثابة بيت خبرة للحكومة المصرية في هذا المجال؛ كما تمنحه هذه التبعية المزيد من الصلاحيات ليهيمن على جميع مجالات الترجمة لكل التخصصات في الوزرارات والهيئات التابعة للحكومة المصرية، وهو أمر سوف يربط نشاط هذه المركز بخطط التنمية المصرية التي تنفذها الحكومة وما تحتاجه من معارف وأبحاث وأوراق علمية، يكون المركز قادرا على تقديمها باللغة العربية للقائمين على تنفيذ خطط التنمية المصرية، وهذا المركز يمكن أن يكون المكان الرئيسي لمنح "الترجمات القانونية" التي تحتاجها الجهات الخاصة والعامة في كل أعمالها، كما يجب أن يكون المظلة الجامعة لكل المراكز والوحدات العاملة في مجال الترجمة داخل الدولة المصرية، ووضع القواعد والشروط الواجب توفرها في كل مؤسسة ترغب في ممارسة نشاط الترجمة، ومنحها التراخيص لممارسة هذا العمل داخل مصر، ومراجعة أعمالها بشكل دوري، والتأكد بأنها تؤدي مهمتها طبقا للمعايير العلمية والادارية، حتى لا يفسد هذا المجال كل مستغل في ظل التوسع الكبير، في برامج الترجمة الآلية في إنتاج أعمال رديئة الترجمة.
إعادة هيكلة المجلس القومي للترجمة:
لعل من أهم الخطوات التي يجب اتخاذها بعد نقل تبعية المركز القومي للترجمة لمجلس الوزراء؛ إعادة هيكلة وتنويع اختصاصات مجلس الامناء ليمثل أعضاؤه مختلف التخصصات الأدبية والعلمية بكل فروعها، وتوضع آلية محايدة لاختيار الأعضاء من المتخصصين ذوي الخبرة في مجالاتهم وأن تقتصر مدة وجودهم في المجلس على فترة واحدة خمسة أعوام (مدة الخطة الخمسية العلمية للمركز)، وأن يضع مجلس الأمناء خطة عمل المجلس طبقا للخطط التنموية للدولة المصرية؛ وتتوافق مع الخطط طويلة الأمد وتشارك فيها الجامعات والمراكز البحثية والوزارات والهيئات المصرية وأن يضم المجلس إدارات حيوية طبقا لكل فروع المعرفة، تستقطب نوابغ خريجي الجامعات المصرية، وضرورة أن يكون من إدارات المركز أيضا إدارة للترجمة القانونية التي تقدم خدماتها لكل الراغبين بمقابل مادي ويكون جزءا من دعم ميزانية المركز.
التعاون مع الجامعات المصرية والمراكز البحثية:
إن الجامعات المصرية بمثابة ركن أصيل في عمل المركز القومي للترجمة فهي التي تمد المركز بكوادره المتخصصة للقيام بعمله وهو الذي يمدها بنتاجه العلمي المتنوع ليثرى عملية البحث العلمي داخل الجامعات والمراكز كما أن تلك الجامعات والمراكز البحثية لديها بعض الوحدات التي تخصصت في أعمال الترجمة التخصصية وتنسيق الأعمال بين تلك الجهات سيعود على مصر بالكثير من المنافع، ولا شك أن المشاركة مع الجامعات في الاتفاق على برامج تدريبية ومشروعات التخرج للطلاب وورش العمل في مجال الترجمة ستكون من الأعمال التي ستعود على مؤسسات الترجمة بكثير من الفوائد، والتعاون بين الجامعات والمركز القومي للترجمة مجاله كبير وواسع.
معرفة احتياجات المجتمع والدولة:
إن مشروع الدولة المصرية للانطلاق نحو مستقبل متميز له أبعاد واضحة ومحددات دقيقة سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو المجتمع ولكل هؤلاء احتياجاتهم من العلم والمعرفة في شتى فروع العلوم والآداب، التي لن تتوفر بغير طريق الترجمة وكثير من هذه الاحتياجات معروف وبعضها يحتاج إلى استبانة المجتمع والمؤسسات فيما تحتاجه لذا فإن التعرف على هذه الاحتياجات لابد وأن يتم من خلال آلية دقيقة ومستدامة وبشكل دوري؛ ليحققها المركز القومي للترجمة من خلال خططه العلمية التي يضعها المتخصصون.
مسابقات دورية للترجمة:
ولعل من الجوانب المهمة لأداء المركز بعد إعادة هيكلته إقامة مسابقات دورية سواء نصف سنوية أو سنوية أو كل عامين أو أكثر لترجمة أعمال تتطلبها الحكومة والمجتمع أو حتى الاقليم المحيط وفي تلك المسابقات من الفوائد الكثير والكثير منها إكتشاف كوادر جديدة ومهمة من خريجي الجامعات المتخصصين في مجال الترجمة مما يمكن المركز من أن يكون مكانا لرعاية تلك الفئة قليلة العدد في منطقتنا العربية، ويغني المركز عن الاعتماد على دائرة ضيقة من الأفراد يدور عليها نشاطه، كما يمكنه من زيادة أعماله المترجمة نظرا لزياد القائمين بالعمل بالترجمة من خلال المركز سواء العاملين به أو المتعاونين معه أو من خلال المسابقات
التدريب المستمر للمترجمين:
التدريب المستمر هو إحدى أدوات المركز الجديد في الحفاظ على كفاءة أداء كوادره لمهامه في مجال الترجمة؛ بل إنه يمكن أن يكون بيت خبرة، في التدريب الراقي لكل العاملين في هذه المجال، ولكل المتخصصين في الإقليم الذي نعيش فيه؛ فمصر لديها من المتخصصين ما يمكن أن يضعوا المركز في مكانه الصحيح في هذا المجال بل ويكون هذا التدريب موردا مهما من الموارد الدائمة للمركز، ويستطيع من خلالها أن يقوم بأنشطته ويطورها ويجعله رائدا في مجاله، فهذا المركز بعد إعادة هيكلته سيكون الوحيد في المنطقة بكل تلك الإمكانات والرؤية والدور في هذا المجال.
تمويل دائم ومستدام:
لن يستطيع المركز القومي للترجمة القيام بمهمته إلا إذا كانت لديه موارد دائمة ومستدامة تتوافق مع خططه الطموحة في تنفيذ مهامه التي أنشئ من أجلها ولعل إلى جانب ما ترصده الدولة من أموال له في ميزانيته فإنه يستطيع أن يقبل المنح من المؤسسات الدولية والمحلية غير المشروطة لتنفيذ مهامه، كما أنه يمكن أن يكوّن وديعة تدر دخلا دائما عليه من الهبات والتبرعات وبخاصة من المؤسسات الاقتصادية الكبيرة والتي يمكن أن يكون معها تعاون كبير في مجال تولى إمداده بترجمة الدرسات الاقتصادية والتجارية والصناعية التى تخدم تلك المؤسسات في مجال عملها ومثل ذلك في كل المجالات، وأيضا وعوائد الأنشطة الأخرى على اختلاف أنواعها والتي يقوم بها المركز سنويا داخليا وخارجيا وعوائد تقديم خدمات الترجمة القانونية وكلها أموال يمكن أن تمكن المركز من أداء مهامه على وجه مرضي.
الانفتاح على الخارج إقليميا ودوليا.
إن الخبرات المصرية المتوارثة في مجال الترجمة جعلها تسبق كثيرا من البلدان في هذا المجال بل إن الخبرات المصرية هي من تتواجد بل وتدير مشروعات كبيرة تعمل في مجال الترجمة، لذا فإن الكوادر المصرية والعمق المعرفي المصري يتيح لمصر أن تقود حراكا كبيرا إقليميا ودوليا وإقامة علاقات تعاون في مجال الترجمة بوصفها مهمة حضارية إنسانية تعمل على تكامل الحضارات ونشر المعرفة، وهذه الخطوة سوف تضع مصر في مكانها الطبيعي في عملية بناء الحضارة الانسانية كما سوف تكون لها عوائدها الاقتصادية المهمة
الترجمة من العربية إلي غيرها...
وكما نحتاج أن نعرف إلى أين وصل من سبقونا من خلال معارفهم وعلومهم وآدابهم فإننا في حاجة إلى أن يتعرف العالم على ما أنجزناه وأصبح ركنا في الحضارة الانسانية، ونحتاج إلى أن يقرأ العالم عنا من خلالنا لا من خلال رؤي الآخرين؛ إننا أمة ذات حضارة قدمت للعالم الكثير في ما سبق وتنتج معرفة بشكل يتلائم مع ما تعيشه حاليا، لقد رسمت بعض المدارس الفكرية الاجنبية لنا صورة مشوهه أمام الشعوب الأخرى، ولن يستطيع تقديم الصورة الصحيحة سوانا، ولن يترجمها إلى لغة الآخرين بأمانة ومصداقية غيرنا؛ لذا فإن الترجمة من العربية إلى غيرها لابد وأن تكون ركنا ركينا في عمل المركز القومي للترجمة بعد إعادة هيكلته ولابد وأن تكون هناك خطة واضحة وطموحة لهذا الأمر؛ فالصورة الخاطئة لأمتنا رسمت منذ أزمان بعيدة والجهد المطلوب لتصحيحها شاق وكبير.
هذه مجرد عناوين عريضة لخطة إصلاح كبيرة يمكن أن تجرى عليها الكثير من التفصيلات التى تسير في تيار إصلاح مؤسسات ومشروعات الترجمة داخل مصر، والوقت لم يعد في صالحنا؛ إذا تأخرنا عن القيام بالإصلاح؛ فالخسائر ظاهرة أمام الجميع، ولا تحتاج إلى الكثير من الشرح والتطويل.