«يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (الحجرات ١٣)
يعمل المترجم في صمت، بل جوهر الترجمة هو التأمل الصامت للغة وثقافتها، وظاهر النص وباطنه، والمؤلف والمتلقي. وهنا يأتي دور القراء الناقدين، ما بين ٣٠ سبتمبر (اليوم العالمي للترجمة، عيد القديس چيروم) و١٥ أكتوبر (اليوم المصري/العربي للترجمة، ذكرى مولد رفاعة الطهطاوي)، نحتفل هذا العام احتفالًا هادئًا وصامتًا احترامًا لأحزان أمتنا، ولكي نؤكد أن الترجمة تلعب دورًا رئيسًا في هذه الأحراش والمستنقعات التي استدرجت البشرية إليها منذ سنوات وحصدت أرواح الآلاف من الأبرياء المدنيين العزل، ودمرت منازلهم، ودكت مصانعهم، وحرقت أراضيهم وأشجارهم والعصافير التي كانت تغرد على أغصانها، ولوثت هواءهم، بل وقتلت مع أطفالهم حيواناتهم الأليفة!
الترجمة جسر، ولا أتفق مع من يصفه بأنه جسر محايد. بنيت الترجمةُ على موقف، واختيار، وأيديولوجيا، وفكر، وتحيز. أو كما يقول شيخنا يحيى حقي أساسيا ومبدأ أي موقف إنساني وثقافي: "ضرورة الإيمان بشيء ما." وكل كتاب مترجم هو ثمرة إرادتين: مؤلف ومترجم، ومجموعة من الآراء والأفكار والعقائد والفلسفات التي تنتقل عبر الحدود الوهمية، وتمطر خيرها أو شرها حيث تشاء. لا توجد ترجمة بريئة، وإن وجدت فهي غالبًا لا تستحق القراءة، لأن الترجمة مصير أمة وتحديد لذاتها وذائقتها، لهذا فالترجمة أمن قومي وثقافي وعالمي.
بسبب الترجمة تشن حروب، وبفضل من الترجمة يعم السلام. وما بين قوسي اليومين، ٣٠ سبتمبر و١٥ أكتوبر، نعترف بأن يوم المترجم والاحتفاء بالترجمة والمترجمين، عالمي أو قومي، يجب أن يكون كل يوم بفضل ثقافة الترجمة، والترجمات، والمترجمين، وكل عناصر تلك الصناعة الثقافية الثقيلة التي تعتمد على الترجمة مادة لها وعلى المترجمين بناة وصناعًا لها. الترجمة ونس، يبدد وحشة القاريء المتعطش للقراءة، فيا تعس أمة انغلقت على ذاتها الثقافية وتعالت على التنوع الثقافي العالمي المدهش الذي خلقه الله لنا 'لنتعارف'!
الترجمة تحفظ لأمّتنا ولنا تراثنا وتاريخنا وتبني لأبنائنا مستقبلهم. الترجمة لها رهبتها وزهوتها، وزهورها وأشواكها. وفي هذه الأيام الحزينة تحفظ الترجمة للأمة كرامتها وتضمد جراحها وتبعث فيها الأمل والتفاؤل والإيمان بقوة المعرفة والعلم والثقافة وقدرتها على تحقيق التكامل المعرفي والثقافي لتجاوز المحن. ولهذا نبتهل إلى اللهُ أن يحفظ كلَ مترجم واع مؤمن بقضية الترجمة ورسالتها وأخلاقياتها.
٣٠ سبتمبر أم ١٥ أكتوبر أم ١٣ أبريل؟
عام ١٩٥٣ قرر الاتحاد الدولى للمترجمين الاحتفال باليوم العالمي للترجمة فى ٣٠ سبتمبر الذي يتوافق مع عيد القديس چيروم الذي كان أول من ترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية. وللقديس چيروم دور بارز في تاريخ الترجمة لأنه أول مترجم اتخذ لنفسه مشروعًا للترجمة، ورسالة للعمل الترجمي ومنهجًا، فتعلم اللغات وسافر طلبًا للعلم ليفحص النصوص الأصلية والمقارنة بينها، ودراسة ارتحالها ما بين الهيلينية والعبرية لينقح ترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية، ويضيف إليها الحواشي والتعليقات.
أما فى ١٥ أكتوبر ١٨٠١ فقد ولد بطهطا "الأزهرى النابغ يزين العمامة" (فؤاد حداد) الذي " استخلص الأبريز" (حداد) وحقق للأمة العربية مشروعًا ثقافيًا تُجنى ثماره حتى اليوم. وفي 13 أبريل ١٨٢٦ (سنة ١٢٤٢ه) أرسل محمد علي إلى فرنسا الشيخ الشاب رفاعة رافع الطهطاوي إماما لبعثة من أربعين طالبًا لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة. بدأت مسيرة رفاعة والأمة نحو النور منذ أول خطوة خطاها رفاعة نحو السفينة الحربية الفرنسية (لاترويت وترجمتها سمكة السلمون المرقط) المتجهة إلى مارسيليا، واستكملت تلك الخطى على عدة مراحل، تمثل آخرها في المشروع القومي للترجمة الذي أسسه جابر عصفور عام ١٩٩٥، ثم تأسيسه عام ٢٠٠٦ المركز القومي للترجمة بمقره بجزيرة النيل التي تزدان بفرائد عقد الثقافة المصرية: الأوبرا المصرية، والمجلس الأعلى للثقافة، ومركز الإبداع، ومسرح الهناجر، إلى جانب متاحف الفنون التشكيلية، وقاعات العرض.
أتعلم ‘ما’ هو المترجم؟
المترجم: هو القاريء الأول، والفنان، والأديب، والشاعر، والباحث، والناقد، والمصلح الاجتماعي، والتربوي، والمؤرخ، هو المعلم.
أتعلم ‘من’ هو المترجم؟
هو من ولد في الخامس عشر من أكتوبر منذ مئتين وثلاثة وعشرين عامًا، رفاعة رافع الطهطاوي، سمتْه في اسمه، شيخ أزهري وكاتب وشاعر ومؤرخ وتربوي ومصلح اجتماعي، مع هذه الملكات ألا يتجه بطبيعة الحال نحو الترجمة، ليخطو خطوات صغيرة.. تنشأ بها مسيرة عملاقة.. ذهابًا من بلاد الصعيد إلى بلاد الفرنجة.. وإيابًا إلى حضن الوطن لتغيير تاريخ مصرنا الحبيبة.
“لِتَعَارَفُوا”
المعرفة هي جوهر العمل الترجمي، كلمة النور التي ترتحل متجاوزة حدود اللون واللسان. وفي البدء كانت الكلمة بحثًا عن المعرفة، لتسجل الكلمات خطوات المترجم/الترجمان على كوكبنا الصغير ينقل المعارف عبر الحدود ويحمل شعلة النور من قارة شرقية إلى غربية ومن جنوبية إلى شمالية.
شكرًا للمترجم الذي قرر الاتجاه شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، الذي شارك ضمن كتائب المترجمين المصريين والعرب بجهده في تأسيس المركز القومي للترجمة ووضع لبنات البنية التحتية لمؤسسة ثقافية وطنية. لم تتغير رسالة المركز، بل زادت الحاجة إليها وللتمسك بها عن ذي قبل في عالم يحتاج إلى رأب الصدع وتضميد الجراح، عالم اختلطت فيه الألسنة فلا نفقه من أي منها قولًا، عالم يحتاج إلى كتيبة، بل جيش من المترجمين لتحقيق المبدأ القرآني: "لتعارفوا".
لهذا يتمسك المركز القومي للترجمة برسالته الأصيلة بما تحتويه من التوجهات والأهداف: تأكيد ريادة مصر في عمليات الترجمة، والإرتقاء بأوضاع الترجمة، وفتح نوافذ المعرفة أمام القاريء العربي في كل مجالاتها وأقطارها ولغاتها، وسد الثغرات المعرفية الموجودة في ثقافتنا المعاصرة، وتحقيق التوازن المطلوب بين فروع المعرفة، وتكوين شبكة من العلاقات القوية مع المؤسسات الدولية التي يمكن أن تدعم عمليات الترجمة، والتعاون والتنسيق مع مؤسسات وزارة الثقافة المعنية بالترجمة والناشرين في القطاع الخاص في مصر والأقطار العربية بما يحقق الارتفاع في معدلات إنتاج الكتاب المترجم، وتنمية حركة الترجمة عن طريق بناء المترجمين، وإشاعة الوعي بالترجمة لتحقيق هذه الرسالة البشرية النبيلة من خلال أنشطة متعددة.
ونضيف إليها ما بدأنا في تحقيقه مؤخرًا حيث ترجمنا ليحيى الطاهر عبد الله وعبد التواب يوسف ويحيى حقي وهدى شعراوي ومحمد عفيفي وصلاح عبد الصبور وعبر مبادرة كشاف المترجمين ترجمنا لمحمد جبريل، ويوسف أبو رية، ولطيفة الزيات، ونبوية موسى، والرافعي، وقاسم مسعد عليوة، وعبدالوهاب المسيري، وقدورة العجمي وغيرهم من كتابنا، ونستكمل الرسالة بترجمة الذات، وترجمة الهوية، والثقافة القومية، ليقرأ الغرب عبد القادر المازني، وفتحي غانم، وأمل دنقل، ونجيب سرور، مثلما نقرأ تشارلز ديكنز، وڤيكتور هيوجو، وفيديريكو جارثيا لوركا، وبابلو نيرودا.
في ذكرى مولد رفاعة الطهطاوي نحتفل به وبمساره ومسيرته وكذلك نحتفل بإتمام المرحلة الثانية من كشاف المترجمين، المبادرة التي ندين فيها بفضل فكر الطهطاوي الذي جاب القرى المصرية عبر نيلها الخالد بحثًا عن مواهب الترجمة الكامنة في المدارس الشعبية.. الكتاتيب. ليرسلها إلى القاهرة حيث مدرسة الألسن المصنع الذي تصقل فيه الجواهر بالتدريب والثقافة والمعرفة. في ختام المرحلة الثانية من كشاف المترجمين في المحافظات يقوم المركز بتكريم اثنين وثلاثين مترجمًا شابًا، دليل آخر على ثراء هذه الأرض وأن مصر ستظل دائما بخير وعافية وقادرة على الدفع بأجيال جديدة تسير على درب رفاعة رافع الطهطاوي مترجم هذه الأمة ومعلمها.
بحثًا عن رفاعة:
المترجم إما كائن منقرض أو مهدد بالانقراض، واللغة غريبة في وطنها رغم حملات تكلم بالعربية الرسمية والشعبية! وكيف وسط هذه الفوضى نجد رفاعة وأبناءه؟ والمترجم الذي ننشده وفق معايير رفيعة؟ لا شك أننا نعيش زمنًا صعبًا عصيبًا، نستوعب فيه أهمية اللحظة الراهنة، ونرى أن حجر الزاوية هو وضع برامج أكاديمية علمية للمدارس والجامعات، وأن نحول كل موقف من مواقف الحياة إلى موقف تعلمي، بحيث يطرح البرنامج التعليمي المعرفي على كل مشروع باحث أو مترجم أو معلم أو طبيب أو مهندس أو فنان أسئلة الزاوية: من أنت؟ ولماذا أنت هنا؟ وما رسالتك؟
يبدأ صلاح الأمر باللغة ثم يليه صياغة فكر سليم ومضمون قوي مؤثر، في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" طالب طه حسين ب"تيسير علوم اللغة" (١٨٥) وإصلاحها حتى تصبح "واضحة سهلة قريبة إلى العقول والقلوب" (١٨٦) حتى يبلغ التلاميذ منها مبلغ الاتقان، بل وصف تعلم اللغة العربية بأنه "فرض" على الجميع. (١٨٧) لهذا أراد حسين أن تكونَ اللغةُ العربية "أقربَ إلى نفوس التلاميذ" (١٩٢) أن يضع المتخصصون برنامجًا مبسطًا يمهد لاكتشاف الذائقة اللغوية والنقدية منذ الصغر بقراءة التلاميذ فصولِ من الأدب والمطالعة الملائمة للعصر الحديث (١٩٢)، وكذلك "أن يدرُس الطلاب أطرافًا صالحة من الآداب الأجنبية المختلفة قديمِها وحديثِها، وأن يدرُسوا ذلك في لغتهم العربية لا في غيرها من اللغات، وأن يقدَم إليهِم ذلك في لفظٍ رائع رائق، وفي أسلوب ممتاز جميل."
هكذا، وبتنفيذ وصية عميد الأدب العربي، تشترك معنا المدارس الثانوية والجامعات في برامج تدريب المترجمين وإعدادهم، ليعيدوا للغة العربية مكانتها المستحقة، لتصبح الترجمة فعل مقاومة لما حذرنا منه عالم الأنثروبولوجيا د.أحمد أبوزيد في دفاعه عن اللغة العربية وقدراتها في التعبير المعرفي والثقافي في كتابه "هوية الثقافة العربية"من حرب موجهة ضد ثقافتنا تتمثل في"حملات التشكيك حول قدرة (اللغة العربية) على استيعاب نتاج الفكر الغربي الحديث والاكتشافات الباهرة والمبهرة المتلاحقة في العلم والتكنولوجيا" (385-386)،
في مقدمة ابن خلدون يشير المؤلف إلى تقليد المستعمَر للمستعمِر إذ " أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده". والسّبب في ذلك أنّ النّفس تعتقد الكمال في المنتصر وتنقاد إليه، لذلك يحذرنا مالك بن نبي في كتاباته من "القابلية للاستعمار"، كذلك قالها شيخ المترجمين محمد عناني علنًا في مواقف مختلفة إنه لا يؤمن بدراسات ما بعد الكولونيالية وعندما اعترضنا وجادلناه، كما كان يسمح لنا بديمقراطيته المعروفة عنه، أقنعنا بأننا لم نصل بعد إلى مرحلة ما بعد الكولونيالية وإنما أسرى وهمها وأكذوبتها.
انهارت الأطر الكبرى التي كانت تضم الثوابت الإنسانية من حق وجمال وأخلاق وأصبحنا نعيش مرحلة فراغ انتقالي تسيطر عليه رويدًا قيم الاستهلاك والتعاقد واقتصاديات الربح والصناعات الهشة وتفريغ الثقافات القومية من مضمونها التراثي. تظاهر الاحتلال بالانسحاب من الأراضي التي احتلها عسكريًا ليعود ليحتلها ثقافيًا ويعيد صياغة مصائر أبنائها.
اللغة هي السلاح الأول في معركتنا للتحرر من هيمنة الأطر الغربية، وعلاج ما أسماه د. مصطفى سويف في كتابه "مسيرتي ومصر في القرن العشرين" "ركائز الوهن القومي" (222) التي تتمثل في تغليب الكم على الكيف، والشكل على المضمون. وعلامتها في مجال الترجمة زحام في وسط المشتغلين بالترجمة دون جودة حقيقية في الممارسة، وصدور العشرات من الترجمات لكنها دون المستوى.
تحية إلى المترجمين واختياراتهم في الترجمة، ولكل من ترجم وتعاقد وراجع وحرر وصحح كي يصل الكتاب إلينا وإلى القاريء المصري والعربي حزمة من البهجة المعرفية تتحد معها خطوات رفاعة ليبدأ رحلته من جديد ويستكمل مسيرته. وليكن يوم المترجم ٣٠ سبتمبر أو ١٥ أكتوبر أو ١٣ إبريل، أو كل يوم نفتح فيه كتابًا مترجمًا نقدم بقراءته تحية عرفان بالجميل إلى هذين الرجلين العظيمين، القديس جيروم والشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، ولكل من سار على دربهما، وفي الاعتراف بمنجزهما عرفان بالجميل واعتراف بقيمة اللغة وقدراتها على التعبير المعرفي والثقافي وكذلك 'عودة للمستقبل'.