تاريخ الترجمة في العالم العربي، تاريخ طويل وعريق، يبدأ من قبل التاريخ نفسه، منذ الحضارات القديمة وما قبل الإسلام، فالفراعنة والسومريين والآشوريين والبابليين والصينيين والهنود والإغريق والرومان كل هؤلاء عرفوا الترجمة في التجارة وتبادل المنافع والمعاهدات الدولية والحروب، ليس ذلك فقط بل أن الترجمة ساهمت في التعرف على اللغات القديمة المجهولة فلولا النص الموجود باللغة الأكدية لما عرفت اللغة السومرية، ولولا حجر رشيد الذي ضم اللغات المصرية القديمة واليونانية لما أمكن التعرف على اللغة المصرية حتى اليوم، لذلك الترجمة هي استكشاف لحيوات أخرى لم نعشها، وأميل لهذا التعريف عن أي تعريف لغوي آخر، لأن الترجمة بالفعل هي إضاءة لأفكار وأحداث وأفعال فردية أو جماعية أو مؤسسية لأمتين أو عدة أمم قديمة أو حديثة مختلفة في اللغة، وهي تساهم في التقارب بين الأفراد والشعوب، تساهم في كسر العزلة، في التجارة ونقل المعرفة ونقل المشاعر، كما أنها تساهم في بناء علاقات بين الإنسان وبين الكائنات الحية كذلك إذ كيف يمكن لنا أن نتقدم في فهم الطفل المولود إذا لم نستطع ترجمة ردود أفعاله وهو مجال أبحاث علمية ضخم، وينطبق الأمر على الحيوانات وهو مجال كبير في علم الحيوان، من هنا إذا تطلعنا للترجمة سنجد أن مضمون الكلمة الفعلي يتعدى كل ما يمكن أن نفكر فيه.
علاقة اللغة بالترجمة
تاريخ اللغة نفسه يحتاج لمئات الكتب التي تتبعت مسألة ظهور اللغات في الشعوب القديمة، بل يذهب الأمر إلى أن هناك مدرسة تقول بأن اللغة وراثية نتيجة تغيرات فسيولوجية مشفرة وراثيا حدثت للإنسان، بينما هناك أنصار المدرسة الثقافية الذين يرون أن اللغة مكتسبة يمكن تعلمها من التفاعل بين أفراد المجتمع، وهناك من يرى أن اللغة هي نظم متصلة بين أفراد جماعات محددة وتطورت مع الوقت وهناك من يرى أن اللغة سمة فريدة بحيث لا يمكن مقارنتها بشيء وجد بين غير البشر فلم نعرف كائنات أخرى لها لغة مثل اللغة البشرية، هذه اللغة نتجت عن انقطاعات بين الجماعات.
ونعوم تشومسكي صاحب نظرية كبيرة في هذه القضية، وهو أمر يتعلق بالقدرة المعرفية لدى الانسان ولا يملك هذه القدرة كائنات أخرى أي تخزين المعرفة واسترجاعها، فالإنسان مجهز بقدرات معرفية متكررة ولا نهائية نتيجة تطوره وتسمى (اللانهائية المتمايزة)، وهو يرى أن هذه القدرة لم تنتقل من جيل لآخر بل ظهرت فجأة كقدرة استثنائية، وبالطبع هناك معارضون ومؤيدون، وللدلالة على ذلك فإنه حتى نهاية القرن التاسع عشر كان التساؤل عن تطور اللغة أمر يدعو للقلق لأنه بحث في مجال علمي لا يمكن اثباته عن طريق الحفريات أو التراث الملموس، بل هي مجرد نظريات علمية تقبل الخطأ والصواب، على أية حال إن ظهور اللغة وتشتت الجماعات البشرية في الكرة الأرضية ومع تقارب هذه الجماعات ونشوء الحضارات الإنسانية كانت الحاجة للترجمة حاجة أساسية في حياة الإنسانية عبر التاريخ، بدأت بلغة الإشارة واللغة الرمزية ويؤكد الفحص التشريحي للإنسان أن إمكانات اللغة لديه تطورت بين 2.3 إلى 2.4 مليون سنة أي مع ظهور الهومو سابينز أو الإنسان العاقل ، لكن اللغة وتميزها يعود لفترة تتراوح بين 50-150 ألف سنة، ولم تظهر الترجمة إذن إلا بعد ظهور اللغة.
ماذا عن المصريين؟
إذا سألتك هل هناك حاجة لترجمة اللهجة المصرية للعربية؟ قد تستنكر السؤال لكني أؤكد لك أنك إن لم تكن مصريا فلن تعرف ألغاز العامية، إذن إذا كنت عربيا فلا يمكنك الإلمام بشكل كلي بأي لهجة، إلمامك بالعربية لا يعني قدرتك على تفسير اللهجات المحلية، والمصريون لا يملكون لهجة محلية واحدة بل هناك عشرات اللهجات المحلية، واللهجات المحلية لا تعتمد على اللسان بشكل كلي بل تعتمد على الايماءات وحركات الانسان وتعابير الوجه وإلا سيفسد التفسير، وربما الزمن الذي تقال فيه الكلمة أو الحالة أيضا، هنا تصبح الترجمة أمرا مرهقا لذلك اتجه العرب إلى كود يسمى اللغة العربية، كود معياري متفق عليه يدرسه الجميع، ومع ذلك نحن نتصل بتجمعات سكانية تملك لغة مغايرة تماما للغة العربية تسمى اللغات الرومانسية أو مجموع اللغات ذات الأصول اللاتينية المنتشرة في الجزء الشمالي من البحر المتوسط، رغم أنها تكاد تكون مجموعة عرقية واحدة، هذا التجانس على العكس ملموس للغاية في جنوب البحر المتوسط، أي مصر وأقرانها وحتى في مناطق أخرى لا علاقة لها بالبحر المتوسط كالسودان والجزيرة العربية، ساعد في ذلك دخول الإسلام فانتفت الحاجة للترجمة.
شهدت حركة الترجمة الكثير من العمل في العصور الإسلامية منذ دولة الرسول والخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعباسية إلى مجموعة الممالك التي حكمت مصر بعد ذلك وصولا إلى الحملة الفرنسية التي أدخلت آلة الطباعة إلى مصر، لكن محمد على هو أول من بدأ حركة الترجمة المؤسسية في مصر واستمرت حتى الآن.
فماذا قدمت مصر للعالم العربي في مجال الترجمة؟
إذا ألقينا نظرة سريعة على ما ألفته وترجمته مصر منذ عصر الطباعة 1799 وحتى الآن فعلينا أن نلجأ لمجموعة من الببليوجرافيات (قوائم الكتب) التي صدرت عن المكتبة الوطنية المصرية (دار الكتب) فسنجد أنها أصدرت 229 ببليوجرافية تضم كل ما نشر في مصر خلال تلك الفترة، كما أن هناك مجموعة من الرسائل الجامعية التي تناولت هذه المنشورات بالتحليل والفحص، إضافة إلى ذلك هناك العديد من الأدلة التي صدرت عن دول ودور نشر أجنبية بل ورسائل علمية تناولت دور مصر في النهضة الثقافية والعلمية في العالم العربي ومنها احصائيات ذات أنواع مختلفة من الإصدارات عن هذا الدور، وتختلف الأرقام اختلافا بينا لعدم وجود حصر دقيق للأعمال المترجمة، ولكن يمكن الإشارة إلى أن عدد الكتب المترجمة التي أمكن احصاؤها – حتى الآن- وصل في العالم العربي إلى حوالي 90 ألف عنوان كتاب منذ ظهور المطبعة تقريبا وحتى الآن وهذا الرقم مرشح للزيادة بعد أن انتقلت أعمال الحصر لليونسكو وبعد ان قامت المملكة العربية السعودية بدور ضخم في هذا الشأن بالانفاق على مرصد أطلقته الأليكسو العربية (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) بالتعاون مع وزارة الثقافة السعودية ، هذه الترجمات إما من اللغات الأخرى إلى العربية أو من العربية إلى اللغات الأخرى، والحقيقة أن مرصد الأعمال المترجمة لم يكشف عن وجهه للآن حيث أنه مرشح لأن تجرى عليه عشرات الأعمال العلمية التي يمكن أن تسفر عن الوجه الحقيقي للترجمة في العالم العربي.
لكن البدايات بالنسبة لمصر مشجعة للغاية لأسباب متعددة تاريخيا، وأيضا لكثافة عدد المترجمين ومدارس وكليات الترجمة في مصر، إضافة إلى أن أول مدرسة للترجمة في العصر الحديث بنيت في عصر محمد علي، كما أن وزارة الثقافة المصرية تعد من أول الوزارات التي تم انشاؤها في مصر وأيضا للبعثات العلمية التي أوفدها محمد علي في الربع الأول من القرن التاسع عشر، إضافة إلى إنشاء دار الكتب الخديوية في عام 1876، بما احتوته وتحتويه من كنوز معرفية مختلفة منها الأعمال المترجمة وببليوجرافياتها، وهي كلها أسباب تؤكد على قيمة الثقافة المصرية ودورها التاريخي في التنوير في العالم العربي.
بشكل عام يتضح من الإحصائيات أن مصر تحتل المركز الأول في إنتاج الكتب المترجمة من وإلى العربية وبفارق كبير بينها وبين الدول العربية، وعلى سبيل المثال فمن بين 60 ألف كتاب تم إحصاؤهم أصدرهم العالم العربي في مجال الترجمة أنتجت مصر وحدها 22 ألف كتاب مترجم تقريبا، والرقم مرشح للازدياد.
مستقبل الترجمة في مصر والعالم العربي
من المؤكد أن تاريخ الترجمة في العالم العربي ليس هينا، وهناك مزيد من الحاجة إلى الترجمة في المجال العلمي، ويمكن أن توفر الترجمة الآلية والترجمة عبر أدوات الذكاء الاصطناعي وسيلة منجزة لذلك، والترجمة الآلية، بحسب تعريف "أم أي تي تكنولوجي ريفيو"، هي تقنية مؤتمتة تسمح بترجمة النصوص من لغة إلى أخرى باستخدام خوارزميات حاسوبية دون أي تدخل بشري، وتستعمل في ترجمة النصوص ذات الأحجام الكبيرة بسرعة عالية يستحيل تحقيقها بالاعتماد على الطرق التقليدية.
يمكن القول بأنه ستظل الترجمة البشرية الدقيقة للأعمال العلمية والأدبية والإنسانية أمرا حاسما في الجودة وتوفير مسارات فكرية مختلفة لا يمكن للذكاء الاصطناعي اختراقها على الأقل في الفترة الحالية، ومع ذلك فعلي أن أؤكد أن الذكاء الاصطناعي قادم لا محالة وأن هناك كثير من الوظائف ستختفي ولن يتبقى سوى الإبداع والمهارات الفطرية كسبيل وحيد أمام العالم للعبور من مطب الذكاء الاصطناعي الذي يحاول الآن السيطرة على المنجز البشري لصالح الآلة، عصر الآلة قادم دون شك للتعامل مع كود اللغة في مناطق محددة من العالم ولكن ليس مع اللهجات التي تنتمي لحركة لغوية وفسيولوجية تاريخية في حياة الإنسانية، وإذا أريد للآلة السيطرة في مجال الترجمة فإنه مع الوقت ستختفي اللهجات أيضا، هذا نوع من الفكر الديسوتوبيوي (المأساوي) لعلاقة الإنسان بالآلة، ومن هنا علينا أن نطلق صيحة التحذير، علينا أن نعد أنفسنا ونعد أبنائنا دون تأخير أو هوادة لعصر جديد من الحياة الإنسانية بدأ بمحاولة محاكاة حركة أقدام قطة على شاشة حاسب عام 1956 في أول مؤتمر في التاريخ عقد للذكاء الاصطناعي في (جامعة دارتمورث).الولايات المتحدة الأمريكية والذي ظهر فيه لأول مرة مصطلح الذكاء الاصطناعي، والتي تؤكد معاملها الآن على أن عجلة عصر الألة المفكرة والمنتجة للمعرفة بدأ يتحرك!.