مصر بلدنا فقط صباحها مميز مختلف، فمع بداية إشراق كل صباح وبحلول نسمات هواء الفجر الباردة، تبدأ عربات الفول في التجهيز لإستقبال الزبائن العاشقين له، عربات الفول تحديداً تنتشر في أغلب الشوارع لا تجد من يحاربها فهل هناك من يحارب عشقه وملاذه وانتظاره اليومي لملأ معدته بأشهى الوجبات؟! فهي وجبة الكادحين والأثرياء معاً لم يختلف عليها أحد، تمنحك الطاقة التي تنجز بها كافة أعمالك اليومية، ولذلك فهي وجبة السحور الدائمة وإن تَشكلت من حولها أطباق مختلفة، ربما تتغير الأطباق من يوم لآخر ويبقى هو الأساس الثابت طيلة الثلاثون يوماً.
عربة صغيرة مذاقها أشهى من الشهد، ربما البركة! وربما بسمة المُعد صاحب العربة الباحث عن الرزق الحلال، في الصباح تجد مجموعات يتسامرون أمامهم أطباق فول من الزيت الحار المميز، نقاشات مثمرة أمام العربة تشعرك وأنك أمام أكبر جهابذة في الفكر والتاريخ، آراء عميقة صائبة وتحليلات فريدة وموضوعات تستحق لتسطر مانشيت الصفحة الأولى لأهم الجرائد.
وبين مسافة وأخرى عربة جديدة بحكايات أخرى، عربات لا تخضع لقانون المسافات مثل الصيدليات التي تحدد مسافة معينة بين كل صيدلية وأخرى مع فوارق التشبيه، ربما لأنها معشوقة الجميع، حقيقة لم أتخيل أن يأتي يوماً تختفي فيه عربات الفول حب عمر المصريين، وجبة الكادحين والأغنياء وبعض من الطبقات الروشة من الفتيات العاشقون للتجديد، ولكن يبدو أن اللحظات السعيدة سرعان ما تنتهي فبعدما كنت أبحث وأتحير كل يوم من أين اتحصل على وجبتي الصباحية، من بين عربات الفول المختلفة كنوع من التجديد فلكل عربة مذاق خاص، للأسف فلم يعد هناك مستوقد لمعظم البائعين مما جعل أغلب المحلات تتميز بنفس النكهة، اختفي المستوقد وباتت التسوية علي شعلات الغاز تماشيا مع الحداثة، ماذا تريد الحداثة منا؟ ولماذا تتعمد سلب كل ما نحب!
فمنذ فترة وجيزة فوجئت بأحد شركات الأغذية تصدر "مغلف الفول الساندوتش" كيس صغير الحجم يذكرك بكيس صوص الطماطم به نفحات قليلة من الفول المحوج يكفي لعمل ساندوتش واحد فقط بلا طعم وبلا رائحة.
ابتكروا كما شئتم واتركوا لنا طقوسنا المميزة، فكيف أفطر بنفخات مغلقة من الفول البارد، لا أشعر بحرارته، وسط فقاعات الزيت الحار، وبجواره "فحل البصل المدشوش المُعتبر"، و"ربنا يستر ميسمعوش ويخترعوا فحل بصل سريع الذوبان"!.
هل أصبحنا في زمن أكلات الأكياس السريعة؟ ربما السكوت والشراء دفع هؤلاء لمزيد من العبث الاختراعي، وشعورهم بأن لهم الحق في وضع ما يشاؤون في أكياس، حتى الخبز يغلفونه بالأكياس في "كيس بارد ودابل"، مثل: الكشري سريع التحضر! والاندومي الذي أصبح يباع في الأكشاك جاهز للأكل للأطفال، لكن ذوق المصريين سينتصر، وستزول كل هذه التقاليع اللامنطقية، وسيبقى صباحكم مشرق مع إذاعة القرآن الكريم، وأصوات إعداد أشهى أطباق الفول السخنة الممزوجة بالزيت الحار وستبقى جمعتكم قبل بداية يومكم الجديد.