انطلقت تجربة الشاعر د.عيد صالح في ستينيات القرن العشرين، أي منذ ما يزيد عن نصف قرن عبر نشره في مجلات عديدة، كمجلة "الأدب" للمفكر أمين الخولي في 1965، ومجلة "سنابل" للشاعر محمد عفيفي مطر في 1968 و1969، ولكن للبعد عن العاصمة القاهرة التي كانت تشكل بوتقة النشر الرسمي والخاص، ظلت مجموعاته الشعرية رهن الأدراج والحذف والإضافة والمراجعة إلى أن جاء الوقت الذي بدأ فيه صالح النشر انطلاقًا من نهاية الثمانينات وأوائل التسعينيات، ليقدم نصًا شعريًا يشكل نسيجًا متميزًا ومتمردًا في لغته ومخيلته.
كان صالح عضوًا نشطًا بجماعة رواد الأدبية بدمياط عام 1965، ومنذ ذلك الوقت قدّم خلال مسيرته كثيرًا من الوجوه الأدبية والساردين، وكتب عن عشرات القصاصين والشعراء في المجلات والدوريات والمؤتمرات الأدبية ونوادي الأدب والمنصات الإلكترونية، وأصدر العديد من الدواوين الشعرية منها "قلبي وأشواق الحصار"، و"شتاء الأسئلة"، و"سعفة من زمن جريح"، و"أنشودة الزان" و"خريف المرايا" و"رحيق الهباء"، و"سرطان أليف"، و"ماذا فعلت بنا يا مارك"، و"ربما في صباح آخر" ولديه المزيد قيد النشر.
حاز أخيرًا جائزة اتحاد الكتاب للتميز في الشعر لعام 2024 عن مجمل أعماله الأدبية، وعبر مسيرته الممتدة في الحقل الأدبي والثقافي حصد العديد من التكريمات، فنال شهادات تكريم من جامعة الأزهر لنشاطه الطلابي والأدبي في الندوات والمؤتمرات بالكلية والجامعة، وكرّمه مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم بأسوان 1990، ومؤتمر أدباء مصر في الأقاليم بالمنيا 1995، والهيئة العامة للثقافة الجماهيرية في دمياط 2014، كما كرمه رئيس اتحاد كتاب مصر بمقر الاتحاد في مؤتمر النقد الأدبي في 2018، واتحاد كتاب مصر بمؤتمر اتحاد كتاب الدقهلية بدمياط عام 2022.. حاورته "دار الهلال" فجاءت السطور التالية..
- كيف ترى لقيمة الجائزة وتأثيرها؟ وهل سبقتها جوائز أخرى؟
مع أني لم أتقدم لجوائز أو مسابقات من قبل إلا ما ندر أيام دراستي بالثانوي الأزهري عامي 1964 /1965 وحصلت علي جوائز في مجالي القصة القصيرة والمقال البحثي وسلمنا شيخ الأزهر الشيخ شلتوت الجوائز، لكنني عزفت عن المسابقات بعدها حين عرفت أن فوزي بجائزة البحث كان بسبب اللغة الشعرية لا مضمون البحث وهي قصة طويلة، عرفت من يومها عشوائية التحكيم حتي بعد أن أصبحت محكمًا أبذل مجهودًا خرافيًا، وأحاول أن أكون منصفًا لأجد أن المرافقين أعطوا الدرجات دون أن يقرأوا، ومع ذلك للجوائز بريقها وفرحتها بل وقيمتها المادية التي يهدف إليها الكتاب، خصوصًا بعد تسليع الأدب والأدباء من جهات عربية تفرض ثقافتها وتوجهاتها بأموالها وجوائزها وتلك قصة أخرى.
المسابقة الوحيدة التي تقدمت لها عام 2006 كانت جائزة ناجي نعمان بديواني "سرطان أليف"، وفزت بها لكن الديوان لم ينشر إلا عام 2011 بمصر.
-هل من تجليات خاصة اتسم بها مسار تجربتك الشعرية.. بداياتها والمراحل التي قطعتها؟
بدأت كاتب قصة وفي إحدى الندوات قرأت قصة كانت موزونة، فأشاروا عليّ بكتابة الشعر ونشرت أول قصيدة لي بمجلة "الأدب" لأستاذنا أمين الخولي في مايو 1965 وكانت بمقدمة نثرية وبخط درامي، ثم عدت للقصة القصيرة وتأرجحت طويلًا بين الشعر والقصة لدرجة أن أول ديوان نشر لي كان عام 1990 وأحجمت عن نشر مجموعتي القصصية الأولي والتي لا تزال حبيسة الأدراج مع رواية من عام 1984.
وبدأت كأي أزهري بالقصيدة العمودية وبنفس الأغراض الشعرية، المديح، والهجاء، والرثاء، والبكاء، على أطلال الحبيبة، لكنني سريعًا ما تأثرت بحركة الشعر الحديث، ومعركة العقاد مع صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي مع شعراء قصيدة النثر، ومن العجيب أن يقف حجازي الآن نفس الموقف من قصيدة النثر التي انتقلت إليها بعد سبعة دواوين من شعر التفعيلة، وكانت تنقلاتي لدواعي اتساع التجربة، والانفتاح علي التجارب الشعرية العالمية، وإن كانت تجربة الماغوط هي ما تأثرت بها عربيًا، وكان أهم الشعراء الذين تأثرت بهم عالميًا فرناندو بيسوا وت. اس. إليوت وأكتافيو باث وآلن جنسبيرج وشيركو بيكه سي.
-عند انطلاق تجربتك هل كان للمؤثرات التي أحاطت بها داخل المشهد الشعري المصري والعربي دور في تشكيلها؟
لست أدري هل كان من حسن الحظ أو سوئه أنني حينما قدمت للقاهرة عام 1965 لم تتح لي دراستي بكلية الطب التواصل مع أدباء القاهرة حتي تخرجت فيها عام 1977 فلم أذهب لوسط البلد ولا مقهى ريش والجريون وزهرة البستان، ورغم فتنتي بنجيب محفوظ كانت علاقتي بالصحف والمجلات والإذاعة عن طريق البريد فقط، لكن في بعض الأمسيات الشعرية بجامعة الأزهر تعرفت علي محمد فهمي سند ومحمد عز الدين المناصرة الذي كان يدرس بالقاهرة ود. صابرعبد الدايم ود.محمد سليمان، حيث جمعنا حب صلاح عبد الصبور الذي نشر لي في مجلة الكاتب عام 1976 دون أن نلتقي وامتدت فتنتنا لـ "ت. إس. إليوت ولوركا والشعراء السورياليين ومحمد الماغوط الذي كان بوصلتي لكسر العمود الشعري والنثر الموقع وهو ما أسميناه فيما بعد الإيقاع الداخلي.
-ما هي رؤيتك لتفاعلات القصيدة بين العمود والتفعيلة والنثر داخل المشهد الشعري اليوم؟
أرى أن الشعر كثير وأن الموهبة تؤصل والجودة تحكم ولم تعد هناك فواصل بعد تداخل الأنواع وكما أفادت القصيدة من السرد والحوار والفن التشكيلي والتصوير السينمائي، وللأمانة يحاول بعض العموديين الشباب الذين تمسكوا بالعمود أن يضخوا في قصيدهم ماء الحداثة بالسرد والتشكيل والحوار والأنسنة، صحيح هناك هجمة سلفية صحراوية لتعميد قصيدة الصحراء بمغريات الجوائز، لتسليع القصيدة وعودة شعراء البلاط والأمراء وصرة المال وأغراض الشعر التقليدية، وللأسف بعد جيل الحداثة الشعرية العربية والانفتاح علي شعر العالم جرى على القصيدة ما جري علي المجتمعات من دعوشة فكرية وسلوكية وإبداعية.
-هل للنقد برأيك دور في التأثير على المشهد الشعري وما أبرز ملاحظاتك على المشهد النقدي؟
أرى أن النقد الحقيقي موهبة وإبداع، وليس مجرد تعلم وأدوات ومنهج، مع ضرورة ذلك لكل ناقد، أؤمن بأن أحكام القيمة قد سقطت، وأن النقد الحقيقي يبتعد تمامًا عن الترصد والإيقاع بالمثالب ومحاكمة النصوص والزج بها علي يدي جزار محترف في التقطيع والتشفية لبيعها في أسواق ومنتديات ومعارض الكتب الرائجة.
لا قطعية ولا حدية في الرؤي والمفاهيم النقدية والتي قد تختلف حد التضاد، وقد يكون للاختلاف وجاهته وللتناقض أسبابه، ويتجلى ذلك حين يتمترس كل طرف عند ما يراه بينًا وقاطعًا.
نخلص إلى أن النقد كما أن الإبداع كثير ومختلف، وأنه إلى جانب فائدته الحقيقية كإبداع مواز للنصوص التي يتناولها وإنتاج لها، قد يتعدد بإعادة القراءة حتي من نفس الناقد الذي قد يجد ما خفي منه في القراءة الأولي ويكتشف دلالات أعمق وإجابات لأسئلة لم يجدها من قبل، ومع كل ذلك لا الناقد يصنع مبدعًا، ولا المبدع يصنع ناقدًا مهما ساد الحماس واشتعلت الميديا وعلا ضجيج شعراء الملايين وقوائم التحكيم الطويلة والقصيرة في لعبة التسليع والنشر، وما أن تنفض الأعراس والموالد ويربح من يربح وينزوي المسكين الذي لم يكن يحلم بغير قيمة الجائزة المادية بجانب الشهرة والتسويق، ولا ضير أن يتلاشي كل ذلك تحت بصر وبصيرة قارئ عادي لم يكمل في أحسن الظروف قراءة فصل واحد أو عشر صفحات علي الأكثر من النص الفائز بالجائزة، ومع كل ذلك يظل هناك حد أدني وخطوط عريضة متفق عليها بعيدًا عن الأعمال التي قدمت بعد الموعد، وأخذتها كحصة تموينية، وفي العمق منها تكمن خطورة أهداف مانحي الجوائز ومموليها في حلبة الصراع علي جائزة تحيل المبدعين إلي جياد قد تنفق في صراع كتابة ما يسمي بـ"نصوص الجوائز" وحسب مواصفاتها التي تنزع منها الروح وتحيلها لنصوص شكل النصوص، وأعمال تشبه الأعمال، لا حياة فيها ولا دماء تجري في عروقها، فقط مجرد كوكتيلات واستنساخات وتجميعات مليو درامية فجة، وهو ما يضرب في مصداقية النقد والنقاد الذين اعتمدوها حسب التوجه، وباعوا تاريخهم النقدي الذي تعلمنا منه المصداقية والحيدة، وشرف الكلمة قبل أن تتدخل مخططات ضرب الهويات الثقافية لتلتقي مع ضرب مخططات تمزيق الشعوب العربية.