انطلقت تجربة الروائي والقاص حاتم رضوان في منتصف ثمانينيات القرن العشرين محققة حضورًا بارزًا في المشهد الإبداعي الذي كان يضج بمحاولات الكتّاب الجدد للتمرد على السائد والمألوف من كتابات، وقد تجلى تمرد رضوان في تقديم رؤى مغايرة على مستويات الكتابة وتقنياتها وما تطرحه من تساؤلات جمالية وإنسانية، حيث احتفى بحيوات الواقع وما تحمله من شخصيات وأمكنة وأزمنة، لتفوز أول مجموعاته القصصية "اللعب تحت المطر" التي نشرها عام 1991 بجائزة الشاعرة سعاد الصباح للإبداع العربي، وتتولى بعدها أعماله الإبداعية، فأصدر عدة روايات منها "طرح النهر"، و"بقع زرقاء"، و"زاوية الشيخ".
وفي هذا الحوار لـ "بوابة الهلال" مع رضوان نلقي الضوء على مجمل تجربته ومراحلها وما تحمله من رؤى وأفكار:
-بداية ماذا عن تكوينك الثقافي والفكري ومدى تأثر حياتك الإبداعية به؟
في المرحلة الابتدائية جذبتني الأناشيد والمحفوظات في كتاب القراءة الرشيدة، أحاول تقليد كتابتها، كلمات تنتظم في شطرين، وتنتهي بقافية واحدة، أعرض ما أكتبه سعيدًا على أبي وأمي، فيقومان بتشجيعي ومكافأتي. الآن لا أذكر ما كتبته، وما قيمته، لكنني اكتشفت أنني قادر على الكتابة، وكنت في الصف الرابع الابتدائي عندما وصلتني – لا أعرف كيف – أبيات من الشعر أو الزجل كان يكتبها بيكار بالصفحة الأخيرة من جريدة الأخبار إلى جوار إحدى رسوماته كل جمعة، فحفظتها عن ظهر قلب، وكنت أبحث عنها كل أسبوع، لأحفظها، وألقيها بالإذاعة المدرسية، وكانت أيضًا بداية معرفتي بألغاز الأصدقاء الخمسة، ومجلات "تان تان، وميكي، وسمير.
-كيف عرفت طريقك للقراءة والكتابة؟
في المرحلة الإعدادية عرفت قدماي الطريق إلى مكتبة السادات العامة بمدينتي بنها، كانت تقع في المبنى المقابل للعمارة التي نسكن فيها، تنقسم لقاعتين كبيرتين إحداهما للأطفال والأخرى للكبار، قرأت بها العديد مما كتبه أدباؤنا الكبار، وفي المرحلة الثانوية أتممت قراءة مكتبة أبي، وقد امتلأت بالكثير من السلاسل التي اشتهرت في ستينيات القرن الماضي، كانت كتبها تباع بأسعار زهيدة، أو مقابل كوبونات، وتقص من الجرائد اليومية وتجمع، وتستبدل بها، مثل كتاب الشعب، وكتب للجميع، وكتابي وغيرها.
وكانت البداية الحقيقية للكتابة الإبداعية في الجامعة، بعد التحاقي بكلية طب عين شمس، فكتبت الشعر، وكنت أستعيده على مسامع الأصدقاء والزملاء، ونشرت بعضًا مما كتبت في مجلات الحائط الخاصة بالأسر. كانت الكلية مسرحًا عظيمًا للأنشطة الثقافية والفنية والاجتماعية، تعقد ندوات لكبار الكتاب والشعراء والمفكرين والفنانين، أذكر منهم: صلاح جاهين، وسكينة فؤاد، وجمال الغيطاني، وعبد الرحمن الأبنودي، وإبراهيم سعيد، وفاروق شوشة، وفاروق جويدة، ويوسف شاهين، ومحمد منير، وعلي الحجار، فحضرت عروضًا لفرقة الكلية المسرحية، كان يشرف عليها رحمه الله د.عماد فضلي الأستاذ بالكلية، ويخرجها الزميل والصديق د.محمد جمال المقيم حاليًا في كندا، أذكر منها مسرحية "كوكب الفئران" لمحفوظ عبد الرحمن، و"جمهورية زفتا"، بالإضافة لحفلات لمحمد منير، وعلي الحجار.
-في بداية مشوارك الإبداعي.. من الذي قدم لك الدعم أو مد لك يد العون؟
عرفت مصادفة أن إدارة النشاط الثقافي بالجامعة كوّنت الجماعة الأدبية، فكنت من أوائل مريديها، وكان أول من أشرف عليها د.يوسف نوفل بارك الله في عمره وعطائه، وأدين له أنه أول من شجعني، بدأت حينها محاولات لكتابة القصة القصيرة، واختار قصتين من قصصي لمجلة الثقافة العربية، وهو برنامج شهير يذاع بإذاعة صوت العرب، أذيعا في حلقتين منفصلتين، وكانت المذيعة تلقي القصة بصوتها الجميل، وبعدها يعلق عليها نقديًا د.نوفل، ونشأت بيننا علاقة صداقة قصيرة، أذكر أنني كنت أقابله في ندوات ثقافية، ويقوم بتوصيلي معه بسيارته إلى ميدان العباسية في طريقه لبيته، ثم سافر د. نوفل للعمل بالمملكة العربية السعودية، وتولى د.صلاح فضل رحمه الله الإشراف على الجماعة الأدبية، ومعه د.أحمد مجاهد.
-جئت إلى القاهرة طالبًا العلم بكلية الطب.. فكيف تأثرت بعوالمها ثقافيًا؟
سنوات دراستي بالكلية كانت القاهرة عاصمة الثقافة وقلبها النابض، تعج بالندوات الأدبية والفعاليات الثقافية والمسرح الجاد، وانتشرت الكثير من المجلات الثقافية وسلاسل الكتب العربية، التي اختفى الكثير منها الآن، كانت زهيدة الثمن وفي مقدور طبقتنا المتوسطة مثل مجلة أقلام، والطليعة العراقية، وعالم الفكر، والدوحة، وسلسلة مختارات فصول، وعالم المعرفة، ومن المسرح العالمي الكويتية لا أنسى عروض مسرح الغرفة المجانية بشارع رمسيس، حضرت بعضًا من عروضه لكبار كتاب المسرح مثل ميخائيل رومان ومحفوظ عبد الرحمن، كانت تجربة رائعة. أيضًا ترددت على ندوات نادي القصة، ودار الأدباء، وندوة المساء، التي كان يقيمها الروائي محمد جبريل وتعد أشهر ندوة أدبية عرفها جيلنا، بمقر جريدة المساء القديم في شارع زكريا أحمد، وكانت أشبه بالورشة الأدبية، تخرج فيها معظم الأسماء اللامعة من أدباء جيلنا. الآن تسعفني الذاكرة بذكر الأصدقاء: سيد الوكيل، وسمير درويش، وياسر الزيات، ومؤمن أحمد، ومسعود شومان، ويسري حسان، وأشرف الصباغ، ومحمود الحلواني، وسمير فوزي، ويسري السيد، ومصطفى القاضي، ومحمد الحمامصي، وعبد المنعم الباز، ومحمد إبراهيم طه، وصفاء عبد المنعم، ومنال السيد، ونجلاء علام، وفاطمة قنديل، وعماد غزالي، ومحمد عبد العال، وأشرف الخمايسي، وكثيرين غيرهم.
-متى نشرت أولى أعمالك الأدبية؟
نشر لي الأستاذ محمد جبريل العديد من القصص بجريدة المساء، وتربطني به علاقة صداقة قوية، امتدت حتى الآن، بارك الله في عمره وإبداعه، وهو ليس مبدعًا فقط ولكنه مفكر كبير وناقد وكاتب صحفي ومعلم. وفي ندوة الاثنين بنادي القصة بمقره القديم بعمارة سراج الدين شارع القصر العيني كنت والأصدقاء نلقي قصصنا على كبار الأدباء والنقاد، عبد العال الحمامصي، ود. يسري العزب، ونبيل عبد الحميد، والروائى محمد قطب الفائز بالتقديرية فى الآداب، وأحمد عبد الرازق أبو العلا، ونشرت في مجلة القصة عددًا من قصصي، ولي مع مجلة إبداع قصة لن أنساها، بعد أن نشرت بعض القصص في مجلة القصة وفي جريدة المساء، كنت أحلم أن أنشر قصة بمجلة إبداع، تجرأت وصعدت إلى مقرها في شارع عبد الخالق ثروت، قابلت د.عبد القادر القط، عرفته بنفسي وأخبرته أن معي قصة أريد نشرها، رحب بي في تواضع جم وعرفني على شخص يجلس أمامه: الأستاذ سامي خشبة. "اعرِض عليه قصتك"، جلست أمامه وكان ودودًا ولا يقل تواضعًا عن د.عبد القادر القط، أخذ مني القصة، وفوجئت أنها منشورة في أقرب عدد.
-حدثنا عن كواليس فوزك بجائزة سعاد الصباح للإبداع العربي؟
الحقيقة أنني جمعت عددًا من قصصي القصيرة المنشورة، وتقدمت بها لمسابقة سعاد الصباح للإبداع العربي عام 1992م، وفوجئت بفوزها بالمركز الثالث على مستوى العالم العربي وتم نشرها في دار سعاد الصباح، تسلمت جائزتها في حفل كبير بدار الأوبرا، في حضور فاروق حسني وزير الثقافة حينها ود. سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب ود. سعاد الصباح ولفيف من الأدباء والصحفيين، واعتبر نفسي مقلًا في الكتابة لانشغالي بعملي كطبيب، أعدت نشر المجموعة القصصية "اللعب تحت المطر" في سلسلة أصوات أدبية عام 1995م وكان يرأس تحريرها الإنسان النبيل فؤاد قنديل الذي شرفت بالتعرف عليه، وبعد سبع سنوات نشرت أولى رواياتي "طرح النهر"، وانتظرت سبع سنوات أخرى لتخرج روايتي "بقع زرقاء"، ثم آخر رواية لي عام 2021م "زاوية الشيخ"، وأخيرًا المجموعة القصصية "مثل رتينة كلوب قديمة".
-تأثرت أعمالك الإبداعية بـ"عربة الحنطور" تأثرًا واضحًا.. لماذا؟
مدينة بنها شهدت أيام طفولتي وسنوات المدرسة، كان لها طابعًا خاصًا غير اليوم، تميزت بالهدوء والجمال وكانت وسيلة المواصلات الرئيسية بها "عربة الحنطور"، فبدت جلية في أعمالي، وظهرت بأماكنها ومعالمها وناسها في مجموعتي القصصية الأولى "اللعب تحت المطر"، وكانت هي البطل في رواية "طرح النهر"، التي تحكي عن تاريخ المدينة والتحولات التي طرأت عليها من قبل ثورة يوليو حتى عصر الانفتاح الاقتصادي، وتعبر أحداثها عن تاريخ مصر، مسرودًا من فم من عاصروه على لسان أبطال الرواية، ويمر بطل الرواية عبر مراحل عمره بمحن مختلفة، وعند عودته بعد رحلة دراسته الجامعية في القاهرة وبعده النسبي عن مدينته يفاجأ بالتغيرات التي حدثت في مدينته وفقدانها لروحها وحميمية الأماكن التي عشقها. كما ظهرت في الخلفية في روايتي الثانية "بقع زرقاء"، وكذلك بصورة غير مباشرة في روايتي الثالثة "زاوية الشيخ".
-حدثنا عن مضامين مجموعاتك القصصية ورواياتك.. عوالمها وحيوات شخصياتها؟
المجموعة القصصية "اللعب تحت المطر" تتنوع في أفكارها بين الهم الذاتي، والهم العام، أما مجموعة "بقع زرقاء" فاقتربت من فلسفة الموت، عندما يقترب الإنسان من الموت، ويرى أمامه من رحلوا ويراجع حساباته ومواقفه من الأهل والأصدقاء ويربط أحداثها بالهم العربي الكبير وقضية فلسطين، ولكن بشكل غير مباشر وبصوت هامس، وعن روايتي الأحدث "زاوية الشيخ" فتعد خروجًا تامًا من عباءة الذاتية وثورة على كل ما كتبت، حيث تعرض لقضية شائكة، وهي الممارسات غير السوية التي تنتهجها بعض الطرق من مدعي الصوفية عبر ثلاثة أجيال من الشيوخ توارثوا الطريقة عن بعضهم البعض والتعرض لعلاقاتهم غير السوية.
-ماذا عن تجربتك في الكتابة للطفل؟
لي تجربة وحيدة لي في الكتابة للأطفال أفدت منها كوني طبيبَ عظام، هي قصة "زيزو وظاظا في قصر الأسرار"، نشرت في سلسلة كتاب قطر الندى، بمهرجان القراءة للجميع، أشرح فيها من خلال حكاية شيقة الهيكل العظمي والجهاز الحركي للإنسان وأهميته والنصائح المفيدة لصحته والأمراض التي تصيب عظامنا عند إهمالنا لها.
ـ كيف ترى المتابعة النقدية لمجمل أعمالك؟
حظيت أعمالي بالكثير من الاهتمام النقدي، سواء دراسات نقدية نشرت بالمجلات أو الجرائد أو كفصول في بعض الكتب، وكذلك مناقشتها في العديد من الندوات الأدبية، والبرامج التليفزيونية والإذاعية. وفي النهاية لكل كاتب عالمه الخاص يتفرد به عن غيره، يستقي منه شخوصه، وأحداثه، ويبنيه على الورق، وبالتأكيد هذا العالم انعكاس لذاته، وكل ما حوله من متغيرات ولحظات فارقة في تاريخ مصر قد لا تكون واضحة أو مباشرة، وسواء تطرق لها المبدع بوعي أو غير وعي، يجب على القارئ أن يستشفها، وعلى الناقد أن يبينها ويلقي عليها الضوء، حيث يمكننا التأريخ لحقبة ما من خلال الأدب المكتوب ومعرفة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لها.