الروائية التونسية أميرة غنيم الأستاذة الجامعية في علم اللسانيّات المعرفية بكلية الأداب والعلوم الإنسانية في سوسة والتي وصلت روايتها "نازلة دار الأكابر" إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية بوكر 2020، وترجمت إلى الإيطالية في 2022.. كتبت الرواية بالصدفة، ولم تكن تتوقع اتجاهها إلى عالمها، فأبدعت في سردها وحبكتها النصّية وحققت انتشارًا ونجاحًا عربيًا لافتًا، خاصة أنها ترتكز في أولوية مشروعها الروائي على أفكارها ورؤاها النابعة من الذاكرة الجمعية التونسية، وذلك حفاظًا لها من التلاشي، لكنها قبل الرواية كتبت البحث الأكاديمي، حيث دراستها الأكاديمية ودرجاتها العلمية الأدبية في مجال اللغة وتحليل الخطاب.. بوابة "دار الهلال" حاورتها فجاءت السطور التالية..
- في البداية.. ماذا عن نشأتك وتكوينك الثقافي وتأثيره عليك؟
ـ وُلدت في بيئة تحترم المرأة، وتعطي أهمية بالغة للدراسة أولًا، وللمطالعة والكتابة، فمنذ صِغري كنت كما يقال "جراز مكتبة"، أقرأ كل ما يقع تحت يديّ بما في ذلك قصصات الجرائد التي تُلف لنا فيها الفطائر، وكان من حظي أن أحد أعمامي صديق لشخص يعمل بدار نشر ومطبعة، وأحيانًا بالمطبعة تتلف بعض الكتب، فكان عمي يأتي لي بهذه الكتب ويرصفها، وعمري سبع أو ثماني سنوات، وهو لا يدري أنني لم أكن مؤهلة لأن أقرأها، ولكنني في هذه السن قرأت لفيكتور هجو روايته "البؤساء" وغيرها من كتب لعالميين بسبب الحظ الذي توفّر لي، ولعل هذا الأمر هو الذي فتح عيني على الأدب بشكل مبكر، وهو الذي وجهني في دراستي إلى الشعبة الأدبية، على الرغم من أنني درست في معهد كان الأصل فيه أن أتوجه إلى شعبة علمية، لكنني سرت في الطريق الذي لم أر نفسي خارجه منذ نعومة أظافري. وأنا بالتاسعة كنت أسأل الناس كيف يصبح المرء كاتبًا، كنت أعتقد أن الكتابة وظيفة ندرس لها ثم نوظف فيها، وتدرّجت أكاديميًا إلى أن أصبحت دكتورة في علم اللسانيّات المعرفية، أدرس في الجامعة التونسية، مختصة في الترجمة وفي تحليل الخطاب، بدأت حياتي كاتبة أكاديمية، ولم أكن أتخيل أن أدخل إلى مجال الكتابة الروائية أو أكتب أدبًا ينشر، كتبت الرواية بالصدفة، ونجَحتْ بالصدفة لأنني كتبتها مخطوطة، ولم أجرؤ على نشرها، إلى أن أرسلتُ بها لإحدى جوائزالنشر التي كانت تقبل الروايات المخطوطة فحازت على الجائزة، وقلتُ في نفسي لعلك يا أميرة تملكين موهبة يجوز إبرازها للناس، وفي أثناء ذلك كانت روايتي "نازلة دار الأكابر" أيضًا مخطوطة على الحاسوب، فشجعني فوز روايتي الأولى بنشر روايتي الثانية.
- تجمعين بين العمل الأكاديمي والإبداعي.. ما العلاقة بينهما وتأثير كل منهما على الأخر؟
ـ العلاقة بينهما هي البحث، لأنك حين تكتبين الرواية تبحثين كذلك، وينبغي ألا يظهر هذا البحث في نصك بطبيعة الحال، وإن ظهر فستكتبين نصًا إبداعيًا فاسدًا، ولكن كل كاتب يحترم قارئه، وإذا تناول موضوعًا ما يتناوله بعد بحثه وتمحيصه وتعميقه، وحين كتبت عن تاريخ تونس خلال قرن كامل من الزمان قرأت كل ما كتب عن الطاهر الحداد واستوعبته، وحاولت إنتاجه إنتاجًا جديدًا، فالقاسم المشترك لديّ هو هذا الوقت الذي تخصصه وأنت تبحث، ثم تحاول أن تستخلص مما بحثته شيئًا فريدًا لن يكتبه غيرك ويميزك أنت.
- ما الدافع وراء كتابات أميرة غنيم؟ ومتى تجلّى لديك الحس الإبداعي لكتابة الرواية؟
ـ يصعب أن أصيغ ذلك في جمل واضحة بسيطة، فربما هو سعي كل منا لأن يمتد وجوده في الزمان أطول ما يمكن، وجميعنا يريد أن يترك في هذه الدنيا أثرًا، البعض يرى أثره في أطفاله، والبعض يراه في كتبه أو في ما يقوم به من أعمال، والحمد لله رزقني الله بثلاثة أطفال هم امتداد لي في الوجود، ورزقني مجموعة من الكتب أرجو أن تعيش بعدي.
كتبتُ بعد الثورة التونسية وتحديدًا عام 2015، في فترة كان المجتمع التونسي لا يدري إلى أين يتجه، تناقضات عميقة ظهرت في هذا المجتمع، وصراعات كثيرة جدًا ظهرت بعد الثورة، شرائح لم نكن نعلم بأنها موجودة ظهرت وأخدت الكلمة، وسيطرت على الساحة، وفي خضم هذا الذهول سألتُ نفسي من أنا؟ ومن هو هذا المجتمع الذي أنتمي إليه؟ وأعتقد أن هذا هو الدافع الذي حفّزني على الكتابة، كنت أبحث عن نفسي وأعتقد أن الشخصية التي كتبتها أول مرة في روايتي الأولى "الملف الأصفر" شخصية غسان الجوادي المجنون، كانت تعبر عن هذا الجنون المعمم الذي أصاب المجتمع، فكان مجنونًا ولا يعلم أنه مجنون، تمامًا كالمجتمع التونسي في تلك الفترة.
ـ كيف ولدت روايتك الأولى "الملف الأصفر"؟
ـ "الملف الأصفر" بقيت مخطوطة على الحاسوب خمس سنوات، ثم في لحظة سأم أرسلتها إلى جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع، وفازت بالجائزة، فحجزتها إدارة الجائزة لديها ولم تنشرها، لأنها تفرض إذا فزت بالجائزة أن تكون هي الجهة التي تنشر العمل، وبقت لديها عامين متواصلين، لهذا السبب خرجت الرواية الثانية "نازلة دار الأكابر" قبل "الملف الأصفر" التي هي رواية البطل الواحد، وتحدث فيها البطل بضمير المتكلم عن نفسه وعن حياته، وهي رواية تطرح مسألة المرض النفسي "الشيزوفرينيا" تحديدًا، وكيف يعيشه المريض والأهل المحيطين به، هذه المأساة المسكوت عنها لأننا لا نتحدث كثيرًا عن المرض النفسي، وفي معظم العائلات إذا كان سمة مريض نفسي أو عقلي، فإننا نتجنب الخوض في الأمر ولا نتحدث فيه، فالرواية طريقة لإعادة الاعتبار لهذه الشريحة، وإعادة الاعتبار للتضحيات الجسيمة التي تقدمها عائلة المريض.
- حققت روايتك "نازلة دار الأكابر" نجاحًا لافتًا، وجانبًا إبداعيًا في المزج بين التاريخيّ والتخيّلي بذكاء سردي.. حدثينا عن ذلك؟
ـ لهذا السبب كثيرًا ما سُئلت هل هذه الرواية تاريخية؟ وكان جوابي دائمًا لا، هي ليست تاريخية، هي رواية تعلقت بفترة من فترات التاريخ التونسي، فكان من الطبيعي أن أبحث في هذه الفترة، ولكن كل ما بحثتُ فيه شكّل الخلفية والمشهد الذي بُنيت أمامه الأحداث، كنتُ كما المخرج السينمائي الذي سيصور فيلمًا في فترة الثلاثينيات، فينبغي أن يهيئ له ديكورًا مناسبًا وهذا ما فعلته، لكن الرواية خيالية مُتخيلة، فالطاهر الحداد لم نعرف له علاقة بالنساء في حياته الشخصية، ومع ذلك فبعد صدور روايتي صدر كتاب لأحمد الدرعي، هذا الكتاب يتحدث فيه عن أن الطاهر الحداد أحب فتاة من الأكابر، وهذا لم أكن أعرفه، ولم يكن أحد يعرفه قبل صدور كتابات أحمد الدرعي بعد وفاته بأكثر من ثلاثين عامًا أو أكثر، فحينئذ أحيانًا يتقاطع الخيال السردي مع الواقع دون أن يدرك الكاتب ذلك.
- هل كان هدفك من رمزية الطاهر الحداد الكتابة عن المرأة أوالإشارة إليها؟
ـ في الحقيقة كانت غايتي الأساسية من الكتابة عن الطاهر الحداد هي تكريم هذا الرمز التنويري الذي يعبر عن الفكر التقدمي التونسي، فكما نعرف ذاكرة الأجيال قصيرة، واليوم نعرف الطاهر الحداد، لكن لا أضمن ذلك بعد ثلاثين عامًا، ودائمًا ما أقول أنا لا أكتب لهذا الجيل إنما أكتب للأجيال المقبلة، ومن مشروعي الثقافي الروائي الحفاظ على الذاكرة الجمعية التونسية، ولذا ستجديني أتحدث عن رموز تونسية أخرى في روايات مقبلة، والغاية دائمًا حفظ الذاكرة الجمعية من التلاشي، وطبيعة الحال أن الذي يتحدث عن الطاهر الحداد سيتحدث عن المرأة بالضرورة، لأنه معروف عن الطاهر الحدار أنه نصير المرأة، وكانت الفكرة الطريفة في الرواية أنها تحدثت عن الحداد من وجهة نظر أخرى في علاقته بالنساء، الحداد العاشق للمرأة، فتخيّلتُ قصة حب لم تقع أبدًا في الواقع بين الطاهر الحداد الشخصية التاريخية وبين فتاة من أعيان أكابر تونس سميتها زبيدة بنت علي الرصاح.. ومن هنا انطلقت الحكاية.
- البعض يوظّف "نازلة دار الأكابر" على أنها رواية نُسوِية.. ما تعليقك؟
ـ أنا لا أكتب أدبًا نُسْوِيًا خالصًا، ما أكتبه أدبًا يُعنى بالقضايا العادلة، فالرواية تحدثت عن التمييز الطبقي، وعن العلاقة بين الخدم والأسياد، وعن المثلية الجنسية، وعن الطبقات المنسحقة، فوضعتُ على لسان الشخصيات التي لا صوت لها في الواقعية كلامًا، فغايتي لم تكن الدفاع عن المرأة أو كتابة أدب نُسوِي، وإنما غايتي أن أكتب نصًا يشبهني، ويشبه بدرجة ما التناقضات الموجودة بالمجتمع التونسي، نصًا أدبيًا إبداعيًا قيمته من قيمته الفنية، لا فقط من قيمة مضامينه، والمسألة النُسوِية هي مسألة تركب تركيبًا على مجموعة المضامين الموجودة بالكتاب، والنسوية وجهة نظر، وهي أن يظهر في نصك محاولات لتعرية الممارسات القمعية ضد النساء، إذا ظهر هذا فهي رواية نُسوِية أو معنية بهذا الجانب من الكتابة، ولا يمكن أن يظهر ذلك في أربعين صفحة من الرواية، سيكون له مواطن تكبير يظهر فيها مع قضايا أخرى كثيرة جدًا، فالمسألة هنا وجهة نظر، إما أنك تؤمن بمسألة المساوة بين الجنسين وإذًا هذا سيظهر من خلال كتابتك، أو أنك لا تؤمن وسيظهر العكس كذلك في كتاباتك.
- يرى البعض أن الكاتب الروائي غالبًا ما يبدأ بكتابة القصة أو المجموعة القصصية، ومنها إلى الرواية.. ما رأيك؟
ـ لا أوافق أن الكتابة القصصية ينبغي أن تسبق الكتابة الروائية، لأن كتابة القصة لديّ أصعب بكثير من كتابة الرواية، الرواية أسهل لأنها تمنحك مساحات من الحرية، أما القصة بضيق مساحتها، وضيق امتدادها الزماني تفرض عليك كثافة لا يقدر عليها الكثيرون ولديّ تجارب في القصة، ولديّ قصة وحيدة منشورة ضمن مجموعة قصصية تشارك في كتابتها نخبة من كتّاب الرواية والقصة في تونس تحت عنوان "فخامتها سي عبد الستار"، وهي قصة تطرح الذكورية التي لا تنجح في التعامل الصائب والتعامل السليم مع الزوجة، ولكن لديّ أقاصيص أتهيب بنشرها إلى الأن، ربما يأتي النهار وتخرج في مجموعة قصصية.
- أيهما يغلب على الأخر في حياة أميرة غنيم الحياة الأكاديمية أم الإبداعية؟
ـ الغلبة بكل صدق للحياة الأسرية، ومسألة الوظائف الجندرية، فنعم أنا من تونس بلد حرية المرأة والمساوة بقوانين الأحوال الشخصية، ولكن على مستوى الممارسة اليومية لا تزال النساء تحمل دورها ودور جداتها أيضًا، ولم تتخل المرأة عن دور الجدة على الرغم أنها أصبح لها اليوم أدوارًا أخرى تنهض بها.
- ما علاقتك بالمكان وماذا تمثّل لك مدينة سوسة؟
ـ درستُ بالعاصمة وكان بإمكاني أن أواصل التدريس الجامعي فيها، فالفرص التي تتيحها العاصمة أكبر من فرص المدن الأخرى، حتى وإن كانت مدينة ساحلية قيّمة وكبيرة مثل سوسة، ولكن كان الأمر بالنسبة لي محسومًا، وحال ما حصلتُ على شهادتي عدتُ إلى مدينتي التي هي مسقط رأسي، وهي قريبة من البحر، وعلاقتي بالبحر خاصة جدًا، أحدثه ويحدثني، وتغيب الأفكار فأجلس أمامه فيهمس لي بها في أذنيّ، فإذًا العلاقة عضوية بيني وبين هذه المدينة وبيني وبين بحرها.