مما لا شك فيه أن رؤية أوكرانيا لحل النزاع مع روسيا تغيرت بدرجة كبيرة، فمنذ أن تحدث المستشار شولتز عن ضرورة تقديم كييف لتنازلات من أراضيها لتحقيق السلام مع روسيا، فإننا نشاهد أن الأمور تسير الآن فى هذا الاتجاه وليس فى صالح كييف، بداية من التقارير القادمة من المعارك على الأرض والتى تحرز فيها روسيا الانتصار تلو الآخر، وتسيطر على مساحة تقترب من 2000 كم مربع خلال الشهرين الأخيرين، مروراً بالتقاعس الأوروبى فى دعم كييف فى الفترة الأخيرة، رغم بحث الأوروبيين فرض الحزمة 15 من العقوبات على روسيا مطلع العام القادم، وزاد الأمور تعقيداً بالنسبة لكييف كان نجاح المرشح الجمهورى دونالد ترامب فى الانتخابات الأمريكية، والحديث عن وقف النزاع بمبادرة لا تختلف كثيراً عن ما صرح به المستشار الألمانى.
وبعد أن كانت أوكرانيا تصر على انسحاب القوات الروسية من كل الأراضى التى سيطرت عليها بعد 22 فبراير 2022 بما فيها القرم وأنها لن تتنازل عن أى شبر من أراضيها تحت أى ظرف من الظروف أو فى أى تسوية سلمية، فإنها الآن على ما يبدو كما فهمت أنا على الأقل هى تصر على ضمان الأمن وهى ترى هذا أن يدعونها للانضمام لحلف الناتو واعتبرت أوكرانيا أن هذا هو الأهم بالنسبة لها فى هذه المرحلة، لكن الآن ومع إصرار الرئيس الأمريكى المنتخب على جدول سريع لتحقيق وقف إطلاق النار، تحدثت كييف عن ضمانين الأمن، وأن هذا الأمر أهم من وقف إطلاق النار على طول خطوط التماس.
ومع الانسحابات الأوكرانية من مواقع وقرى عديدة خاصة فى مقاطعة دنيتسك، فإن الخبراء الأوكران يتحدثون الآن عن الدفاع عن مصالح أوكرانيا فى أى مفاوضات لن تعتمد على حدود الأراضى، التى ستتحدد على الأرض أثناء المعارك، لكن على أساس أى ضمانات سيتم تقدمها لضمان وقف إطلاق النار.
المفاوضات يجب أن تكون على أساس الضمانات الأمنية، والتى تعتبرها أوكرانيا أهم ما يمكن أن تحصل عليه، ونقلت وسائل إعلام عن مسئول أوكرانى فضل عدم ذكر اسمه، قد يكون موضوع الأرض غاية فى الأهمية، لكنه على أى حال يأتى فى المرتبة الثانية، الأهم وبالدرجة الأولى ضمان الأمن.
ستقوم أوكرانيا بترسيم حدودها على أساس وثيقة الاستقلال فى حدود عام 1991 (روسيا تسيطر الآن على حوالى 20% من مساحة أوكرانيا) لكن أوكرانيا لن تعترف بشرعية الوجود الروسى على "الأرض الأوكرانية" وستعتبرها أرض محتلة ستطالب بها، وربما يكون هذا هو مدخل كييف لتبرير الصفقة المحتملة، كان الرئيس الأوكرانى زيلينسكى فى نوع من التمهيد للصفقة المزمعة قد صرح فى أكتوبر الماضى بأنه "الجميع يفهمون أننا مهما اخترنا من وسائل قانونية، فإنه لا أحد سيعترف بالأرض المحتلة بأنها ملك دولة أخرى".
بعض المحللين يعود بالتاريخ إلى عامى 2014 و2015، عندما تم التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، وكانت اتفاقيتى مينسك قائمتين ومع ذلك لم تمنع الاتفاقيتين حدوث صدامات على الحدود الشرقية لأوكرانيا بين القوات الأوكرانية الموالية لروسيا فى لوجانسك ودنيتسك وقوات كييف، واستمر الأمر حوالى ثمانى سنوات حتى عام 2022.
يرى المسئولون الأوكران أن عضوية أوكرانيا فى الناتو هى الضمان الوحيد ضد أى هجمات فى المستقبل، بينما من وجهة نظر الغرب مسألة الموافقة على الانضمام للناتو ستحدث لكن ليس بالسرعة التى تريد بها كييف.. هنا الغرب يرى فى ضم أوكرانيا تصعيد مع روسيا، كما أن عملية الانضمام يجب أن تتم بعد توقف العمليات العسكرية بشكل نهائى فالحلف لا يريد التورط فى حرب مع روسيا، ويقترح المسئولون الأوكران كمقابل لإنهاء النزاع وبالإضافة للانضمام لحلف الناتو، تزويد أوكرانيا بكميات أسلحة نوعية بحيث يمكنها من ردع أى عدوان فى المستقبل.
لكن فى تصورى كما فى تصور الكثيرين محور التسوية هنا بخلاف كافة النزاعات التقليدية، ليس الأرض بل ضمان الأمن، ففى مفاوضات 2022 رفضت موسكو العنصر الرئيسى من الضمان الأمنى وهو تعهد روسيا تلتزم دول أخرى بالدفاع عن أوكرانيا فى حالة تعرضها لعدوان مستقبلاً، وهذا كان يعنى ببساطة لجوء كييف للانضمام لحلف الناتو لكن بصيغة لطيفة لا تلقى اعتراض روسيا عليها، لكن موسكو ومنذ فترة أعلنت أنها لن تقبل انضمام أوكرانيا للناتو، بل وتعتبر أى خطوة فى الاتجاه عائق للتوصل إلى أى اتفاق لوقف إطلاق النار، وأنها ترغب فى الاحتفاظ بالأراضى التى تسيطر عليها والتى أصبحت جزء من روسيا وفقاً لاستفتاء والدستور الروسى.
لكن مما لا شك فيه أن النقاش حول ضرورة التوصل لاتفاق قد ارتفعت حدته بعد الإعلان عن فوز ترامب فى الانتخابات الأمريكية، حيث تعتبر واشنطن الداعم الرئيسى لأوكرانيا عسكرياً، والذى أعلن أن سيطلب البدء فى المفاوضات فوراً. وهذا الموقف يختلف تماماً عن موقف الإدارة الأمريكية الحالية (بايدن)، التى ترى أن أى وقت وشروط التسوية تعتمد بالدرجة الأولى على رؤية أوكرانيا. لكن الرئيس الأمريكى السابع والأربعين ينظر بشك إلى إمكانية دعم أوكرانيا فى المستقبل، ويؤكد على أنه سيضع نهاية لهذا النزاع خلال 24 ساعة!.
من جانبه قدم الرئيس بوتين تصوره لحل النزاع أكثر من مرة وأعلن أنه لا يرفض فكرة التفاوض، لكن وفق شروط روسيا وما هو فى صالحها، بينما تعتقد أوكرانيا وحلفاءها الغربيين أن قبول التفاوض على هذا الأساس هو نوع من الاستسلام، وتعتبر روسيا أن العقبة الرئيسية لوقف إطلاق النار هو احتلال أوكرانيا لأجزاء من مقاطعة كورسك الواقعة فى جنوب غرب روسيا، حيث قامت القوات الأوكرانية فى حركة من أجل أن تثبت للغرب أن روسيا لن تقوم بأى شيء انتقامى ولإظهار ضعف الجيش الروسى أمام حلفاءها الغربيين، وقد تكون ورقة للمقايضة فى حال التفاوض، لكن روسيا عاقبتها بأن جعلت انسحاب أوكرانيا عنصر أساسى لوقف إطلاق النار. على أى حال مسألة تحرير كورسك مسألة وقت حيث حشدت روسيا حوالى 50 ألف جندى مدعومين كما تقول مصادر غربية بقوات من كوريا الشمالية، حضور قوات من كوريا الشمالية كان خطوة روسية هامة فقد وضع العالم كله على المحك، من خلال توسيع رقعة النزاع.
إذا استطاعت روسيا طرد القوات الأوكرانية من الجزء الذى تحتله فى كورسك فإن موسكو ستوافق على وقف إطلاق النار فى حدود خطوط التماس الحالية فى ربيع العام القادم. كل شئ يعتمد على الواقع على الأرض، كما قال عضو البرلمان كونستنتين زاتولين عن حزب "روسيا الموحدة" الموالى للرئيس بوتين، "كل شئ يعتمد على الواقع على الأرض ما هو لنا فهو لنا وما لأوكرانيا للأوكرانيين"، غير أن البعض يورد آراء لبعض "الصقور" المقربين من الكرملين الذين يقولون بوجود بعض الأمور المثيرة للجدل، ومنها بعض الأمور المتعلقة بالأرض، وأعربوا عن تشاؤمهم من احتمال بدء التفاوض فى ربيع العام القادم.
بينما ذهب رجل الأعمال ذى الرؤية المحافظة والمقرب من الكرملين كونستنتين مالوفييف لأبعد من ذلك عندما قال "سيكون من الصعب التوصل لاتفاق، لأن موقفنا وفق ما نفهمه هو الحصول على مزيد من التنازلات الأوكرانية فيما يتعلق بالأرض". وفى الوقت الذى يتشدد فيه الجانب الروسى نجد أن الجانب الأوكرانى يبدو أنه يتجه للاستسلام بخطى سريعة، حيث صرح مسئول أوكرانى كبير إن بلادة ترغب فى أن تحصل بلاده على ضمان بألا يكون خط وقف إطلاق النار عنصر ضرر لإعادة البناء فى أوكرانيا، بجعل المناطق الصناعية غير آمنة للاستثمار، وهناك قضية أخرى أثارها المسئولون الأوكران وهى عرض المنطقة المنزوعة السلاح بين جيشى البلدين.
فى المعسكر الأمريكى المحيط بترامب هناك أيضاً وجهات نظر متباينة، فعلى سبيل المثال نائب ترامب دى فانس يبدو أنه متفق تماماً مع وجهة نظر وشعارات الكرملين، فى حين أن مايك بومبيو وزير خارجية ترامب فى فترة رئاسته الأولى يتحدث عن ضرورة استمرار فى دعم أوكرانيا بحسم أكثر مما كانت مستعدة لتقديمه إدارة بايدن.
لكن دعونا نذهب إلى رؤية ترامب الشخصية وعلى لسانه عندما قال فى مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" "قلت لزيلينسكى كفى، حان الوقت للاتفاق، ولو تحدثت إلى بوتين كنت سأقول له : إذا لم تتفقوا، فإننا سنعطيه أكثر بكثير مما أعطيناه" يقصد تزويد أوكرانيا بالسلاح، وحدث لقاء بين زيلينسكى وترامب، لكن تفاصيل اللقاء لم يعرف بها أحد. لكن هناك حقيقة معلنة أن زيلينسكى توجه لواشنطن وبروكسل طالباً الدعم على أساس استرتيجية "تحقيق السلام عن طريق القوة"، كل ما قلناه هو متعلق بانتظار ما سيفعل ترامب، الذى يقوم سلفه حالياً بإعداد قائمة بالمساعدات التى سيقدمها لأوكرانيا لعرضها على الكونجرس قبل رحيله عن البيت الأبيض فى يناير القادم.
ويجب الأخذ فى الاعتبار مبادرات السلام الصينية ـ البرازيلية و التركية وغيرها، فهل تعطى روسيا لواشنطن طوق النجاه لتحقيق السلام بعد هزيمتها فى أفغانستان لتعود قطب أكثر تأثيراً فى العالم، أم تقبل بالمبادرة الصينية الدولة الحليفة، التى تبدو أفضل من الشروط الأمريكية من وجهة نظر أوكرانيا وفى هذه الحالة ترفع أسهم الصين على الساحة الدولية لمصاف دولة عظمى أنهت نزاع فى قلب أوروبا. سنرى لكن لا شك أوكرانيا فى موقف لا تحسد عليه فقد جعلتها الهزائم الأخيرة فى الشرق تبحث عن أى قشة تتعلق بها وهى حالياً على استعداد لتقديم تنازلات كبيرة.
فى النهاية أنا أرى الغرب يدبر لأوكرانيا حل "ألمانيا" أى سيكون شرق أوكرانيا أو المناطق التى تسيطر عليها روسيا، التى ستتفاوض ليس على الانسحاب منها بل على استرداد بقايا المقاطعات الأربعة التى تسيطر على أجزاء كبيرة منها (لوجانسك ودنيتسك وزابوروجيا وخيرسون، ولم يتحدث أحد عن القرم) وهى تحاول الآن استرداد ما تبقى ربما لتسهيل المفاوضات على الوسطاء، وأوكرانيا لا شك هزمت بصرف النظر عن نتائج المفاوضات، وورقة التوت التى تحاول كييف ستر عورتها بها هى دعوتها لحلف الناتو كضمان أمنى.