القراءة المنظمة تخلق عقلا خصبا بالأفكار والمعرفة والخيال، ولا يكاد عام 2024 يمر إلا والحصيلة القرائية ضخمة بشكل لم أتخيله أنا أيضا، ما يضيف الكثير على المستوى الإدراكي والمستوى التخيلي، وهذان المستويان هما أكبر معينين للإنسان في مواجهته للحياة ومصاعبها وللاستمتاع بها من جانب آخر.
لقد أيقنت منذ زمن طويل أن الكتب لا تكتب إلا بهدف أن تضيء لنا ظلام المعرفة، وأن المبدعين والكتاب بشكل عام منوط بهم الحديث عن المسكوت عنه من أحداث وأفعال ومشاعر، عليهم أن يغوصوا في أعماق الظلام لاستخلاص الإضاءات التي يمكن أن تلهمنا لمستقبل أفضل، والقراءة لدي تسير في اتجاهين، الاتجاه الأول متعلق بالثقافة والفن والأدب والثاني متعلق بالعلم وكيف يجعلنا نستطيع النظر للمستقبل.
ماذا أنتجت مطابع مصر من كتب ومنشورات هذا العام:
لكي نكون منصفين علينا أن نلقي الضوء على أعمال قد لا يهتم بها كثيرون لأن أصحابها غير معروفين تارة، وتارة بعيدين عن الإضاءة الإعلامية، أو أنهم يسكنون الهامش وليس المركز، وتارة أخرى لأن أعمالهم بعيدة عن متناول أيدي القراء لغلاء أسعار الكتب، لكن الملاحظة الأهم هي أن المصريين يكتبون ويكتبون بغزارة، وأتوقع أن تنشر مصر بنهاية هذا العقد 40 ألف عنوان سنويا، ناهيك عن الكتب الرقمية والصوتية وهي تنتج حاليا ومنذ سنوات بين 25 ألفا و 30 ألف عنوان سنويا، ورغم كل الظروف الاقتصادية التي نمر بها ويمر بها العالم أجمع، لا يتوقف المصريون عن الإبداع، إذ يمثل الجانب الإبداعي في الأدب والفنون ثلث هذا الإنتاج تقريبا، كما حصل المصريون على الكثير من الجوائز الأدبية والعلمية في كل المجالات، ولا يتوقفون عن إدهاشي على المستوى العام والشخصي، إنهم يبدعون في كل الظروف حتى لو كان ذلك تحت الرماد.
الإنتاج الأدبي المصري:
سأبدأ بالإنتاج الفكري الأدبي وخاصة الروايات ومجموعات القصص القصيرة، وعلى الرغم من وجود أسماء بارزة ومستمرة منذ سنوات إلا أن هذا لم يمنع من ظهور أسماء جديدة، ربما كان لها نتاجا مهما خلال السنوات الخمس الماضية إلا أنها تتقدم بقوة على مستوى الإنتاج الإبداعي والنشر، ولعل أسماء مثل سوسن الشريف (واحة الهروب – مجموعة قصصية ذات وحدة موضوعية تدور حول الحب والزواج وتشريح كامل لهذه العلاقات بلغة سهلة، ومقاصد واضحة وقدرة كبيرة على المفاجآت، وحكايات من الواحات – من أدب الرحلات وهو عمل نادر استغرق الكتاب 13 شهرا من يناير 2022 وحتى فبراير 2023، كتابة وأسفارا بين القاهرة والواحات، وتصويرا لكل شيء هناك وخرجت بقائمة من 44 حرفة شعبية تكاد تندثر، إنه مجهود ضخم للغاية يقع في 408 صفحات من القطع المتوسط مزود بعشرات اللوحات الملونة.
وأليس جابر (خليل المخاوي – مجموعة قصصية) وكل قصة من قصص أليس القصيرة تمثل عالما قائما بذاته إذن كيف يمكن تفسير العالم في قصة قصيرة؟
العالم ضيق بالنسبة للمجرة والكون وتضيق مساحة الكلمات في القصة القصيرة في مقابل الرواية واللغة، وعالم أليس مترامي الأطراف يحمل في طياته كل المفاجآت الممكنة، ومع اتساع المعرفة يضيق العالم الذي كنا نعرفه والذي كان يعتمد بشكل شبه كلي على الخيال.
كما تقدم مي مختار (قلبي مليان بحكايات – مجموعة قصصية)، حكايات مي مختار تتضمن خمساً وعشرين حكاية، قصصا قصيرة عن الحياة في الجمالية خلال النصف قرن الماضي، وهذا هو العمل الثالث لمي وهو أكثر نضجا بكثير من سابقيه، لقد تماسكت النصوص وأصبح هناك خط واضح لكتاباتها، معجونة بتفاصيل الأحداث والعادات والتقاليد وثقافة الأسرة المتوسطة في قلب مصر العتيقة) وآمال الشريف (ثلاث درجات للأسفل – مجموعة قصصية عن العلاقات النسائية والحياة الاجتماعية ولا يمكنني اختزال هذه المجموعة بتلك الكلمات التي قد لا تعني شيئا، لكن مثلا إحدى قصص المجموعة والتي عنونتها باسم(أرجوحة) تدور حول فتاة تود أن تسمع حبيبها وهو يقول لها أحبك أثناء طلوع الأرجوحة إلى الفضاء ونزولها، فكانت غير متأكدة أنه قال ذلك ولشدة رغبتها في سماعها تكرر طلبها أن يردد الكلمة إلى أن تحدث مفاجأة صادمة في نهاية القصة أتركها للقارئ).
هذه الأسماء قد لا تكون أسماء معروفة بشكل كبير، لكنها تتقدم بقوة تحت سماء الإبداع، وفي مجال الرواية سنجد أسماء بعضها بدأ الكتابة متأخرا، لكنهم يتركون أثرا طيبا في القراء مثل العمل الأخير لصفاء النجار بعنوان (مقامات الغضب) وهي روايتها الثالثة وبعد صدور ثلاث مجموعات قصصية لها، وهي رواية عن الأحداث الأخيرة في مصر وبين ما هو سياسي واجتماعي تجتاح الرواية جو المغامرة وبين الشك واليقين تدور أحداثها، منى عارف وروايتها البديعة (مقاعد مخصصة للسيدات) وهي رواية تتناول العلاقة بين الابنة والأم والحفيدة.
تبدو فيها منى عارف أقرب إلى نموذج فيرجينيا وولف في استخدامها لتيار الوعي، وسحر السلاموني (الطريق إلى العشق – رواية) وتجمع فيها الدكتورة سحر بين سيرة الحكاية وحكايات المغتربين ومشكلات تأقلمهم مع العوالم الجديدة، وهناك أسماء مخضرمة تكتب منذ سنوات وتحقق إنجازات مهمة في القصة القصيرة والرواية على رأسهم الكاتب صابر رشدي بمجموعته الجميلة (لكي أحتفظ بكفي دافئة) والكاتبة انتصار عبدالمنعم (الحائزة على جائزة عبد الحميد شومان في الرواية عن روايتها نخلة شافع حكاية البحر والبحيرة) كذلك يظهر في الصورة هذا العام الكاتب الكبير المخضرم فتحي إمبابي بروايته (رقص الإبل) وهي يستكمل بها خماسيته التي سيكتب آخر حلقاتها في القريب، وحصدت جائزة ساويرس هذا العام، والمخضرمة سلوى بكر (حاصلة على جائزة الدولة في الرواية) بروايتها البديعة (فيلة سوداء بأحذية بيضاء) وهي تتناول حقبة السادات ومبارك والتحولات التي واجهت المصريين كما صدر للكاتبة الكبيرة هالة البدري رواية بعنوان (الهامسون) عن مصر في عصر الانفتاح وتغيرات المدينة والقرية في مصر والمتألقة ريم بسيوني (الحائزة على جوائز مصرية وعربية وعالمية)، صدر لها رواية عن التصوف وهي عن حياة وآلام وتجليات الإمام الغزالي بعنوان (الغواص) والكاتب المهندس علي حسن (الحائز على جائزة اتحاد الكتاب في الرواية عن روايته الأخاذة مي زيادة وله مجموعة قصصية في غاية الأهمية هي حشرات سوداء، وتمتلئ بالقصص التي تحمل طابعا اجتماعيا وإنسانيا مثل امرأة وأم سيد ولذة البؤس وحشرات سوداء، ومن كبار الكتاب أيضا محمد إبراهيم طه (حاصل على جائزة الدولة في الرواية) بروايته استديو الحجاز التي تتعرض كذلك للسبعينيات وعصر الانفتاح وماحدث فيه.
وكذلك الكاتب منير عتيبة (حاصل على جائزة الدولة) في عمله الأخير رواية (حكايات عزيزة) حيث يقدم تجربة جديدة في الشكل الروائي بحيث يمكن للقارئ قراءة الرواية من أي فقرة يختارها، وأيضا الكاتب محمد الفخراني الذي حصل على عدة جوائز مصرية كان آخرها رواية (غداء في بيت الطباخة) التي حصدت جائزة معرض الكتاب 2024، وكذلك الكاتب حسين عبد الرحيم (حاصل على جائزة الدولة التشجيعية) الذي صدرت له مجموعة قصصية بعنوان (يجري في ملابسه كالضليل وتتميز أعماله باستمرار مساءلة الماضي، ورواية شقي وسعيد التي صدرت منها طبعتان، وحمدي الجزار الحائز على عدة جوائز في الرواية كان آخرها رواية (العروس)، و الكاتب أشرف الخضري الذي قدم العام الماضي قصة قصيرة بعنوان التفاحة الضائعة فازت بجائزة يوسف إدريس، وأصدر هذا العام رواية للفتيان بعنوان رسول جان جاك.، وبشكل عام يعد الخضري كاتبا بشبه تشيخوف في أعماله إلى حد كبير.
إنتاج بعض دور النشر المصرية:
كما ظهر هذا العام أعمال في غاية الأهمية عن دور النشر المصرية، فقد أعادت الهلال إصدار كتاب شخصية مصر لجمال حمدان في أربعة مجلدات، ومصر المجاهدة في العصر الحديث لعبد الرحمن الرافعي في أربعة مجلدات، بجانب الإصدارات من روايات الهلال وكتاب الهلال مثل مغامرات مستر بيكويك لتشارلز ديكنز، وأيامه الأخيرة لحلمي سلام، وأنور السادات: قصة الايمان بالعسكرية المصرية لحمدي لطفي، أما دار العين ظهر عنها أعمال مهمة وفارقنا هذا العام مثل رواية ربع رزة لشيماء غنيم وعازف التشيللو لشيرين فتحي واحتمالات لانهائية للغياب لآية طنطاوي، دار العربي أصدرت كتبا مهمة للغاية على رأسها الروبوتات القاتلة واستخدامها في حروب المستقبل، والصراعات في المنطقة العربية بين أمريكا والصين وعدة ترجمات لروايات عالمية مثل أبيض كالثلج وهي رواية من أيسلندا وفرقة الأرامل رواية من السويد، بينما تقدم المصرية اللبنانية أعمالا جديدة مثل رواية ظننته فيصل للكاتبة عبير حامد، وللمصرية نهلة كرم تقدم رواية خدعة الفلامنجو كما تقدم أيضا رواية صيف سويسري لإنعام كجه جي، وكذلك المجموعة التي كتبها المستشار أشرف العشماوي بعنوان لافت هو مواليد حديقة الحيوان.
إنتاج المؤسسات العربية والدولية:
عن الاتحاد العربي للمكتبات صدر الدليل العربي لتكامل مؤسسات ذاكرة المجتمعات: المكتبات والأرشيفات والمتاحف ومتطلبات التحول الرقمي للدكتور شريف شاهين كما صدر عن منظمات إقليمية كتاب المنتدى العربي الثاني لتعزيز الشفافية والحكم الرشيد، والتقرير السنوي لبرنامج المناطق المحررة .
أهم كتب عام 2024 من الكتب:
وعن النشر أعتبر أهم كتابين صدرا هذا العام كتاب الحرب War لمؤلفه لبوب وودوورد والذي تحدث فيه عن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الحرب على غزة، والكتاب الثاني هو نهاية المعرفة The End of Knowledge وهو يحدد أن المعرفة القادمة هي معرفة الآلات وليس البشر، وهو كتاب في غاية الأهمية لكل القراء المهتمين بتطورات المستقبل حيث يجيب على مجموعة كبيرة من الأسئلة المستقبلية مثل هل يمكن للآلات والذكاء الاصطناعي أن ينتجا معرفة جديدة؟ وهل ستكون هذه المعرفة معرفة مقدمة عما ينتجه البشر والتي اضطلع الانسان بتقديمها عبر 6 ملايين سنة من الوجود الإنساني على الأرض؟ والكتاب للباحث ورجل الأعمال دافيد فيفانكوس سيريزو وصدر بالولايات المتحدة.
كتاب ومؤلفون رحلوا عام 2024
لا يمكن أن أنهي جولة ما صدر عام 2024 دون أن ننعي لكل القراء رحيل أربعة من أهم كتاب وشعراء وعلماء مصر فمن أعمدة القصة القصيرة الراحلين سعد الدين حسن وشاعر العامية والأغنية المصرية بخيت بيومي والشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة من رواد شعر التفعيلة ومن المؤثرين في أجيال شتى من الشعراء وأستاذ نظم المعلومات الدكتور محمد الهادي الذي أضاف للمكتبة العربية الكثير، ورحيل الكاتبة سكينة السادات.